-
الحوادث وأهمية الأخوة الإنسانية
كنت كسائر الملايين الذين تابعوا قصة الطفل المغربي «ريان» خصوصًا لحظاتها الأخيرة. ووقفت على مدى الاهتمام الواسع الذي حظيت به من قبل وسائل الاعلام المغربية والعالمية التي نقلت بث مباشر لها. وصور الحشود الكبيرة التي تجمعت في مكان الحدث لمتابعتها. وما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي من اخبار وصور. وتعاطف وتفاعل المجتمعات العربية مع تلك القصة الإنسانية التي انتهت نهاية مأساوية وحزن عليها كل من تابعها.
والحقيقة إن القصة لفتت الانتباه إلى مشكلة الآبار والصرف الصحي التي تحفر بطرق عشوائية. وعدم اتباع إجراءات السلامة اللازمة بوضع سياج أمان حولها للوقاية من السقوط فيها. فضلًا عن ترك الآبار الجافة مفتوحة دون تغطيتها أو ردمها مما يعرض لخطورة السقوط فيها. كذلك أهمية نشر الوعي بين السكان في القرى والارياف بمدى خطورة حفر الآبار وتركها مفتوحة.
بالإضافة إلى تسليط الضوء على فاعليه شبكات التواصل الاجتماعي. فلقد كان أول من أثار ولفت انتباه العالم لقصة الطفل «ريان» وحفز على متابعتها هم نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي. الذين جلبوا انتباه وسائل الإعلام المحلية والعالمية بنقل العديد من الوقائع في حينها. رغم وجود بعض المستخدمين الذين لم يكونوا موضوعيين وبالغوا في نقل الأخبار من أجل الشهرة والسبق.قصة الطفل ريان
كان الطفل «ريان» ذو الخمسة أعوام من قرية «إغران» التابعة لمدينة شفشاون شمالي المغرب. قد سقط أثناء لعبه أمام منزله ظهر يوم الثلاثاء 1 فبراير2022. في بئر عمقها 32 مترًا حفرها والده بحثًا عن الماء. وعندما لاحظت أسرته اختفاءه بحثت عنه، فاكتشفت انه سقط في البئر. فحاولت إنقاذه بكل الوسائل المتاحة لديها، ولكن دون جدوى. فاستنجدوا بالأهالي والسلطات التي أرسلت فريقًا للإنقاذ. وأول ما قاموا به إنزال كاميرا إلى داخل البئر للتأكد من وجود «ريان» بداخله. فتبين لهم بأنه حي وواعي وأنه مصاب بإصابات طفيفة في رأسه.
وقرروا حفر حفرة موازية على بعد 8 أمتار من فتحة البئر تفاديًا لانهيارها. كحل بديل عن توسيع فتحة البئر نظرًا لهشاشة التربة. ثم حفر نفق أفقي للوصول إليه. وتم إنزال أنبوب أكسجين إلى داخل البئر وأخر للماء وتعذر التأكد من قدرته على استخدامها.
وفي الوقت الذي ساد فيه الاعتقاد بأن المهمة على وشك الانتهاء. اضطر فريق الإنقاذ لتبطيء الحفر داخل النفق بسبب مخاوفهم من انهيار التربة. واصطدامهم بصخرة تطلب هدمها 3 ساعات متواصلة بالحفر يدويًا. وواجهوا خطر الإغماء بسبب ضعف الأكسجين داخل النفق.
وفي اليوم الخامس من الحفر (السبت 5 فبراير) استطاعوا الوصول إليه وإخراجه حيًا من البئر. وبحسب ما نقلته وسائل الاعلام المغربية. بان إخراجه قد تم بعد توقف أعمال الحفر اليدوية. ودخول فريق طبي يرأسه طبيب مختص في الإنعاش وممرضين إلى داخل النفق الذي كان يوجد به «ريان».
وقد علت أصوات المحتشدين بالتصفيق والتهليل والتكبير، وعبّر المتابعون على شبكات التواصل الاجتماعي في المغرب وخارجه عن ابتهاجهم بإنقاذ «ريان».
وخلال دقائق تحول ذلك الابتهاج إلى حزن عقب صدور بيان رسمي بوفاة ريان. ونقل جثمانه بمروحية طبية إلى المستشفى العسكري في العاصمة المغربية «الرباط». وأصدر الديوان الملكي تعزية باسم الملك محمد السادس لوالدّي الطفل. وصلى عليه جموع من المصلين صلاة الميت في قريته.قصص مشابهه
لقد ذكرتني قصة «ريان» بقصص مشابهه صادف أن تابعتها في حينها عبر القنوات الإخبارية العالمية. وانتهت بنهايات سعيدة على العكس من قصة «ريان». منها قصة الطفلة «جيسيكا ماكلور» «Jessica McClure» ذات الـ 18 شهرًا (المولودة في 26 مارس 1986م). التي سقطت في بئر عرضه 20سم وعمقه 6.7م، بحديقة منزل خالتها الخلفية ببلدة ميدلاند بولاية تكساس الأمريكية (14 أكتوبر 1987م).
وغطت كبرى وسائل الاعلام الأمريكية قصتها. على مدى الـ 56 ساعة التي عملت فيها فرق الإنقاذ جاهدة على إخراجها من البئر. بحفر حفرة رأسية على بعد 5 أمتار من موقع البئر بعمق زاد عن مكان سقوط الطفلة. ثم حفر نفق افقي من تحتها والوصول اليها وسحبها ثم إخراجها على قيد الحياة.
وكانت الطفلة مصابة في إحدى ساقيها إصابة بليغة. وقرر الأطباء أنها تحتاج لبترها. لكن طبيب آخر استطاع مع فريقه اجراء عملية معقدة لساقها تم بموجبها ترميم الساق واعادته الى طبيعته. دون الحاجة إلى بتره. باستثناء فقد أحد أصابع قدمها. وحظيت واسرتها باهتمام بالغ واستقبلها الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب في البيت الأبيض. وحُولت قصتها لفيلم تلفزيوني. انتجته محطة شبكة ABC عام 1989م بعنوان “طفلة الجميع: إنقاذ جيسيكا ماكلور”. وانتقد البعض آنذاك أسلوب التغطية الإعلامية للحادث ورأوا بانها أشبه بالسيرك الإعلامي. وفي العام 2013م حينما بلغت الـ 30 من عمرها. استضافتها عدد من شبكات التلفزيون الأمريكية للتحدث عن قصتها. منهم المذيعة الأمريكية اوبرا وينفري على برنامجها الشهير «Oprah Winfrey show».
كذلك قصة الطفل الهندي الذي سقط في بئر في مدينة هيسار شمال غربي الهند (2019)، وهو في عامه الأول. حينما كان مع أمه التي كانت تجمع الفاكهة. وتم إنقاذه من قبل فرق إنقاذ مختصة. بإرسال جهاز تعقب لتحديد موقعه. وإلقاء أنابيب اكسجين لمساعدته على التنفس، كما أنزلوا له البسكويت والعصائر. وقاموا بحفر بئرًا أخرى على بعد 6 أمتار، بالتوازي مع البئر الأصلي. ثم الحفر يدويًا للوصول الى الطفل، وتم إخراجه حيًا وقدمت له الرعاية الطبية اللازمة.
عمليات إنقاذ نموذجية
أ. منجم تشسلي
وقعت حادثة انهيار تربة منجم سان جوسيه للتنقيب عن النحاس والذهب في كوبيابو بصحراء أتاكاما شمال تشيلي (5 أغسطس 2010م) وترتب عليه احتجار 33 عامل (32 تشيلي + ا بوليفي) على عمق 700م تحت الأرض لمدة 69 يومًا كان أكبرهم 65 عام وأصغرهم 19عام. ولعب ملاحظ الوردية لويس أورزوا دورًا هامًا في مساعدة زملائه على تحمل أول 17 يوم من الانقطاع عن أي تواصل بالعالم الخارجي.
وبذلت حكومة تشيلي قصارى جهدها لإنقاذ المحتجزين، بدعم ومساندة قوات وفرق متخصصة من أكثر من بلد في العالم، وتم التمكن من الاتصال بالمحاصرين لأول مرة بعد 18 يوم (23 أغسطس)، واتضح أن لديهم بعض المشاكل الصحية.
وصرح الطبيب المسؤول عن عملية الإنقاذ لوسائل الإعلام في حينها بان المشاكل التي يعانون منها أقل من المتوقع قياسًا على مدة بقائهم داخل منجم بعمق 700 متر في درجات حرارة ورطوبة مرتفعة.
تم حفر ثقب عرضه 10سم من سطح الأرض إلى المكان الذي تجمعوا فيه واستخدامه لتزويدهم منه بالهواء والمياه والطعام، ومحلول الجلوكوز 5٪، ودواء لمنع قرحة المعدة الناتجة عن الحرمان من الطعام، وأقراص الإماهة، والأدوية، والاكسجين. وتم تصميم كبسولة معدنية قطرها 53سم متصلة برافعة صُممت خصيصا لإخراجهم من المنجم كل على حدة عبر حفرة حُفرت للكبسولة. وتم إنزالها مرتين فارغة كتجربة للتأكد من سلامة العملية.
وبحضور الرئيس التشيلي سبيستيان بينيرا وزوجته وعائلات العمال المحتجزين وكبار المسؤولين في اليوم الـ 67 (12 أكتوبر) بدأ إنقاذ العمال، وقسموا إلى ثلاث مجموعات الأولى الأقوياء صحيا وبدنيا، والثانية الضعفاء، والأخيرة الذين يعانون من أمراض ومشاكل صحية.
وكان أولهم خروجًا هو فلورينسيو أفالوس 31 عام في تمام الساعة 12:11 بعد منتصف الليل حسب التوقيت المحلي. تبعه بساعة زميله ماريو شيبالفيدا 40 عام. واكتملت عملية الإنقاذ التي استمرت 22 ساعة بانتشال جميع العمال بسلام. وسجلت تلك الحادثة بانها أطول مدة بقي فيها عمال محاصرين في منجم على قيد الحياة. وفي عام 2015م تم إنتاج فيلم عن الحادثة باسم “the 33”.ب: فريق الناشئين التايلندي
كذلك قصة فريق الناشئين لكرة القدم (12 لاعب أعمارهم بين 11- 16 عام) مع مدربهم. احتجزوا في كهف ثام لوانغ نانغ نن بمحافظة تشيانغ ري التايلندية لمدة 18 يوم (23 يونيو 2018م) بسب ارتفاع منسوب المياه داخل الكهف نتيجة هطول أمطار غزيرة. وبُلغ عنهم كمفقودين ورجح أنهم عالقين داخل الكهف بعد العثور على متعلقات لهم بجانبه. وتعذر تحديد موقعهم والتواصل معهم لأكثر من أسبوع.
قامت الحكومة بجهود مضنيه لإنقاذهم بمشاركة أكثر من 1000 شخص، منهم البحرية التايلاندية وفرق متطوعة ومتخصصة من (أستراليا، إسرائيل، أمريكا، أوكرانيا، بريطانيا، روسيا، السويد، الصين، فنلندا، لاوس، ميانمار) وسط تغطية إعلامية مكثفة واهتمام من العامة.
وبجهد من فرق الغواصين اكتشفوا بأن كافة المفقودين على قيد الحياة قابعين على صخرة عالية ترتفع حوالي 4 كم (2.5 ميل) عن ثلمة الكهف.
وأعلن وزير الدفاع التايلاندي الجنرال براويت ونجسوان في 5 يوليو 2018م بأن صاحب الجلالة يتابع عن كثب عملية إنقاذ الأطفال الذين تم العثور عليهم. ويعرب عن قلقه إزاء احتمال زيادة كثافة هطول الأمطار التي قد تسبب فيضانات جديدة في الكهف. وزار رئيس الوزراء التايلاندي برايوت تشان أوتشا موقع البحث والإنقاذ يوم السادس وحثَّ عائلات الصِبْيَة المفقودين على عدم فقدان الأمل في إنقاذ أبنائهم.
ولقي عامل إنقاذ تايلندي «سامارن بونان» حتفه في محاولة لوضع أسطوانات أكسجين في طريق خروج محتمل.
وبدئت عملية الانقاذ في الثامن من يوليو بـ 13 غواص باستخدام «نظام الرفيق»، أخرجوا اثنين من اليافعين الأكثر عافية ونقلهم الى مستشفى تشيانغ ري الإقليمي، أعقِبهم بوقت وجيز إخراج أثنين آخرين وتم رعايتهم طبيًا خارج الكهف. وتوالت العملية التي انتهت بإخراج الباقين سالمين في العاشر من يوليو.
وتعاطف السكان مع الحدث بالقيام بالطبخ والتنظيف وغيرها من أشكال الدعم لعائلات الفتيان المفقودين وفرق الإنقاذ في المعسكر الذي أُقِيم عند فوهة الكهف. كما وظِفتْ وسائل التواصل الاجتماعي للفت الأنظار تجاه محاولات الإنقاذ. وتبرعت المدارس المحلية بالمال لأسر الصِبْيَة الذين تعطلت أعمالهم بسبب انشغالهم في متابعة عملية الإنقاذ.الأخوة الإنسانية
وما يثير الإعجاب من تلك القصص هو التكاتف والتضامن والتكافل الاجتماعي الذي حظيت به وتجسيد معنى الأخوة الإنسانية التي نادت بها الأمم المتحدة منذ العام 2020 من خلال إعلان اليوم الدولي للأخوة الإنسانية في الرابع من فبراير من كل عام.
ودعا ممثلها السامي لتحالف الحضارات ميغيل موراتينوس في كلمته لمناسبة هذا العام “طريق إلى المستقبل” إلى العمل بروح التضامن لبناء عالم أفضل قائلا “عملا بروح هذا اليوم، دعونا نعمل معا بروح التضامن لبناء عالم أفضل في إطار ثقافات متعددة، ولكن إنسانية واحدة”.
والأهم من ذلك كله أهمية تطوير فرق متخصصة في عمليات الإنقاذ المعقدة وضرورة التعاون الدولي في هذا المجال أثناء الحوادث.
ومن اللافت للنظر هي مشيئة الله بان يكون للطفل «ريان» ابن قرية «إغران» التي لم يسمع بها أحد إلا أهلها ومن لهم ارتباط بها في تجسيد معنى الأخوة الإنسانية في يوم احتفال الأمم المتحدة به سيما وإن العالم منشغلًا عن معاني الأخوة الإنسانية بهمومة المرتبطة بالحروب، والاضطرابات، وتقلبات المناخ، والجوع، والفقر.. الخ. وأختم دردشتي بأبيات من قصيدة مدرسة الحياة – للشاعر اليمني الكفيف عبد الله البردوني (رحمه الله)
قم يا صريع الوهم واسأل بالنهى *** ما قيمة الإنسان ما يعليه
واسمع تحدّثك الحياة فإنّها *** أستاذة التأديب والتّفقيه
وانصب فمدرسة الحياة بليغة *** تملي الدروس وجلّ ما تمليه
سلها وإن صمتت فصمت جلالها *** أجلى من التصريح والتنويه -
«أحلام الربيع» انطلاقة الأدب الحديث في بلادنا
نشرت هذا المقال على صحيفة غرب الإخبارية في 23-03-2021
تحتفل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «يونسكو» بـ «اليوم العالمي للشعر» في 21 مارس من كل عام وذلك منذ العام 1999م بهدف دعم التنوع اللغوي، ومنح اللغات المهددة بالاندثار فرص أكثر لاستخدامها في التعبير. وتعتبره فرصة لتكريم الشعراء وإحياء التقليد الشفهي للأمسيات الشعرية.
وفي هذا السياق أغتنم الفرصة لتسليط الضوء من خلال هذه السطور المضيئة على قصة تجربة نجاح أول ديوان شعر يطبع في تاريخ المملكة العربية السعودية «أحلام الربيع» لصاحبه الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري. وهو أول ديوان شعري يصدر له، وذلك بهدف توثيق جانب من تاريخ بدء الحركة الأدبية الحديثة في بلادنا وإبرازها بصورة تليق بها وبأحد روادها الأديب الزمخشري الذي عده الكثير من الأدباء والنقاد مثل د. إبراهيم ناجي وحسن كامل الصيرفي وأحمد عبد الغفور عطار وغيرهم بأنه أحد بناة الأدب الحديث في المملكة ومن الشعراء المحدثين كالشاعر الأموي (عمر بن أبي ربيعة) في زمانه.مقتطف خاتمة كلمة الأديب أحمد عبد الغفور عطار في ديوان أحلام الربيع أحلام الربيع
صدرت الطبعة الأولى للديوان بمصر في النصف الثاني من عام 1946م – 1365هـ من96 صفحة مقاس 14 × 20سم وأعادت دار تهامة للنشر إصداره ضمن مجموعة النيل في العام 1984م -1404هـ. بإهداء إلى الأديب د. محمد حسين هيكل باشا، الذي وصفه الزمخشري بأديب العربية الأول وكاتبها العبقري الكبير، اعترفاً له بالجميل على فضله في تقديم آثار البلاد المقدسة للعالم العربي.
ويصنف الديوان ضمن الشعر العربي الفصيح ومعظم قصائده من الشعر الوجداني الغنائي الذي يمكن أن يتغنى به على حسب المناسبات. ويحوي بين دفتيه (44) قصيدة في المدح، والفخر، والغزل، والرثاء وغيرها من الألوان الشعرية. ومن تلك القصائد: في محراب الخيال، خاطرة قال وقلت، أغاني الربيع، القلب الطائف، حمامة السلم، ثورة نفس، حيرة، اين الصديق، عودة الصقر، بنود الإخاء، دعوة الحق، النصر للحق، مسرح الخيال أنا والطير، في روضها، مناغاة، نجوى، محاورة مع الطيف، حالان، وردة الحب، تغريدة، خاطرة في الترام، السينما، صوت القلب، دمعة حزينة.
والواقع بحسب رأي النقاد فإن الديوان يعتبر عقداً من الجواهر الثمينة فقد قال د. جبران بن سلمان سحّاري عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ومؤسس مدرسة الميزان للنقد الأدبي في الرياض في دراسة تحليلية للديوان نشرها في مجلة فكر الثقافة (2018/02/11هـ) إن الديوان “كنز أدبي عظيم. وإنك لتعجب ـ أيها القارئ من جرس الألفاظ الذي قرع سمعَك لأول وهلة، ناهيك عن جمال الأسلوب، وجودة المضمون، وحسن السبك، والأصالة الشعريّة”. وخلص فيها إلى أن “التحليلُ الحقيقي يحتاجُ إلى سِفْر ضخم تصعبُ الإحاطة به، ومن عجيبِ الموافقات أنه بدأه بالتحية الدالة على الحياة، وختمه بالرثاء الذي يدل على الموت!
تأمل في مطلع قصيدتِه الأولى (تحية الملكين) وانظر ماذا فيه:
في مـوكب اليُمنِ والإقبال تاجـانِ وفي سماء العلا والمجد شمسانِ
كذا فلتكن المطالع دائمًا حيث التألق في سماء الإبداع، وسمو التعبير. تأمل هذه الألفاظ (الإقبال) و(تاجان) و(سماء العلا) و(المجد) و(شمسان)! وهكذا كل القصيدة.
ثم ختم هذا الديوان العجيب بقصيدةٍ في رثاءِ والده عنوانها (رثاء) ومطلعها:
لـم يـعـدْ قـبره الـفـسـيـحُ ترابا بعد أن صار في ثراه وذابا
ضـمّ جـثمانـــه فـأصـبح كــنـزًا واستحالَ الترابُ تبراً مــذابا
صافحَ الموتَ باسـمًا وبشوشًا ودعــاه إلــهُـهُ فــأجــــابـا
وتأمل التصوير في قوله: (صافح الموت) واخر بيتٍ فيها وهو آخرُ بيتٍ كذلك في الديوان طابق فيه بين الموت والحياة فقال:
فـلــئن مـاتَ إنني سوفَ أحيي ذكـريـاتٍ عن الفـقيدِ عِذابا”.
وكان الأديب المصري حسن كامل الصيرفي أحد مؤسسي جماعة أبولو الشعرية الذي قدم للديوان قد لفت لميزة الشاعر في اهتمامه بالصور الفنية الحية في شعره فجميع صوره تزخر بالحركة مستشهداً بقصيدته في «المحراب» التي يقول فيها
أشـعـلـــتْ جـــذوةَ الغــــرامِ وأروتْ ضمــأ النفــــسِ بالرضــابِ البــرودِ
وتهــــادَتْ فـــأيقظــــــتْ بفـــــؤادي ذكــريــاتٍ ثـــارتْ بـــه مــن جديــدِ
وتبــــدتْ فخـلتُـــــه فلــــقَ الصبـــــ ـــــــح تجلــــى بحسنـــه المشهـــودِ
عربد السحرُ في اللحاظِ وقام الحســ ــــــنُ يلهـــــو بــوجنـــــةٍ وبجيـــــدِ«مجموعة النيل» 1404هـ/ 1984م وهي مجموعة الدواوين التي أصدرها في مصر سيد قطب وفكرة الديوان
وردت فكرة طباعة هذا الديوان خلال أول رحلة عمل للأديب «طاهر زمخشري» إلى جمهورية مصر العربية برفقة أمين العاصمة سعادة الشيخ عباس قطان رحمهما الله حينما كان يعمل سكرتيراً له في منتصف اربعينات القرن الماضي فقدمه لكبار الأدباء المصريين وعلى راسهم وزير الأوقاف المصرية آنذاك «دسوقي أباظة باشا» ورئيس رابطة الأدب الحديث في مصر، الذي كان راعياً للأدباء في مصر وله تاريخ مع الحركة الفكرية فيها. وعندما التقى به وبعدما تعارفا قال الزمخشري: “إني أقرأ كثير عن الأدب المصري، وأعرف الكثير من عادات المصريين وتقاليدهم من خلال قراءاتي للصحف والمجلات المصرية”. فدعاه لزيارة رابطة الأدب الحديث.
وتصادف في تلك الفترة تواجدُ الأستاذ عبد القدوس الأنصاري والأستاذ أحمد عبد الغفور عطار في مصر فاجتمعوا سوياً وقدموه لعمالقة الأدب والشعر في مصر وعن ذلك روى رحمه الله “كنت أهرب من الشيخ عباس، وأذهب للبحث عنهما.. وكان الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار أكثرنا نشاطاً وحركة وقد كان دليلنا إلى معرفة كثير من الأدباء في مصر، وممَّن عرفنا من الأدباء المصريين آنذاك الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – قبل أن يتجه الاتجاه الديني.. وكان بيننا مناقشات حادة نحاول فيها بشتى الطرق والأدلة أن نقنعه بصحة المسائل الدينية، وبمعرفته استطعنا أن نتعرَّف على الأطياف الأربعة كما يسمّيهم، والأطياف الأربعة هم: السيد قطب، وأخوه محمد، وأختاه. وقد صدر أول أثر أدبي لهم بعنوان “الأطياف الأربعة”. – توثَّقت علاقتنا بالأستاذ سيد قطب، واصطحبناه معنا إلى الإِسكندرية وذكر لنا أن هذه هي الزيارة الأولى التي يقوم بها إلى الإِسكندرية. وبعد عودتنا إلى القاهرة، أطلعته على ديواني “أحلام الربيع” وبعدما قرأه، قال: – هذا جيد لماذا لا تطبعه؟ فأشعل بذلك الحماس في نفسي للقيام بطبعه، وبدأت المفاوضات مع أصحاب المطابع للاتفاق، غير أن النقود التي معي قليلة.. وكنت أحتاج لبعض النقود لعلاج عيني، ووقعت بين خيارين إما طبع الديوان، أو علاج عيني، ففضلت أن أطبع الديوان على أن أعالج عيني، ونفدت النقود التي معي قبل الانتهاء من طبع الديوان، …وأشار علي الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار أن أقترض من الأستاذ إبراهيم شاكر الذي كان موجوداً في ذلك الوقت بالقاهرة بعضاً من المال لأكمل طبع الديوان، ترددت بادئ الأمر لكنه ألحَّ عليَّ كثيراً حتى اقتنعت وكتبت رسالة للأستاذ إبراهيم شاكر أوضحت فيها أنني شاب سعودي أفكر في طبع ديواني، وأني في حاجة إلى مبلغ خمسين جنيهاً تكملة تكلفة طبع الديوان.. أرجو التكرم وإقراضي المبلغ، وسأعيده لك عندما أعود إلى الوطن. وطلب الأستاذ إبراهيم شاكر مقابلتي، وحين تشرَّفت بمقابلته، سألني عن الشخص الذي كتب الرسالة بقوله: – هل أنت صاحب هذه الرسالة؟فأجبته بالإِيجاب، فسألني قائلاً: وأين ديوانك؟ فأجبته: في المطبعة، امتنع المسؤولون بها عن إكمال طباعته إلاًّ إذا أحضرت لهم نقودهم. فأعطاني الخمسين، وقال لي: إياك أن تضيِّعها. شكرته وانصرفت وأنا أحدِّث نفسي متسائلاً: كيف أضيّعها، وأنا الذي فضَّلت طبع الديوان على علاج عيني؟.
ومن الطرائف التي صادفتها في تلك الرحلة أنني ذات يوم، وأنا في طريق عودتي من المطبعة إلى مقر سكني، وقفت عند أحد المحلات لتناول كأس من عصير القصب، وكنت أحمل بعض كراريسي من الديوان في طبعتها الأولى لإِجراء التصحيحات اللازمة، وجلست على إحدى المناضد وطلبت من صاحب المحل كأساً من عصير القصب، وعندما قدَّم لي كأس العصير أبصر في يدي الديوان، وأنا منهمك في قراءته، ونظر إلى الديوان. فقال لي: هل تسمح لي بما في يدك لأرى ما به؟ فأعطيته إياه، وقلت له متسائلاً: هل تقرأ الشعر؟ فلم يجبني، وأخذ يقرأ في الديوان، ثم قال: لمن هذا الشعر؟ قلت له: هذا شعري، فقال: إن هذا الشعر جيد، ثم دعاني داخل المحل خلف ستارة تفصل بين مرتادي المحل واستراحة صاحبه.
فما أن دخلت حتى رأيت مكتبة كبيرة، تحتوي على مجموعة كبيرة من الكتب. وقال لي بائع القصب: إنني أعد في الوقت الحاضر بحثاً علمياً لأنال به درجة الدكتوراة في الحقوق.. لقد توفي والدي فجأة وترك هذا المحل، وأنا أعمل به لأرعى إخوتي، وفي نفس الوقت أعد البحوث اللازمة لرسالة الدكتوراة. كلما أبصرت إلى ذلك سبيلاً. لقد أعطتني قصة هذا الرجل عبراً جمة، وبعثت في نفسي الثقة والطموح وحب العمل في سبيل الحصول على بلوغ المرام، وقامت بيني وبينه صداقة دامت وقتاً طويلاً، وكنا نتبادل الرسائل”.العطار وتأكيد أولية الديوان
يعتبر ديوان «أحلام الربيع» أول ديوان شعر يطبع في تاريخ المملكة العربية السعودية وبه انطلقت حركة الأدب الحديث وعن ذلك قال الأديب أحمد عبد الغفور عطار رحمه الله في كلمته بمقدمة الديوان “إن أحلام الربيع كما قلت أول ديوان شعر حجازي يطبع في عصرنا الحاضر، ولهذا انتظر له رواجاً أدبياً يتيح لهذا البلد الذي نشأ فيه شعر الغزل واستقام على سوقه يعجب الشعراء أن يأخذ مكانه في تاريخ الأدب الجديد كما أخذ مكانه في التاريخ القديم، وقد رأيت احتفاء زعماء الأدب في مصر بالشعر الحجازي الجديد ممثلاً في أحلام الربيع وتقديرهم إياه ما طمأنني على أنه شعر رفيع ومكان الزمخشري في الطليعة ولا شك، وهو يعد أحد بناة الأدب الحديث في الحجاز. والغزل كل ما يطَّبيك في أحلام الربيع وغير أحلام الربيع من دواوين هذا الشاعر المطبوع الصادق في شعوره وهو غزل عف فيه حلاوة وخفة وجرس وموسيقى هادئة رفيقة”.
ولهذه الكلمة ذكرى لطيفة رواها الأديب الزمخشري في معرض ذكرياته عن الديوان “بينما كان ديواني تحت الطبع كنت أعتقد أنه أول ديوان سعودي ينشر لكني فوجئت بعزم الأستاذ أحمد عبد الغفور على طبع ديوانه “الهوى والشباب”، وأحسست حينئذٍ أنه سيخطف مني الأضواء، فهو لا يعاني من قلة الفلوس، وسينتهي من طبع ديوانه قبل أن أنتهي من طبع ديواني. فقلت له: ما رأيك يا أستاذ أحمد أن تكتب لي مقدمة الديوان؟ فضحك ساخراً وقال: من أنا حتى أقوم بكتابة مقدمة ديوانك؟ ولكنني حاولت إقناعه حتى وافق على كتابتها وألمحت له أن يذكر فيها أن هذا الديوان هو أول ديوان يصدر في الحجاز في العصر الحاضر.”. وبالفعل كتب المقدمة”.. و”عندما عدنا إلى أرض الوطن، أخبرت الزملاء أني طبعت ديواني، ولكنهم لم يصدقوني. وكان الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار قد انتهى من طبع ديوانه ونشره، كتب بعض الأدباء بالمملكة عنه أنه أول ديوان شعر يصدر بالمملكة. فقلت لهم: هذا غير صحيح، لأن ديواني هو أول ديوان، والدليل هو ما خطه الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار بيده في مقدمة ديواني. فقال الأستاذ أحمد: والله غلبتني، فقد سجلت عليَّ هذه الكلمة ولا أستطيع إنكارها”.
صورة تجمع الأديب طاهر زمخشري وعلى يساره الأديب أحمد عبد الغفور عطار -رحمهما الله- الاحتفاء عربياً ومحلياً بالديوان
عندما صدر الديوان لقي صدًا واسعًا وحظي وصاحبه باهتمام بالغ وحفاوة من قبل كبار الأدباء والشعراء العرب فقد روى الأديب العطار رحمه الله في معرض ذكرياته “عندما التقينا في مصر في رحلته الأولى، وصدر له ديوان (أحلام الربيع)، بعد ديواني، وكتبت له مقدمته وعرفته على أندية الأدب والصحافة، وعلى أساطين الأدب الحديث مثل طه حسين، والعقاد، ومحمد حسين هيكل، وغيرهم. أقامت لي أنا والأستاذ طاهر رابطة الأدب الحديث حفل تكريم، أبان رئاسة الشاعر الموهوب الدكتور إبراهيم ناجي حضر أكثر أعضائه من الرجال والنساء، وافتتح الحفل الدكتور إبراهيم ناجي الذي وصف الأستاذ الزمخشري بأنه (عمر بن أبي ربيعة)، لا في الحجاز فحسب، بل هو ابن ربيعة المعاصر في أدبنا الحديث، وتناول الناقد المعروف مصطفى عبد اللطيف السوني وكيل الرابطة، والأستاذ محمد عبد المنعم خفاجة سكرتير الرابطة في إيجاز كل منهما، شعر الزمخشري وشعري، وأشادا به، وصعدت إلى المنبر أشكر الرابطة على هذا التكريم، وقدمت صديقي الزمخشري الذي جاء بعدي إلى المنبر وواجه المحتفين بتلاوة بعض شعره، كما تلوت بعض قصائدي، وكان نجم الحفل الأستاذ الزمخشري الذي جعل طابع الحفل خفيفاً وظريفاً ومرحاً، وكان الصف الأول خاصاً بالأديبات اللاتي اهتممن به كثيراً. وألقى الزمخشري بهذه المناسبة قصيدة بلادي”.
وبعد عودته إلى مكة حظي بحفاوة وتكريم الأدباء والمثقفين وكان أول من احتفى به جماعة “المسامرات الأدبية” التي كانت تقيمها مدرسة تحضير البعثات كل خميس بجبل هندي، الذين استحدثوا من خلالها فكرة تكريم الأدباء وكان الزمخشري من أوائل من كرموا في تلك الأمسية في حفل متميز روى عنه رحمه الله “من أجمل الذكريات التي أرويها بصفة مستمرة أنني جئت يوم تكريمي في المسامرات الأدبية بمناسبة إصدار ديوان أحلام الربيع فوجدت سبورة كتب عليها: الأستاذ الشاعر طاهر زمخشري، من هو؟ ولما اكتمل عقد الحضور ألقى الأستاذ معالي الشيخ حسن مشاري محاضرة عني بدأها بعبارة ما زلت أعتز بها وأذكرها وأرويها كطرفة هي: طاهر الزمخشري كومة من الفحم السوداء، تلبس ثياباً بيضاء، تقول شعراً قصائدُه حمراء وخضراء وصفراء يعيش على جداول البلدية، وتحت الفانوس “وهذه العبارة الأخيرة إشارة لما كنت أكتبه في تلك الفترة من انتقادات اجتماعية، وملاحظات على جهاز البلدية”. ثم تحدَّث بعد هذا التقديم اللطيف عن ديواني وباكورة إنتاجي “أحلام الربيع” وقدَّم دراسة مستفيضة عنه”.
وهكذا كان صدور ديوان أحلام الربيع بمثابة انطلاقة ناجحة للأديب تبوء بها أرقى المراتب الأدبية في عالمنا العربي ليصبح رائداً للأدب الحديث في بلادنا.
مقتطفات تحليلية للديوان
أحلام الربيع للشاعر طاهر زمخشري دراسة وتحليل – د. جبران بن سلمان سحّاري – مجلة فكر الثقافة
في قصيدته الثانية (أنشودة الملاح) الغوص على المعاني مباشرةً، دون مقدمات؛ حيث التشبيهات البليغة، واسترعاء الانتباه:
الدجى بحرٌ وقلبي سابحٌ وإلى أين سيمضي؟ لستُ أدري!ثم القصيدة الخامسة (يا ويلاه!) يكفيك المطلع، حلاوةَ مقطع، ونفاسةَ منزع، وعذوبةَ مشرع، حيث يقول فيه:
قضيتُ العمرَ أحلمُ بالمحالِ وأدأب في مجالدة اللياليويقول في مطلع قصيدتِه السابعة (القلب الطائر):
قــد أطــلــت بـشـكلــهــا الــخـلاّبِ من جـــوار ِ الـسـمـاءِ عند السحابِ
غـــادةٌ أشــــرقـــت فكانت كـنـجــمٍ ينفث الـسـحـرَ في الضياءِ المذابِ
رفــرف الحبُّ حـولـهـا وســقــاهــا من فـتـونِ الصبا وغـضِّ الشبابِ
تأمل قوله: (أطلت بشكلها) و(الضياء المذاب) و(رفرف الحب) و(غض الشباب) تجد الصور الرائعة، والأسلوب البليغ، والذوق الرفيع.وفي قصيدتِه الثامنة (صوت الصحراء) التي مطلعها:
يا صاحبَ التاجِ فيك اليُمنُ وضّاءُ وفـيـك من ســمـةِ التوفـيق لألاءُ
تجد جزالةَ الألفاظ مع سهولة النظم.بعد ذلك القصيدة العاشرة (جارة العَلَم) وهي من أجمل قصائده يقول في مطلعها:
عرفتُ ذلَّ الــهـوى لم أدرِ عـزّتَه وذقتُ عسف الجوى في ثورةِ الألمِ
تأمل الطباق بين قوله (عرفت) و(لم أدر) وقوله (ذل الهوى) و(عزته) مما يعطي الشعر قوةً ويزيده جمالاً ورونقًا وبهاءً، وذلك دون تكلف للمحسنات البديعية.
وننتقل إلى قصيدة (زفرة) التي يقول في مطلعها:
أغـالك الـيـأسُ أم أودى بك الألـمُ حتى أذابك هذا الحزنُ والسقم؟
فـصرتَ كالظلِّ أضواك الأنينُ وما بين الجوانح إلا النار تضـطرمُ
فما أجملَه من تشبيه! (فصرتَ كالظل أضواك الأنين) وهذا أقصى درجات التعبير عن النحول والذوبان.
بعد ذلك قصيدة بعنوان (شكوى) وهي مملوءةٌ بالحكم يقول في مطلعها:
حـنـانـيـك يا قلبي فـحـسبي مكايدُ وحسبي شبابٌ من مآسيك راكدُ
وما أجمل قوله فيها:
وما تضع الأحداث في قلب شاعرٍ تذوبه الآلامُ والحظ قاعدُ
وقوله:
وإن رام من دنياه فوزًا بمطلبٍ تنكرت الــدنيـا وعــز المـسـاعــدُبعد ذلك تطالع في ديوانه قصيدتين شارك بهما في المسابقة الشعرية التي أقامتها محطة الإذاعة بـ(لندن) عام 1363هـ فنسخ ما تقدَّمه من القصائد!.
القصيدة الأولى بعنوان (الجندي في ميدان القتال) ومطلعها:
بالــــدم الـقـاني وبالجـــســــــم المــــذابِ وبأعــضــاءٍ تلاشـــت في الـتـرابِ
هــتــف الجــنــديُّ في ســـــاح الــوغـى أفــتــدي الحــقَّ بروحــي وشـبـابــي
والثانية بعنوان (دنيا الغد) ومطلعها:
أيقَــظُــوهــا وأشــعَـلُـوهـــا ضِــرامـــــــــا فـمــشــى الـهـولُ صـاخــبـًا يـتـرامـى
فهو دائمًا لا يخلي شعره من الصور الفنية الجميلة، وتلك عادة الشاعر البارع المتألق.وبعد ذلك قصيدةٌ حبلى بالمعجزات بعنوان (ذكريات الصبا) ويكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق؛ يقول في مطلعها:
ذكرياتُ الصبا خطرن ببالي حالماتِ الرؤى كطيفِ الخيالِ
مــشــرقـــــاتٍ كأنــهـن نــجــومٌ قد أضاءت بأوْجِـهــا المتعالي
راقــصــاتٍ كأنــهـن الأمـاني نـاصعــاتٍ كأنــهــن اللآلـــي
فلله دره تأمل قوله (حالمات الرؤى كطيف الخيال) ما أرقه وأجمله وأعذبه!كما نجدُ في هذا الديوان (مداعبات) لخصها في ثلاث وقفات في الوقفة الأولى يقول:
وقـائـلــةٍ: مـا بـالُ عينِك لـــم يبنْ عليها الهوى حتى تُسِيلَ دموعَها
فـقـلـتُ لها: سحرٌ وحسنٌ وفتنةٌ تجلَّتْ لعيني فهي تُبدي خشوعَها
وهذا يسمى في البلاغة (سرعة الجواب بحسن الإطناب) وهو من الأساليب الراقية في (علم المعاني)ثم بعد ذلك كله تأتي (أحلام الشاعر) استهلّها بقصيدةٍ أهداها إلى صديقٍ له وفيٍّ ومطلعها:
هو هذا الليلُ مـمـدودُ الــرِّواقِ وجحيمُ الحبِّ يُذكيه اشتياقي
وسـكونُ الكـــون حــولي شبـحٌ لفَّ أحــلاميَ في شـبهِ نطاقِ
وفــؤادي بين نيـرانِ الـــجــوى يتلظى في اضـطـرابٍ واحتراقِ
ولك أن تتأملَ قوله: (جحيم الحب) و(لفَّ أحلامي) و(فؤادي يتلظى) كلها صورٌ بالغة الحسن.ثم له بعد ذلك قصيدة رائعة أرى أن تُقرَّرَ على (طلابِ المراحل الأولى) ففيها تربية عظيمة قدمَ لها بقوله: (لماذا لا نحارب التقاليد والعقائد الفاسدة؟) وقال عنها: (هذا فصلٌ من قصةٍ خيالية صغتها وصورتُ فيها كيف تُسلبُ الأموال على حساب بعض الناس؟) وعنوانها (الدجالون) قسمها إلى أربعة عشر مقطعًا وهي محزنة يقولُ في المقطع الأول:
قـالـت الأمُّ: ألا يا ولدي هذهِ زوجكَ أضنتْ جسدي
وأذابتْ من بكاها جلدي وإلى أدوائِـهــا لــم نهـتدِ
فهذه أشد وقعًا في نفوس الطلاب من تلك القصائد التي تذكر القصصَ على ألسنةِ الطيور والحيوانات.رابط المقال على صحيفة غرب الإخبارية
للمزيد: طاهر زمخشري – ويكيبيديا
-
حامد دمنهوري رائد الرواية السعودية الغائب عنا
نشرت هذا المقال على صحيفة غرب الإخبارية في 09-11-2021
دعوت مؤخرًا في مقالي المنشور بصحيفة الوطن السعودية (السبت 06/11/2021م) «دعوة لتخليد سير الرواد وإحياء أعمالهم» هيئة الأدب والنشر والترجمة إلى إطلاق برنامج يخصص لتوثيق وتدوين السير الغيرية لرواد الأدب والفكر في بلادنا، وتحفيز دور النشر على تبني أعمالهم ونشرها، تفاديًا لتلاشي واندثار أعمالهم وسيرهم، سيما وأن الكثير من النشء يجهلونهم ولا يعرفون أعمالهم، وذكرت في هذا السياق مجموعة من الأدباء الذين لم يأخذوا حقهم اعلاميًا أو حتى منجزاتهم رغم أهميتها لتاريخ حركة النهضة الثقافية في بلادنا منهم «أحمد السباعي، أحمد عبد الغفور عطار، الأمير عبد الله الفيصل، حسن عبد الله القرشي، حمد الجاسر، حمزة شحاته، طاهر زمخشري، عبد القدوس الأنصاري، عبد الله بن خميس، محمد حسن عواد، محمد حسن فقي».
وتعقيبًا على ذلك ذكرني الصديق الأستاذ منير محمد دمنهوري بعمه الأديب والروائي والشاعر السعودي حامد حسين دمنهوري -رحمه الله-، وبعث لي رابط مقال للكاتب عبد الله عمر خياط -رحمه الله- بعنوان “نجيب محفوظ الحجاز. حامد دمنهوري”، ومقال للأستاذ فواز أبو نيان بصحيفة الجزيرة (21/03/2014م) بعنوان «حامد دمنهوري.. مقالاته.. وشعره.. وقصصه».
الأمر الذي أكد لي ما ذكرته في مقالي، فأنا شخصيًا لم أكن على اطلاع كاف بمكانة «الدمنهوري» وإنجازاته الأدبية رغم أنى قرأت اسمه وسمعته مرارًا على لسان جدي طاهر زمخشري – رحمه الله- ولعل الأمر اختلط عليّ بيوسف حسين دمنهوري -رحمه الله- الذي عمل في التلفزيون والصحافة.
فعكفت اقرأ عنه ووجدت أنه يستحق منا الذكر وتخليد سيرته فهو روائي وشاعر وإعلامي علاوة على أنه تربوي، وكان اخر منصب شغله قبل وفاته في 1385هـ وكيلًا لوزارة المعارف للشؤون الثقافية ومشرفًا على إدارة المُلحقية بالقاهرة. ووصف بأنه ابن الثقافة.. وأبو الرواية ومتعدد المواهب.
وقال عنه عبد الله عمر خياط في زاويته مع الفجر (عكاظ 30/01/2011م) بمناسبة إعادة اصدار نادي مكة الأدبي لروايتي «الدمنهوري» بأنه “كان رقيقا في حديثه، أنيقا في مظهره، مبدعا فيما كتب، ومنه، رواية «ثمن التضحية»، رواية «ومرت الأيام». أصدرهما نادي مكة الثقافي الأدبي بمناسبة تكريمه في احتفالية شارك فيها أهل الفكر والأدب بدعوة من معالي رئيس النادي الدكتور سهيل حسن قاضي، الذي كان له الفضل يوم كان مديرا لجامعة أم القرى بإحياء ليالٍ يكرم فيها كل شهر واحد من الرواد الأوائل، ومع الأسف فقد توقف ذلك بعدما غادر معاليه الجامعة”.وأورد جانب مما جاء في المقدمة التي كتبها القاضي “يجد نادي مكة الثقافي الأدبي أن من واجبه الاحتفاء بأعلام الفكر والثقافة والأدب وبخاصة أولئك الرواد والمؤسسين، من أبناء (البلد الأمين) يجد النادي أن إحياء آثار تلك النخبة التي أسهمت في التنوير، وكان لها في نهضتنا التعليمية والحضارية أثر كبير، واجب آخر يجب السعي إليه، والعمل على تحقيقه.
وفي هذا السياق وفي إطار احتفالية تكريم (نادي مكة الثقافي الأدبي) بأديب مكة المكرمة الراحل الأستاذ حامد دمنهوري، رحمه الله، يعيد النادي طباعة روايتي هذا الأديب الكبير (ثمن التضحية) و(مرت الأيام) لمكانتهما الريادية في مسيرة الرواية السعودية. والملاحظ أن مرجعية كلتا الروايتين موهبة وثقافة ورؤية واعية للأستاذ حامد دمنهوري الذي كان من أوائل من تلقوا دراساتهم العليا خارج المملكة، فكان سفيرا لقيمنا ومبادئنا لدى الآخرين، ثم كان سفيرا للثقافة العصرية في بيئة تقليدية، فكانت مسؤوليته غير عادية، وسخر موهبته الأدبية، لأداء رسالته التنويرية.
وكما كان هذا الأديب المبدع في روايته شاهدا على تلك الأيام، بمعالجة سلبياتها، وتعزيز إيجابيتها، قام بدور المصلح بإشادته بالقيم الأخلاقية، والإسهام في زرع الفضائل الإنسانية، استشراقا لغد يحمل أصالة الماضي، ومزايا العصر، وذلك ما بدأنا نفتقده في الأدب الحديث، الذي بدأ يسهم في نشر الرذيلة بدلا من الفضيلة، من خلال إفرازات شخصية، أو توجهات سياسية.
ويؤكد أديبنا حامد دمنهوري على أهمية العلم في رقي الأمم، انطلاقا من وظائفه التي تسنمها في سلم التعليم، حتى وصل إلى منصب (وكيل وزارة المعارف للشؤون الثقافية) وبحكم دوره أديبا أصيلا يحمل رسالة هادفة تجاه مجتمعه ووطنه”.وفي مقال لاحق (عكاظ 06/11/2011م) أتم الخياط ما قاله القاضي “جاءت رواية دمنهوري (ومرت الأيام)، التي أصدرها قبل وفاته بعامين، حيث صدرت في طبعتها الأولى، عن (دار العلم للملايين) في بيروت عام 1383هـ/1963م، جاءت هذه الرواية التي كان لها صدى واسع في الأوساط الفكرية والأدبية آنذاك لتؤكد ريادة هذا الأديب المكي المبدع للرواية السعودية، ومكانته السامية في المشهد الثقافي الأدبي في المملكة، وكما حظيت رواية الدمنهوري الأولى (ثمن التضحية) باهتمام إعلامي بارز، نالت روايته الثانية (ومرت الأيام) اهتماما كبيرا، بإخراجها في أعمال إذاعية وتلفزيونية، مما يدل على طبيعة روايات الدمنهوري التي تستمد أحداثها ومفرداتها من الواقع المعاش، مما يجعلها قابلة للتمثل لتكون شاهدا على زمن جميل.
وتشكل روايتا الدمنهوري مادة بحثية لدى الدارسين، للتعرف على سمات المجتمع قبل نصف قرن، ولتحديد ملامح الأسلوب الأدبي لدى الرواد الأوائل، وفي ذلك إثراء لتاريخ الأدب الروائي في المملكة. وإن نادي مكة الثقافي الأدبي حين يعيد طباعة روايتي (الدمنهوري) يكون قد أسهم في توفير هذه الأعمال لأجيال المثقفين الذين قد سمعوا عنها، ولم يحظوا بقراءتها، رغم أنها جديرة بالقراءة وبالدرس، وبالعناية والبحث..”
وكانت رواية «ثمن التضحية» قد صدرت في طبعتها الأولى عن دار الفكر بالرياض عام 1959م وهي أول رواية سعودية في تاريخ المملكة رصدت التحولات النفسية والفكرية التي طالت بطل الرواية بعد عودته إلى مسقط رأسه بمكة المكرمة حاملا شهادته الجامعية من مصر، وهي سيرة ذاتية للدمنهوري وترجمت إلى الإنجليزية والألمانية والروسية مع روايته الثانية «ومرت الأيام» التي كتبها بين عام 1961م وعام 1962م وطبعها واصدرها في العام 1963م.
وقامت الباحثة السعودية موضي بنت عبد الله بن مقبل الخلف بتقديم بحث ماجستير في العام 2011م عن حياة الدمنهوري وأدبه وخلصت فيه إلى أنه كان أديبًا شموليًا، كتب «القصة القصيرة، والمقالة، والرواية»، ومال في مطلع شبابه إلى نظم الشعر الغنائي، وتفضيله لكتابة الرواية والقصة القصيرة، واستطاع تحويل هموم الذات إلى همومٍ موضوعية تهم المجتمع وتعنى بشؤونه، باستخدامه أساليب سردية حديثة لم تكن معروفة في المملكة، فعدَّ رائدًا للفنِ الروائي فيها، وأصبحت روايتاه «ثمن التضحية» و «ومرّت الأيام» وثيقة اجتماعية، ترصد التحولات والتغيرات في المجتمعِ المكيّ في فترة السبعينيات وبداية الثمانينيات الهجرية.
بالإضافة إلى صدق عاطفته ووجدانياته؛ إذ عبر شعره عن خوالج النفس وأحاسيسها، ومال في الرواية والقصة القصيرة إلى الحوار الداخلي المشابه للشعر الوجداني، المرتبط بالنفس والمشاعر والأحاسيس، وأن هناك تشابهًا بينه وبين الروائي نجيب محفوظ في طريقة البناء الفني من حيث الاهتمام بالشخصية، واستخدام وسائل تيار الوعي، والاعتماد على التحليل النفسي، والاهتمام بالنهاية المفتوحة والبيئة، وحرصه على تصويرها من خلال فترة زمنية معينة بالتركيز على أهم تضاريسها المكانية والاجتماعية.. كما اهتم في مقالاته الاجتماعية بنقد السلوكيات الخاطئة، وحرصه على الإصلاح الاجتماعي. واتسم باللغة الراقية والمؤدبة التي تشي بحياء كاتبها والتزامه؛ فلم تظهر في جميع كتاباته تلك اللغة المكشوفة البعيدة عن الأدب والخلق القويم، وتفضيله لنوعين من التكرار، هما: تشابه الأطراف، والترديد.
ولمن لا يعرف الدمنهوري فهو من مواليد مكة المكرمة عام 1340هـ-1922م ونشأ ودرس فيها قبل أن يبتعث لاستكمال دراسته في مصر. بدأ حياته شاعرًا رومانسيا، وكتب قصائده في الصحافة السعودية آنذاك، وعمل مدرسا في مدرسة تحضير البعثات عام 1366هـ ثم مدرسا بمدرسة الأمراء بالطائف، ومفتشا في ديوان نائب الملك عبد العزيز آل سعود على الحجاز في مكة المكرمة، ثم مديرًا لإدارة الثقافة والتعليم بوزارة الداخلية، وفي عام 1370هـ عين وكيلا لوزارة المعارف السعودية، وفي عام 1375هـ أصبح مشرفا على إدارة الملحقية الثقافية السعودية بالقاهرة، وعمل مديرًا منتدبا للإذاعة السعودية، وعضو وكاتبًا في مجلة اليمامة، وأشرف على تحرير مجلة المعرفة منذ صدورها عام 1379هـ حتى وفاته في يوم السبت (18/08/1385هـ) بالرياض ودُفن بمكة المكرمة. له كتابات ومقالات وشعر في عدد من المجلات والصُحف السعودية جمعها د. عبد الله الحيدري في مُؤلَف اسماه «ابن الثقافة وأبو الرواية حامد دمنهوري مقالاته وشعره وقصصه» وله قصة قصيرة بعنوان «كل شيء هادئ». وقصائده شعريه منها «فجر، عودة الماضي، يوم الجلاء».
وبالتأكيد إن هذه القامة الأدبية وإنجازاتها تؤكد ما دعوت إليه حتى لا نكون كما قال الأديب الراحل محمد صادق دياب –رحمه الله- “حاضرا بلا ماض، أو حالة أدبية بلا ريادة” واختم دردشتي بأبيات من قصيدة «عودة الماضي» للراحل حامد دمنهوري:
هذا هو الماضي أثرتِ شجونَهُ *** حَرّى أكابدها بقلبي الموجعِ
كالكهل ناء بحمله متوكّئاً *** يشكو الزَّمانَ بصوته المتفزّع
شتّانَ بين مُشرّقٍ ومُغرّبٍ *** بين الغد الذاوي وأمسي الممرع
أصبحتُ لا أملٌ يلوح لناظري *** إلا بقيّةُ خافقٍ في أضلعي
لم يُبقِ لي يومي سوى شبحِ الهوى *** ينعى لي الماضي ولا يبكي معيرابط المقال على صحيفة غرب الإخبارية
-
إطلالة على اتحاد الكتاب الإرتريين بالمهجر
نشرت هذا المقال على صحيفة غرب الإخبارية في 03-11-2021
بدعوة كريمة من رئيس اتحاد الكتاب الإرتريين بالمهجر الشاعر محجوب حامد أدم شاركت في حفل تدشين الاتحاد الذي نظم من القاهرة افتراضيا عبر حساب منصة سات على الفيسبوك مساء السبت 2021/10/30م بمشاركة نخبة من الأدباء والشعراء والدبلوماسيين الارتريين المقيمين في الخارج منهم الكاتب والدبلوماسي علي محمد صالح شوملي، الشاعر عبد القادر حكيم، الروائيين عبد القادر الوهداني ومحمد فتحي المقداد، الكاتب مصطفى محمد محمود، الناشطة سلوى نور، ومشاركة عدد من الكتاب والمهتمين غير الارتريين منهم القاضي بلجنة حقوق الإنساني الدولية ورئيسة ممثلي المحكمة الدولية لتسويق المنازعات البروفسور شمس عبد الله العمرو من الإمارات، الروائية والشاعرة فتحية دبش من تونس، الناشطة والشاعرة د. إشراقة مصطفى من السودان، الشاعر الحسن لروي من الجزائر، بالإضافة إلى الإعلامية الارترية نورا عثمان “برنتو” التي تألقت في إدارة الحفل على مدى ساعتين تخللها كلمات القاها كل من رئيس الاتحاد الشاعر محجوب حامد آدم، ونائب الرئيس الشاعرة فاطمة موسى، رئيس اللجنة المنظمة الناشطة أسهمان علي نعمان، والقى الروائي والكاتب هاشم محمود كلمة مؤسسي الاتحاد، وأعلن سكرتير الاتحاد محمد رمضان البيان التأسيسي، والقى الشاعر عبد القادر ميكال قصيدة بهذه المناسبة وقدم أحد الفنانين الشباب نشيد بعنوان ارتريا يا جارة البحر، وختم الحفل بمداخلات الضيوف من الجزائر وتونس سوريا مصر ليبا.
وكانت مداخلتي عبارة عن كلمة أعربت فيها عن شكري وتقديري للاتحاد وسلطت الضوء على العمق التاريخي الذي ربطنا بالثقافة الارترية منذ الهجرة الأولى للمسلمين إلى بلاد الحبشة الذي تحدثت عنه في مقالي “مصوع وأسمرة في ثقافتنا العربية” https://garbnews.net/articles/s/4936. فقلت:
لعل الذاكرة تعود بنا إلى أكثر من 1450 سنة من انطلاق أول هجرة من جدة إلى مصوع مرورا بجزيرة دهلك، ولعل هذه الليلة تحيي هذا الإرث التاريخي الذي يجمع ما بين هاتين الثقافتين.
وكم أنا سعيد أن أكون موجود بينكم في انطلاقة هذا المنار الثقافي، فللمصادفة انتهيت مؤخرا من كتابة رواية باسم “الحب المفقود في بلاد الحبشة” تبرز العلاقة التاريخية بين جدة ومصوع أسمرة وتداخل الثقافات فيما بينهم، تعلمت منها الكثير واكتشفت العمق التاريخي الذي كان غائب عنا فأنا أكتب في السير الذاتية والإعاقة البصرية والعمى ولكن قادني أحد الأصدقاء لكتابة قصة تجربة مر بها في العام 1969م حينما مرضت والدته ونصحها الأطباء في جدة للسفر إلى أسمرة للعلاج في المستشفى الإيطالي، فاستغربت أن الناس في ذلك الوقت كانوا يسافرون لتلقى العلاج في بلاد الحبشة، فبدأت أغوص في أعماق تلك البلاد وكم كنت سعيد أنني وجدت تراثا متبادلًا بين أهالي جدة وأهالي أسمرة ومصوع والعديد من المناطق الأخرى، فمن خلال الرواية عشت أياما في مصوع وأسابيع في أسمرة ما دفعني لقراءة تاريخ ارتريا وأول هجرة للمسلمين إلى مصوع وخط السير الذي اتبعوه وبنائهم أول مسجد في التاريخ الإسلامي الموجود أثاره حتى اليوم ويستخدم كمصلى للعيد، وتعرفت على الأكلات واللباس الشعبي ووجدت تشابه كبير مع تراثنا في جدة واستحضرت من ذاكرتي كيف أننا في صغرنا كنا نشاهد الكثير من المقيمين الارتريين في جدة يشغلون وظائف في السفارات والشركات، فجدة بطبيعتها متعددة الجنسيات والأعراق ومتداخلة العادات والتقاليد بحكم أنها البوابة الغربية لمكة المكرمة إذ يمر بها الحجاج والتجار من جميع أنحاء العالم بما في ذلك القادمون من بلاد الحبشة عبر مصوع، كما كانت أسمرة عاصمة ارتريا إحدى الوجهات السياحية والتجارية لأهالي جدة وبعضهم ربطتهم أواصر قربى ونسب وفي هذا السياق أتيت على ذكر المعماري «عامر الجداوي» الذي بنا «مسجد الخلفاء الراشدين» بأسمرة في العام 1900م – 1319هـ، وذكر بعض اسماء العوائل من أصول حضرمية أو سعودية من سكان أسمرة في القرن الماضي، واختتمت كلمتي بالتطلع إلى تدشين الرواية في فبراير القادم عبر الاتحاد.والجدير بالذكر أن رواية الحب المفقود في بلاد الحبشة قصة واقعية دارت أحداثها بين جِدَّة ومصوع وأسمرة في صيف عام 1969م. رواها المؤلف مما رسخ في ذاكرته الشخصية، وما استقاه من ذاكرة أفراد أسرته الذين عايشوا تلك الأحداث، وقراءاته العامة؛ وذلك بهدف تسليط الضوء على جانب من بلاد الحبشة في الحقبة التاريخية لحكم الإمبراطور هيلا سيلاسي كانت غير معروفة للكثير من أفراد مجتمعنا، ومدى ارتباطها بالمجتمع الجداوي، مع التطرق إلى طريقة السفر منها وإليها عبر البحر وما يترتب على ذلك من معاناة ومخاطر. ولعل في ذلك فائدة للمهتمين بتاريخ إثيوبيا وإريتريا الحديث، بالإضافة إلى إبراز جانب من ملامح الحياة الاجتماعية.
والحقيقة إن الحفل كان عبارة عن أمسية أحيت الترابط الثقافي بين القرن الأفريقي ومنطقتنا ذلك ما أكده الأديب والدبلوماسي الارتري السابق حامد ضرار في مقاله المنشور على موقع سماديت كوم الإلكتروني (2021/10/31م) “وجدت في الكثير من مداخلات الضيوف وبخاصة الروائية التونسية فتحية دبش مقاربات عميقة ومفيدة لامست ارتباط الأدب بالهوية ودور الآداب في إبراز ثقافات الشعوب وخصوصياتها على نحو يساهم في تطورها ويرفع من مكانة وشأن انسانها”.
ولعلي أجدها فرصة مناسبة أن أقترح على كتابنا وأدباءنا العرب المقيمين في المهاجر بأن يحذوا حذو الكتاب الارتريين بتأسيس اتحاد لهم في إحدى دول المهجر فمن المؤكد أن الاغتراب والعيش في ثقافات مختلفة يولد أعمال ابداعية تستحق الاهتمام والرعاية كما حدث مع شعراء المهجر أمثال جبران خليل جبران وإليا ابي ماضي وغيرهم.
فاتحاد الكتاب الارتريين بالمهجر «مظلة أدبية ثقافية مستقلة لكل الكتاب والإعلاميين والأدباء الإرتريين في مختلف دروب الإنتاج والمعرفة، وهو كيان إرتري مستقل يهتم بالثقافة والتراث والأدب وأهدافه متخصصة في مجالات الإنتاج الفكري والأدبي ولا يحمل أي توجه سياسي وهدفه الأساسي توحيـد الجهـود بـين مثقفي إرتريا ورص صفوفهـم بمـا يتسق وتحقيق الأهداف السامية التي يتطلع إليهـا كل وطنـي غيـور يتمنى أن يرى اسـم إرتريا يزيـن المحافل والمنتديات وتكـون إرتريا معلماً بين الدول والشعوب».
واختم دردشتي هذه بأبيات من قصيدة إلى جارة البحـر للشاعر السوداني التجاني حسين دفع السيد
ارتريا .. يا وجع الرجال ..
يا زهرةً حمراء نامت في يد التلال ..
أنا لأشجار اللهيب فارسا أعود ..
وأنتِ لي وحدي أنا
وباسمك العظيم تأتي ساعةٌ
بها يدي ستسحق القيود ..والشاعر الارتري محجوب حامد آدم
وآتيك يا وطني
هادراً كالنهرِ
غافلاً كالفجرِ
عابثاً بالرملِ
آتيكَ وفى عيني زرقة البحر
دفء التلاقي والحنين
آتيكَ أيها الوطن..
المرسوم في حناياي،
المنخور في خلاياي
آتيكَ..
عفواً
سهواً
حبواً
تحركني الشجون
خطوط الأطالس
وحروف الانتماءرابط المقال على صحيفة غرب الإخبارية
-
العصا البيضاء ويوم المساواة للأمريكيين المكفوفين
نشرت هذا المقال على صحيفة غرب الإخبارية في 13-10-2021
شاركت على مدى أسبوع في فعاليات يوم البصر العالمي والعصا البيضاء 2021 بدء بالحضور كضيف شرف بدعوة كريمة من جمعية الصداقة للمكفوفين بمملكة البحرين في الملتقى العربي الأول (الأربعاء والخميس 13- 14 أكتوبر 2021م) بعنوان (بصيرة متوقدة) تحت شعار (ببصائرنا نضيئ كوننا) الذي نظمته الجمعية بمناسبة الاحتفاء بيوم البصر العالمي تحت رعاية سعادة الأستاذة فائقة بنت سعيد الصالح وزيرة الصحة البحرينية بمشاركة عدد من منظمات ذوي الإعاقة البصرية ومؤسسات المجتمع المدني محليًا وعربيًا، قدم خلال الملتقى أوراق عمل تناولت مواضيع طبية، تربوية، حقوقية، تكنولوجية، إعلامية، بالإضافة إلى إبداعات ونماذج ملهمة من ذوي الإعاقة البصرية، وكان الملتقى مثيرًا للاهتمام بما حققه من توعية المجتمع بأمراض العيون والعمى الممكن تفاديه وأهمية التشخيص المبكر لضعف البصر وعلاجه، والتأكيد على أهمية الشراكة المجتمعية للمنظمات المعنية محليًا وعربيًا، واجتذاب وسائل الإعلام لتسليط الضوء على الملتقى.
كما حظيت بالمشاركة في ندوة الاتحاد العربي للمكفوفين الافتراضية (15 أكتوبر 2021) بمناسبة يوم العصا البيضاء مع نخبة من المكفوفين المتخصصين من الأردن، الجزائر، السودان، العراق، فلسطين، قطر، لبنان، ليبيا، المغرب، قدمنا خلالها أوراق عمل تناولت لمحة تاريخية عن يوم العصا البيضاء، الحقوق والتشريعات الدولية للعصا البيضاء والمكفوفين، الوصول الشامل في البيئة العمرانية، معوقات استخدام العصا البيضاء في الدول العربية، التحديات التي تواجه المرأة في استخدام العصا البيضاء بالإضافة إلى مشاركة شعرية ومشهد تمثيلي لأهمية العصا البيضاء وكانت مشاركتي عبارة عن محاضرة لمدة 10 دقائق لفت فيها الانتباه إلى ذكر القرآن الكريم لأهمية العصا على لسان سيدنا موسى عليه السلام « قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ» والخلفية التاريخية ليوم العصا البيضاء وأنواع ومقاييس العصي وأهميتها للكفيف، وأن تأتي الاحتفالات القادمة وقد أزيلت كافة الصعوبات والعقبات التي تواجه المعوقين بصريا ليمارسوا حياتهم بصورة طبيعية. وختمت الندوة التي أدارها الدكتور صادق حسين كينج نائب رئيس الاتحاد العربي للمكفوفين بمداخلات واسئلة الحضور ورفع توصيات سيعلنها الاتحاد لاحقًا.
وفي يوم السبت 16 أكتوبر شاركت فريق مكنه التطوعي ندوتهم “استقلالي بعصاتي” التي نظموها عبر مساحات تويتر وشارك فيها كل من الأخصائية النفسية نورة الفصام، الاخصائي الاجتماعي سليمان النمر، المصورة أمجاد المطيري كفيفة بصر جزئيًا، الأستاذ أنور النصار مشرف عموم تربية خاصة سابقاً في وزارة التعليم، بأوراق عمل تناولت أثر استخدام العصا البيضاء في استقلالية المعاق، أفكار المجتمع الخاطئة عن استخدام العصا البيضاء، استعراض تجارب عدد من المكفوفين مع استخدامهم العصا البيضاء، التوجه والحركة وأهمية تعلمها. وتلخصت محاضرتي في الحديث عن تجربتي الشخصية مع فقدان البصر والتحاقي ببرنامج إعادة تأهيل في الولايات المتحدة الأمريكية والعودة منه باستخدام العصا البيضاء ونقل التجربة إلى المملكة العربية السعودية بتأسيس جمعية إبصار وعملي مع أطباء العيون في مستشفيات مغربي إبان تأسيس الجمعية من أجل دعم وتحفيز مرضى العيون المعرضين للعمى، وسياق قصص واقعية لحالات عايشتها آنذاك.وختمت مشاركاتي بحضور الملتقى الافتراضي “نور الحياة” الذي نظمته جمعية إبصار الخيرية (17-18 أكتوبر) تحت رعاية مدير إدارة تنمية المجتمع بوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية الأستاذ أحمد صفحي، بعد أن وصلني إعلان الملتقى عبر الوتساب وحرصت على حضوره من أجل الوقوف على المستوى الذي وصلت إليه جمعية إبصار في ظل إدارتها الجديدة.
وقد خلصت من إجمال تلك المشاركات أن هناك زيادة في الوعي والاهتمام بمناسبتي يوم البصر العالمي ويوم العصا البيضاء مقارنة بالماضي ومع ذلك تبقى تلك المناسبات محدودة الأثر في مجتمعاتنا مقارنة بالتأثير الذي تحدثه في مجتمعات الدول المتقدمة اقتصاديا خصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية التي ابتدعت هذه المناسبة في العام 1964م وجعلتها مناسبة وطنية وأطلق عليها الرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما في العام 2011م يوم المساواة للأمريكيين المكفوفين، ويلزم القانون رئيس الدولة بالإدلاء سنويا بكلمة فيها وحث المجتمع على الاحتفاء بها مع اتخاذ أي إجراءات تسهم في الوصول إلى تحقيق أعلى مُثُل المساواة وإتاحة الفرص للجميع.
وفي هذا العام أدلى الرئيس جوزيف بايدن بكلمة نشرت على موقع البيت الأبيض في 14 أكتوبر 2021م أكد فيها بأن إدارته تلتزم بالبناء على أساس قانون الأمريكيين ذوي الإعاقة من خلال ضمان حصول الأمريكيين المكفوفين وضعاف البصر على فرص متكافئة في التوظيف والتقدم الوظيفي. وأعلن أنه وقع أوامر تنفيذية لتعزيز التنوع والمساواة والإدماج وإمكانيات الوصول للقوى العاملة الفيدرالية ورفع الحد الأدنى لأجور المقاولين الفيدراليين إلى 15 دولارًا في الساعة وهذه الأوامر ستؤثر بشكل مباشر على العديد من المتعاقدين الفيدراليين المكفوفين وضعاف البصر. وأن هذه الإجراءات ستعمل على تمكين العمال الفيدراليين ذوي الإعاقة من الوصول إلى أماكن إقامة معقولة واكتساب قدر أكبر من الاكتفاء الذاتي الاقتصادي مع تحفيز الحكومة الفيدرالية لتكون صاحب عمل نموذجي في توفير بيئات عمل عادلة ومتاحة وشاملة للموظفين ذوي الإعاقة. وأن إدارته وفرت فرص تمويل عبر الوكالات لتعزيز فرص العمل التنافسية المتكاملة للعمال المعوقين، ومنحت 20 مليون دولار عبر برنامج Randolph-Sheppard Vending لمساعدة رواد الأعمال المكفوفين وتوفير الفرص للبائعين المكفوفين لتشغيل مرافق البيع على الممتلكات الفيدرالية.
ومن جانب أخر أطلقت مدينة أوستن بوابة إلكترونية مخصصة ليوم العصا البيضاء تضمنت الفعاليات والأنشطة الافتراضية المخصصة للمناسبة وإتاحة الحضور لكافة المهتمين بها من داخل وخارج الولايات المتحدة الأمريكية، عدا العديد من الفعاليات والأنشطة المختلفة التي نظمتها منظمات ومؤسسات المجتمع المدني في عدد من المدن الأمريكية فضلًا عن إنتاج المواد التوعوية المقروءة والمرئية وإتاحتها على شبكات التواصل الاجتماعيوالمتتبع لهذه المناسبة وفعالياتها ومستوى الاهتمام والرعاية التي توليها الدول المتقدمة اقتصاديا للعمى والعميان والمناسبات المرتبطة بهم سيخلص إلى أن تلك المجتمعات أقرب للإسلام منا فيما يتعلق برعاية وضمان حقوق ذوي الإعاقة البصرية التي الزمنا بها ديننا الحنيف بنزول وحي بشأنها في سورة (عبس، النساء، الحج، النور) حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكرم الصحابي الكفيف عبد الله بن أم مكتوم بمنزلة لم يحظى بها الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم حيث كان يفرش له ردائه ويقول له “مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي”.
وهذه هي الأمثلة التي يجب علينا تسليط الضوء عليها في هذه المناسبات وإبرازها للعالم كنموذج للاقتداء به، وأختم دردشتي بأبيات للشاعر علي بن عبد الغني الأندلسي
وقالُوا: قدْ عَميتَ، فقُلت: كلاَّ *** وإنِّي اليومَ أَبصَرُ مِن بَصِيرِ
سَوادُ العَينِ زادَ سَوادَ قَلبِي *** ليَجتَمِعا على فَهمِ الأُمورِرابط المقال على صحيفة غرب الإخبارية
-
المروتين.. الأغنية الأشهر كيف كتبها الزمخشري ولحنها الموسيقار طارق عبد الحكيم
نشر هذا المقال على صحيفة غرب الإخبارية في 2019/08/02م
قبل أكثر من ستين عاماً في مثل هذا اليوم غرة ذو الحجة كان أديبنا الراحل طاهر عبد الرحمن زمخشري -رحمه الله – يعيش آلام وحرقة ومرارة البعد عن مسقط رأسه مكة المكرمة إذ روى لأبنته ابتسام «كنت في مصر تلك الايام مشغول بطباعة أحد دواويني الشعرية وكنت في دعوة لتناول طعام الغذاء عند المذيعة الاستاذة همت مصطفي وعند بداية الطعام قالت همت يا جماعة كل سنة وأنتم طيبين لقد أعُلن في السعودية اليوم غرة شهر ذي الحجة. في تلك اللحظة شعرت بغصة وألم استأذنت وخرجت مهرولاً إلى الشارع أمشي في الطرقات ولا أدرى الي أين، أنا تعودت أن أكون دايم في الجبال المقدسة في مكة الكرمة، ولا أدرى إلا وأنا في حديقة الحيوانات، أذرف الدمع السخين وكتبت يا ابنتي تلك القصيدة بدموع ساخنة وحرقة لأنني بعيد عن مكة، ولارتباطي مع المطبعة لم أستطيع السفر».
وبهذه المناسبة كُتب تلك القصيدة الشعرية التي تعد أحد أهم وأجمل القصائد الوطنية في عصرنا الحديث وصنفها البعض خطاء من القصائد الدينية، فهي في الواقع تعبر عن الشوق والحنين للوطن بصفة عامة ومكة المكرمة بصفة خاصة، فقد قال فيها كل الكلمات النابضة من القلب في 24 بيت شعري، اسماها «إلى المروتين» ونشرها في ديوانه الرابع «أغاريد الصحراء» الذي أصدره في 1378هـ / 1958م، وأعتبر النقاد أحد أهم الظواهر الابداعية في شعر طاهر الزمخشري إذا قال عنها أ.د عبد الله باقازي: «اعتمدت قصيدة: «إلى المروتين» أنموذجاً شعرياً تحققت من خلاله كل المظاهر الشعرية في شعره.. كانت قصيدة «إلى المروتين» – في رأيي – هي قصيدة الاغتراب ومحاولة الوصول إلى «التوازن النفسي» في رحلة الاغتراب المرضية.. كانت الدلالات الثنائية التي تفوقت على الدلالات المفردة تومئ إلى محاولة «التوازن» التي كان الزمخشري يقوم بها….».
وعلى ما أعتقد أن قصيدة «إلى المروتين» كانت من أحب القصائد إليه خصوصاً بعد أن حولها صديقه الحميم الموسيقار طارق عبد الحكيم- رحمه الله – إلى أغنية أذيعت لأول مرة بمناسبة موسم الحج حيث ذكر الزمخشري ضمن ذكرياته: «إن أكبر ما أعتز به في مشواري الفني هي اغنية “إلى المروتين” فقد استمعت اليها من أكثر من 15 إذاعة عربية، ورغم مرور 27 عام إلا أنني لا ازال اسمعها في أكثر من 40 محطة إذاعية»، وعن قصة غنائها أورد «إنه في خمسينيات القرن العشرين، ومع تأسيس الإذاعة السعودية، جاء الموسيقار طارق عبد الحكيم وفرقته الموسيقية لتسجيل موسيقات صامته للإذاعة حيث لم يكن هناك سوى موسيقات غربية. وبينما كنت أجلس معه، كان في يدي ديوان “اغاريد الصحراء” فاطلع عليه وإذ به يلتقط قصيدة “أهيم بروحي على الرابية” ومنها أخذها ولحنها وغناها».
وكان الموسيقار طارق عبد الحكيم قد اختار من القصيدة 12 بيتاً ولحنها على الدانة الحجازية وغناها بإحساس عالي رقيق عكس من خلاله مشاعر شوق وحنين طاهر زمخشري لمكة وشجونه لبعده عنها خصوصاً في موسم الحج. وإن كان بعض النقاد قد اعتقد أن لحن الأغنية يعود في الأساس إلى فنان الحجاز الشريف هاشم العبدلي قبل نحو مائة عام.وعلى أي حال لاقت الاغنية بلحنها وادائها نجاح منقطع النظير ولسنوات طويلة اعتادت الإذاعة السعودية إذاعتها خصوصاً في موسم الحج وقبل سنوات أعاد تسجيلها الفنان الجسيس محمد أمان – رحمه الله – وأرى أن الحاجة الفنية في وقتنا الحالي تستدعي مبادرة الفنانين المتمكنين لتحديثها خصوصاً وأن المواسم والمناسبات الوطنية والدينية تحتاج مثل هذه الأعمال الخالدة. وفيما يلي كلمات الاغنية المشتقة من القصيدة.
أهيِمُ بروحي على الرابِيَـهْ
وعند «المطـافِ»، وفــي «المروتَيْن»
وأهفو إلى ذِكَرٍ غاليهْ
لدى «البَيْتِ» «والِخيـفِ» والأخْشَبَيْن
فأُهدرُ دمعِي بآماقيهْ
ويَجْـري لظاها على الوجنَتْين
ويصرخ شوقي بأَعْماقيهْ
فأرسِل من مُقْلتي دمعتَيْن
أهيِم وفي خاطري التائِه
رُؤَى بلدِ مشرقِ الجـــــــانبيْن
يطوف خيالي بأنحائه
ليقطع فيه ولو خطوتين
أُمَرِّغُ خدِّي ببطحائه
وأَلمسُ منه الثَّرَى باليـدين
وأُلقي الرِّحَال بأفيائه
وأَطْبَع في أرضه قُبلتين
أهيِم، وللطير في غُصْنهِ
نواح يُزغرد في المسمَعيْن
فيشدو الفؤادُ على لَحْنهِ
ورَجْعُ الصدَى يملأ الخافقين
فتجري البـــوادرُ من مُزْنِهِ
وتُبْقـي على طَرْفِه عَبْرَتَين
تُعيدُ النشيدَ إلى أُذْنهِ
حنيناً وشوقاً إلى «المـروتين»رابط المقال على صحيفة غرب الإخبارية
-
النصار وباوزير في يومي البصر العالمي والعصا البيضاء 2021
نشرت هذا المقال على صحيفة غرب الإخبارية في 13-10-2021
قررت أن أحيي مناسبتي يوم البصر العالمي 2021 الذي يحتفل به العالم يوم الخميس 14 أكتوبر تحت شعار «أحِبّ عينيك – Love Your Eyes»، ويوم العصا البيضاء الذي تحتفل به عدد من دول العالم يوم الجمعة 15 أكتوبر. بجمع اراء وتجارب عدد من الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية من الذكور الاناث ومشاركتها مع عامة القراء من أجل التوعية ولفت مزيد من الانتباه لقضية العمى وضعف البصر، وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية في كافة مناحي الحياة «الصحة، التعليم، الحياة الاجتماعية».
فوفقت بجمع مجموعة من القصص الملهمة والآراء النيرة بشأن تحسين ظروف الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية لا يتسع المجال لسردها جميعا دفعة واحدة ولعلي في قادم الأيام أعرضها تباعًا. وسأكتفي بما رسله لي الزميل الأستاذ أنور النصار مشرف عموم تربية خاصة بوزارة التعليم سابقًا، والحاصل على ماجستير تربية خاصة مسار عوق بصري من جامعة اوريغن بالولايات المتحدة الأمريكية
“فقدت بصري في السابعة عشر من عمري نتيجة الالتهاب الصبغي الوراثي (RP). وبالنسبة ليوم العصا البيضاء التي كانت بدايته عام 1964م عندما أقر الرئيس الأميركي ليندون جونسون هذه المناسبة لتكون رمز لإعطاء ذوي الإعاقة البصرية حقهم في السير على الأرصفة وعبور الطرقات، ومنها بدأت المناسبة تأخذ منحى توعوي بين أوساط المجتمعات المتقدمة التي تحرص على رفع مستوى ذوي الإعاقة البصرية. فاختيرت العصا البيضاء كرمز لاستقلالية الكفيف فهي أداة يستطيع التنقل بها باستقلالية وأمان لتلبية احتياجاته، كما توظف المناسبة للتركيز على الجوانب الإيجابية، كتسليط الضوء على حق ذوي الإعاقة البصرية في التعليم، واستخدام التقنية، وممارسة الأنشطة الاجتماعية والرياضية والترفيهية. وعلى مدى السنوات التي تم الاحتفاء فيها بهذه المناسبة يلاحظ زيادة الوعي وتطور عالم الإعاقة البصرية من خلال الثورة التقنية التي نراها منتشرة بين أوساط المكفوفين الآن كالتقنيات والتطبيقات المساندة التي مكنتهم من تحقيق كل متطلباتهم وشغفهم للحصول على المعلومات والمعارف، وزيادة نسب توظيفهم.
وعندما أعود بذاكرتي إلى الوراء حينما بدأت حياتي مع عالم الإعاقة البصرية كان المجال جدًا محدود وبسيط ومتواضع، والخدمات تقليدية. وعندما بدأت المملكة بابتعاث مجموعة من المختصين إلى الخارج للتخصص في مجالات التربية الخاصة، وافتتاح اقسام خاصة بها في الجامعات السعودية حدثت نقلة نوعية وطفرة في المجال فأصبح ذوي الإعاقة البصرية الآن ينالون جوانب إيجابية كثيرة من حقوقهم التعليمية، وتوفرت لهم جميع الخدمات والمتطلبات، وأصبح نيل حقوقهم في التوظيف في مجال التعليم أو غيره أفضل من السابق، وينساق ذلك على البنية الاجتماعية كالزواج وغيره. ولكن حينما نقارن ذلك بالدول المتقدمة حتمًا نجد ان هناك تفاوت وفوارق نسبية. فعلى سبيل المثال مسألة التنقل مشكلة لا زلنا نعاني منها في عالمنا العربي خصوصًا في بلادنا فالأرصفة غير مهيأة، والمدن غير صديقة للمعاق، بينما الكفيف في الدول المتقدمة يشكوا من أن نقطة انتظار المترو بعيدة بعض الشيء عن سكنه، في الوقت الذي نعاني نحن فيه من المشي على الأرصفة واستخدام وسائل التقنية ووسائل المواصلات العامة. فشبكة الحافلات العامة والمترو غير متوفرة ولا تزال تحت الانشاء.
كما أن اشتراطات الوصول الشامل لا تزال جدًا متأخرة وتحتاج إلى تطوير ليتمكن الشخص الكفيف من التنقل بكل أمان ويسر وسهولة. فالأحياء السكنية غير مهيأة للتنقل ولا يوجد بها أرصفة فمثلا يضطر الكفيف للمشي على الاسفلت للوصول إلى المسجد فيتعرض لخطر السيارات، وإن كان هناك بعض المحاولات التحسينية قد أجريت في بعض الأماكن في مدينة الرياض بوضع مسارات على الارصفة ولكن تلك الأماكن نادرًا ما يرتادها ذوي الإعاقة البصرية، والمساجد تعتبر من التحديات الكبيرة لوصول الكفيف إليها وأداء شعائر العبادة فيها بيسر وسهولة فهي غير مهيأة حيث يصعب على الكفيف معرفة مكان الصف واتجاه القبلة لعدم وجود أي علامات إرشادية على السجاجيد، فضلا عن صعوبة الوصول إلى دورات المياه أو المواضي الغير مهيأة أصلاً لاستخدام ذوي الإعاقة.
أما ما يتعلق بالشبكة العنكبوتية فالعديد من المواقع الإلكترونية غير ميسرة لوصول التقنيات المساندة لذوي الإعاقة البصرية وبالتالي يستحيل عليهم تصفح تلك المواقع أو الاستفادة من خدماتها.
وبرأيي إن أكبر المعاناة أنه ليس لدينا هيئة استشارية لذوي الإعاقة البصرية فهيئة رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة لا تزال في طور البدايات وهي تابعة لوزارة الموار البشرية والتنمية الاجتماعية وغير مستقلة، وصلاحية بعض الجهات الحكومية أعلى من صلاحيتها فعلى سبيل المثال اتخذت هيئة الترفيه قرارًا بمنع ذوي الإعاقة من ممارسة المناشط الترويحية في الالعاب الترفيهية ولا تستطيع الهيئة إيقاف ذلك القرار فصلاحياتها أقل من صلاحية هيئة الترفيه وبالتالي لن تتمكن هيئة رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة من أداء رسالتها التي أنشئت من أجلها وهذا يتطلب أن يكون لدينا جهة تراقب التحديات والصعوبات التي تواجه ذوي الإعاقة اجمالًا في كل مناشط الدولة، وتقدم الاستشارات والحلول لها.
وبالرغم من كل تلك الصعوبات والتحديات يبقى وضعنا أفضل بكثير عما كان عليه سابقًا ولكننا نطمح للأفضل وتطلعاتنا أن نصل بإذن الله الى 2030 وقد حققنا نقلة كبيرة في ممارسة الحركة والتنقل الآمن باستقلالية، والتوظيف، وممارسة حياتنا اليومية بيسر وسهولة”.من جهتها قالت مستشارة التربية الأسرية الأستاذة أميرة باوزير التي أصيبت بإعاقة بصرية نتيجة ضمور في العصب البصري بسبب داء السكري، والحاصلة على ماجستير توجيه وإصلاح أسري من جامعة الملك عبد العزيز.
“شاركت في عدة فعاليات ليوم البصر العالمي ويوم العصا البيضاء في جامعة الملك عبد العزيز، وهي فعاليات جميلة جدًا أشعرتني بالأمان بعد أن كنت متخوفة من ضعف البصر وفقده، فقبل مشاركتي كنت أفكر في حياة يائسة يغشاها السواد فقط لو فقدت بصري، وأنني سأعيش وحيدة منعزلة مغمضة العينين حبيسة المنزل لأني لن أستطيع الخروج دون يد تساند ضعفي.
ولكن بعد حضوري تلك الفعاليات التي توعي المجتمع بحياة الكفيف والتسهيلات التي تضيء طريقه وتسهل عليه الكثير من الصعوبات تغير تفكيري عن حياة فاقد البصر. فالكفيف لو وفر له ما يحتاجه من أدوات وأجهزة تعويضية سيكون طبيعيًا ومنتجًا كباقي أفراد المجتمع.
وهناك الكثير من المكفوفين يواجهون صعوبة في تكوين علاقات اجتماعية بسبب أن كثير من أفراد المجتمع يعتقدون بأن الشخص إذا فقد بصره لا يشعر بشيء من حوله ولا يعرف الأشخاص لأنه لا يراهم، وكثيرًا ما يعتقدون بأن الكفيف يكون عاجز عن تكوين أسرة وتحمل مسؤولياتها وهذه الاعتقادات خاطئة لابد من تغييرها وهذه المناسبات خير وسيلة لذلك.
واغتنم هذه الفرصة لرفع أسمى آيات الشكر والتقدير لحكومتنا الرشيدة على كل ما تقدمه من تسهيلات للمكفوفين ومنها الملصقات الإرشادية بطريقة برايل على السلالم في الأماكن العامة وفي المصاعد الكهربائية وتوفير الإرشادات الصوتية في المصاعد، وإقامة الدورات والفعاليات التوعوية الترفيهية التي توعي المجتمع بماهية الكفيف وتبين سهولة الأمر ويسر التعامل معه وتؤنس ذوي الإعاقة البصرية. ولا يفوتني أن أشكر جمعية إبصار على ما قدمته لي من فحوصات ضعف البصر ومعينات بصرية مكنتني من استكمال دراستي الجامعية وممارسة حياتي اليومية بيسر وسهولة”.
تلك تجربتين موجزة لخصت الكثير من قضية الإعاقة البصرية وما يجب عمله بلغة بسيطة ومقترحات عملية بعيدًا عن تنظير المؤسسات والجمعيات الأهلية وأختم دردشتي هذه بأبيات للشاعر الكفيف نصر علي سعيد:
كمْ من ضَريرٍ مُبصرٍ مُتوهِّجٍ *** يُعطِي ويُعطي، والمَدَى وهَّابُوَترى أُلوفَ المُبصِرينَ بِلا هُدًى *** لكأَنَّما فَوقَ العُيونِ حِجابُ
وأَسيرُ في دَرب الحَياةِ لَعلَّني *** أحظَى بِقلْبٍ ليسَ فيهِ حِرَابُ
فَالناسُ تَنهشُ بَعضَها بِشراهةٍ *** لكَأنَّهم – يَا وَيلَتاهُ – ذِئابُ!
رابط المقال على صحيفة غرب الإخبارية
-
معرض الرياض الدولي للكتاب 2021 وضرورة تواجد أدب الإعاقة
نشرت هذا المقال على صحيفة غرب الإخبارية في 06-10-2021
أثار اهتمامي واعجابي ما تناقلته وسائل الإعلام عن معرض الرياض الدولي للكتاب 2021 بواجهة الرياض (إكسبو) برعاية خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- تحت شعار «وجهة جديدة، فصل جديد» من (1 إلى 10 أكتوبر). حيث إنه الأكبر في تاريخ معارض الكتب السعودية، فمساحته 36 ألف متر مربع وشارك فيه أكثر من 1000 دار نشر من 30 دولة بما فيها السعودية.
وقدم خدمات متنوعة لزواره أسهمت في تسهيل الدخول والتجول في المعرض شملت جميع الزوار بما في ذلك ذوي الإعاقة وكبار السن والأطفال، مثل ربط تذكرة الدخول بتطبيق توكلنا، تخصيص مواقف للسيارات، وعربات جولف للانتقال من المواقف إلى ساحة المعرض، توفير كراسي متحركة لذوي الإعاقة الحركية مع متطوعين لمرافقتهم أثناء تجولهم في المعرض وتصميم مسارات خاصة تسهل تنقلهم، توفير شاشات إلكترونية لعامة الزوار لتسهيل البحث والوصول إلى دور النشر أو التعرف على أماكن وجود الكتب المراد اقتنائها أو الاطلاع عليها. فضلًا عن مواكبة المعرض بفعاليات وورش عمل وبرنامج ثقافي تخلله أمسيات شعرية تضمنت أمسية خاصة بإحياء سيرة وأدب الأمير الشاعر عبد الله الفيصل (رحمه الله)، وجناح للطفل ومكتبة الخيال ومعرض للمقتنيات النادرة. ومؤتمر للناشرين نظم لأول مرة في المملكة يومي (5-4 أكتوبر) تضمن 12 جلسة حوارية شارك فيها 42 متحدث من داخل وخارج المملكة، بهدف بحث واقع صناعة النشر في العالم العربي والسعي لتطويره للوصول إلى المنافسة الدولية.
وبحكم اهتمامي بالإعاقة خصوصًا البصرية منها، تتبعت ما قدم من خدمات لذوي الإعاقة والمؤلفات المرتبطة بالإعاقة عبر المتجر الالكتروني للمعرض، ومن خلال بحثي لاحظت أن اجمالي عناوين المؤلفات المرتبطة بها كانت 118 عنوانًا منها 43 عنوان عن الإعاقة بصفة عامة، 38 الإعاقة الفكرية/العقلية/الذهنية، 22 الإعاقة السمعية، 9 الإعاقة البصرية، 5 الإعاقة الحركية، 2 الإعاقة المزدوجة.
ويعتبر إجمالي تلك العناوين ضئيل جدًا مقارنة بعدد العناوين المشاركة في المعرض التي بلغت أكثر من مليون عنوان، وفق تصريح وكيل وزارة الإعلام للعلاقات الإعلامية الدولية الدكتور خالد الغامدي في لقاء مع قناة اكسترا نيوز (04/10/2021م).وقد يعود ذلك لعدم وجود تصنيف للإعاقة ضمن قائمة التصنيفات المقترحة في متجر المعرض، فعلى سبيل المثال لاحظت وجود كتابي «حصاد الظلام» المشارك تحت تصنيف «كتب مؤلفين» رغم إنه مرتبط بالإعاقة فقد رويت فيه قصة فقداني للبصر وما ترتب عليه وبرامج إعادة التأهيل التي حصلت عليها في الولايات المتحدة الأمريكية وخلاصة تجربتي منها. وقد يكون هناك كتب أخرى عن الإعاقة مصنفة تحت تصنيفات مختلفة وسيصعب الوصول إليها ما لم تكن تعرف اسم الكتاب مسبقًا، كذلك لا يوجد ما يشير الى توفر كتب بطريقة برايل للمكفوفين.
وعلى أي حال إن جُل عناوين تلك الكتب المتوفرة في المعرض عن الإعاقة تربوية وأكاديمية، وبعضها قديمة الإصدار، وغاب عنها المؤلفات الأدبية المرتبطة بأدب الإعاقة خصوصًا السير الذاتية والتجارب الشخصية، وأشعار المكفوفين عبر العصور، وإنتاجات ذوي الإعاقة الفكرية الأخرى، رغم أن ذلك من صميم تراثنا وثقافتنا الإسلامية والعربية بدليل أن القرآن الكريم أورد العديد من القصص والتشريعات فعلى سبيل المثال سورة يوسف التي قال تعالى فيها ﴿نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾.. ايه (3) والقَصص (بفتح القاف) معناها الحكايات والروايات الواقعية الحقة، أو الأخبار أو الأحاديث المقصوصة، وهي بمثابة الروايات الواقعية في عصرنا الحديث.. حيث تناولت السورة قصة فقدان سيدنا يعقوب عليه السلام لبصره وما ترتب عليه من أثر حتى استعادته. وقصص الصحابي الكفيف ابن ام مكتوم التي وردت في ثلاثة سور مختلفة (عبس، النساء، الحج).
مما يؤكد على أن أدب الإعاقة من صميم تراثنا وثقافتنا الإسلامية والعربية لذلك اهتم بها الأولين بدًء بكتاب «المعارف» للعلامة ابن قتيبة المتوفي سنة (276هـ) الذي خصص فيه فصلا لأصحاب العاهات وذكر منهم عددًا من أشراف المكافيف، مرورًا بكتاب «نَكْتُ الِهيمْانِ في نُكَتِ العُمْيَاِن» لصلاح الدين خليل بن آيبك الصفدي (696-764هـ) وصولًا إلى عصرنا الحديث بـ «الأيام» للدكتور طه حسين (1306- 1393هـ). عدا مئات من صنوف الكتب التي تناولت تراجم ذوي الإعاقة واشعارهم وكل ما ارتبط بهم من آداب وفكر.
وبرأيي إن السبب في محدودية تواجد أدب الإعاقة في معارض الكتب وقطاع النشر هو نقص الوعي المجتمعي بهذا النوع من الأدب وأهميته، وقلة نشر الموهوبين والمبدعين من ذوي الإعاقة لتجاربهم وسيرهم الذاتية وإبداعاتهم الفكرية والأدبية لضعف إمكانياتهم وصعوبة وصولهم إلى دور النشر.
ولمعالجة ذلك اقترحت على «هيئة الأدب والنشر والترجمة» في 18/02/1443هـ – 25/09/2021م بفتح مسار للموهوبين والمبدعين من ذوي الإعاقة ضمن اتفاقيتها مع «الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة “منشآت”» لمشروع “ريادة دور النشر”. من أجل إتاحة الفرصة لذوي الإعاقة للمساهمة في تنمية وتطوير قطاع الأدب والنشر والترجمة، وتسهيل وصول المجتمع وانتفاعه بمواهبهم وإبداعاتهم. راجيًا أن يكون ذلك بمثابة وسيلة لتنمية وتطوير أدب الإعاقة ونشره لما له من أهمية بالغة في توعية المجتمع وسن القوانين والتشريعات من تجارب ذوي الإعاقة سيما وأن الإعاقة في مجتمعنا قد تجاوزت 4% من اجمالي السكان. واختم دردشتي هذه بأبيات لشاعر العصر العباسي الكفيف بشار بن برد:
عَمِيتُ جَنِيناً والذَّكاءُ مِنَ العَمَى *** فجِئتُ عجيبَ الظَنِّ، للعِلمِ مَوئلاوَغاضَ ضياءُ العَينِ للعِلمِ رافداً *** لقَلبٍ إِذا ما ضيَّع النَّاسُ حَصَّلا
وشِعرٍ كَنَوْرِ الرَّوْضِ لاءَمْتُ بَيْنَهُ *** بقَولٍ إِذا ما أحزَنَ الشِّعرُ أَسْهلا
رابط المقال على صحيفة غرب الإخبارية
-
حكاية «أسمر حليوة» والانطلاقة الفنية للثلاثي طاهر زمخشري وغازي علي وطلال مداح
نشرت هذا المقال على صحيفة غرب الإخبارية في 06-09-2021
انتشر مؤخرًا على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو مدته دقيقة لأغنية «أسمر حليوة». للفنان الراحل طلال مداح رحمه الله. وتداولها الآن بعد مضي أكثر من خمسين عامًا على غنائها يؤكد أنها واحدة من أنجح الأغاني السعودية. التي لا تزال حية وتجتذب الكثير من عشاق الفن السعودي.
فرأيت من المناسب أن اغتنم فرصة هذه السطور المضيئة. لاستعرض قصتها من كتابي «أغاني بابا طاهر» الذي لا زلت أعمل على إعداده منذ ثلاثة أعوم. بمشاركة المخرج الإذاعي الزميل عدنان هوساوي. والناقد الفني القدير الأستاذ علي فقندش. ضمنت فيه ما جمعت من كلمات الأغاني التي كتبها الأديب رحمه الله ومناسباتها، وتواريخ ارشفتها في الإذاعة السعودية. والتي منها أغنية «أسمر حليوة».
الأديب طاهر زمخشري في حوار مع الناقد الفني علي فقندش لمحة تاريخية
اغنية «أسمر حليوة» كتب كلماتها الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري. خلال اقامته في مصر مطلع ستينيات القرن الماضي. ولحنها الموسيقار غازي علي وغناها الفنان طلال مداح. وهي أول عمل فني يجمع بينهم وساهم في شهرتهم كثلاثي فني وانتشار الفنان طلال مداح في الوطن العربي.
وأعدها الأديب أحد أعز الأغاني إلى نفسه. فقد قال عنها. في لقاء إذاعي مع الإعلامي القدير الأستاذ علي داود. بثته إذاعة جدة في عام 1976م. «الواقع أنا بعتز بأغنية جدًا. لأنها حصلت على شهرة كبيرة في العالم العربي. وسمعت صداها في كثير من البلدان العربية وتعليقات عليها أسعدتني.. هي أسمر حليوه».
وقد ارتبطت الاغنية بالعلاقة الوطيدة التي جمعت بين الأديب رحمه الله والموسيقار غازي علي. وبداية تعاونهما الفني إبان إقامتهما في مصر في ستينيات القرن الماضي. حيث روى رحمه الله في حديث صحفي مع الناقد الفني الأستاذ علي فقندش. نشرته صحيفة عكاظ في شوال 1406هـ. «غازي علي هو الابن الفنان العصامي الذي احتضنته مطلع مشواره مع الفن. وهو من بنى نفسه بنفسه. وضحى بالكثير من أجل أن يكون هناك (فنان سعودي) قائم ومبني على قاعدتين أساسيتين يمتلكهما غازي. آلا وهما الموهبة الحقيقية ثم الدراسة الأكاديمية، وصقل هذه الدراسة بالخبرة والممارسة.. ظهر كمطرب وهو طالب في المدرسة. حيث كان يغني لزملائه في المدرسة. ثم بدأ نشاطه في الإذاعة في برنامج الأطفال مع “بابا عباس”. ولم يدرك أيامي في برامج الأطفال بالإذاعة. ورافقه في هذه المرحلة عدد من الفنانين اذكر منهم حسن دردير.. كنت وأياه مره ففكرنا في أن تكون بدايته كمطرب مع ملحن مصري ليذيعه صوت العرب. وأصبح ثالثنا في هذا الموضوع الموسيقي المصري المعروف عطية شرارة، وكان أيامها بليغ حمدي معروفا كمطرب فقط. وأصبح رابعنا في هذا الموضوع بليغ. فطلبنا منه أن يكون صاحب اللحن. أي يقوم بعمل أول لحن في حياته لكلمات كنت قد نظمتها على أن تقدم بصوت غازي علي. الطالب في معهد الموسيقى. وتم الاتفاق على مبلغ 300 جنيه. –ويعتبر خياليًا مقابل لحن يومذاك-. المهم في الموضوع ولدت الأغنية بعنوان “حكى لي الطير تغريده”. وقد أذيعت هذه الاغنية بعد نجاحها في القاهرة وفي كل الإذاعات العربية».
كانت تلك الأغنية بمثابة الانطلاقة الأولى للتعاون الفني بين الأديب والموسيقار غازي علي. التي قادته ليصبح أحد المع الموسيقيين والملحنين السعوديين. وصاحب أشهر الحان أغاني الستينيات السعودية التي منها «أسمر حليوة».رسمة للأديب طاهر زمخشري من كتيب احتفال الأسرة الفنية بمناسبة فوز الأديب بجائزة الدولة التقديرية 1405 مناسبة كلماتها
في غضون ذلك كان الأديب مقيمًا في القاهرة. بعد تماثله للشفاء إثر المرض الذي ألم به. وزارته ابنته كوثر وزوجها أبو بكر نوح للاطمئنان على صحته وكان يرفقهما ابنهما أسامة رحمه الله وحينها كان قد تجاوز العامين من عمره، ولعب دورا أساسيا في إلهام الأديب بكتابة أغنية «أسمر حليوة» وقال د. محمد فؤاد طاهر زمخشري في حديث تلفزيوني لبرنامج الراحل بقناة روتانا خليجية «هذه القصيدة مكتوبة في حفيد بابا طاهر الله يرحمه أول ما تولد أسامة نوح اللي هو أكبر أولاد عمتي كوثر زمخشري، وكانت الفكرة كلها لأنه أسامة ما كان يرضى يسلم على بابا طاهر الله يرحمه فعشان كذا يقلك “مخاصمني” وكل ما يجي يلعب معاه ما يرضى، فلمن تجي تراجع كلمات القصيدة تلاقيها تنطبق على طفل لكن بابا طاهر مع عبقريته في الأدب كان المعنى في بطن الشاعر، لكن القصيدة لما تجي تقراها كقصيدة غزلية كقصيدة تربوية، هذا اعتقد كان عبقريته في شعره رحمه الله».
أسمر حليوه.. حليوة مخاصمني
سماره هو.. وهو اللي ظالمني
قريب مني في أحلامي بعيد عني وقدامي
ولا يرضى يكلمني وإن عاتبته يتبسم
أسمر .. أسمر حليوه مخاصمنيأسمر رماني.. رماني في الهوى بنظره
وأشعل في قلبي.. في قلبي حسرة
ويضحك ورد في خدوده.. وأدعي ربنا يزيده..
ولو من قطفه يحرمني.. وإن عاتبته يتبسم
أسمر .. أسمر حليوه مخاصمنيأسمر وسحره يا عيني في الهوى ألوان
وعوده والله.. يا عيني بالحلا ريان
وأحلم به واتمنى وصاله وهو يتجنى
ومدري ليه يخاصمني.. وان عاتبته يتبسم
أسمر .. أسمر حليوه مخاصمنيأسمر يا محلا.. محلا جماله
وأحلى من حسنه… سحره ودلاله
ورسمه صورة في عيوني ولو بالهجر يكويني
خياله ما يغيب عني.. وأن عاتبته يتبسم
أسمر .. أسمر حليوه مخاصمنيفالأسمر الحليوة هو سبط الأديب الخامس المقدم ركن بحري أسامة أبو بكر نوح الذي وافته المنية رحمه الله في ديسمبر 2003م عن عمر ناهز 41عام إثر مضاعفات عملية جراحية بمستشفى الملك فهد بجدة.
ميلاد لحنها
وعن تلحينها روى الأديب رحمه الله «هذا اللحن صحبت ميلاده قصة طويلة بدأت ونحن في رحلة نهرية غازي علي وانا ومجموعة من الأصدقاء في بداية الستينات الميلادية وعلى فلوكه “قارب نهري”، وحيث أن صحبنا معنا أحدث عمل للموسيقار طارق عبد الحكيم (البعد والحرمان) بصوت المطربة صباح، وهذا اللحن طبعًا أخذ حقه الكبير من الانتشار. فدار حوار بيني وبين غازي علي الذي أبدى استعداده بعمل لحن أجود وأقوى، ومن الممكن أن ينال شهرة عربية أيضًا لو قدم بصوت معروف عربيًا، وتحديته وهنا نحن في اليوم الثاني من الرحلة، بدأت أكتب وغازي يلحن (أسمر حليوه.. حليوه مخاصمني) وغازي يدندن إلى أن صور لها لحنا جميلًا. أُعجبنا به جميعا، وفور انتهاء الرحلة سجل غازي لحن الأغنية موسيقيا ورشحت لأدائه الفنانة القديرة سَلاّمة التي أعجبت جدًا باللحن، وقد تم وعدنا لها بذلك، إلا أن أمرًا ما حدث وهو دخول طلال مداح في الموضوع وإصراره على أن يكون هو صوت هذا اللحن!».
وكان الموسيقار غازي علي قد حكى لبرنامج «وينك» بقناة روتانا خليجية في معرض ذكرياته عن تلك القصة «كنا في رحلة بحرية مع بابا طاهر ومجموعة من الطلبة، قدم لي بابا طاهر كلمات أسمر حليوه وقال يالله لحنها ووريني شطارتك، وبدأت اسمع منه كلماتها وبدوري الحنها، وبحكم أن طبيعة كلمات طاهر زمخشري سلسه وملحنه موسيقيا بطبيعتها كان من السهل عليَّ توليف لحن لها، وقبل انتهائنا من الرحلة كنت قد انتهيت من تلحينها وغنيناها سويا».طلال وأسمر حليوة
وعن غناء طلال للأغنية روى الموسيقار غازي علي في حديث صحفي مع فقندش «عكاظ 03/04/2014م» «جاءت فكرة أن نلتقي أنا وطلال مداح وبابا طاهر زمخشري في بيروت التي كان طلال يسجل فيها أعماله لأسجل أنا أغنياتي الجديدة يومها هناك، كان ذلك بعد عامين لحنت خلالها أيضا في مصر «أسمر حليوة»، أي في العام 1964، التقينا هناك ومعنا يومها منتج الأسطوانات السعودي الشهير من المنطقة الشرقية عبدالله حبيب صاحب «توزيعات الشرق» والتقيت في حديث عابر مع طلال في أحاديث حول جديده الذي يسجله هناك، وبالمقابل طلب أن يعرف ماذا أريد أن أسجل بصوتي فأسمعته «سلام لله» التي كنت قد كتبتها لأقدمها بصوتي، أصر طلال أن تكون الأغنية له وبصوته قائلا: لا هذه لي هذه أغنيتي، قلت تفداك وبعدها وأنا أسمعه أغنية بابا طاهر زمخشري «أسمر حليوة» التي كنت قد لحنتها للمطربة سلامة التي اتفق معها بابا طاهر أن تكون الأغنية لها، قال طلال لا وهذه أغنيتي «يابوي ابن البلد أولى بخيرها» قلت فداك… ودخلنا ستوديو جورج شلهوب بقيادة المايسترو الكبير عبود عبد العالـ رحمه الله ـ وهو الأستوديو الذي كنا نسجل فيه معظم أعمالنا السعودية».
واذيعت الأغنية وانتشرت في عموم الإذاعات العربية والعالمية منها إذاعة الـ بي بي سي العربية، لتصبح أحد أشهر الأغاني السعودية والعربية في ذلك الوقت، ورائعة الثلاثي الزمخشري وغازي والمداح. وغناها الفنان علي عبد الكريم بدلا من الفنان طلال مداح في حفل الأسرة الفنية بفندق الكعكي بجدة في العام 1405هـ/1985م بمناسبة حصول الأديب على جائزة الدولة التقديرية للأدب، حيث كان طلال خارج البلاد آنذاك.وعلى ضوء ذلك الاهتمام والإقبال على الأغنية فإنني أدعو هيئة الموسيقى السعودية إلى رعاية وتبني الإرث الفني الذي خلفه الأديب بدء بإعادة إنتاج أغنية «أسمر حليوة» بالتنسيق مع الورثة وأصحاب الحقوق الآخرين.
الجدير بالذكر أن الأديب طاهر زمخشري والموسيقار غازي علي ربطتهما علاقة صداقة وطيدة أسرية وفنية منذ قدوم الأخير من المدينة المنورة وهو يافع لإكمال دراسته المتوسطة في جدة والتحاقه ببرنامج الأطفال «بابا عباس» الذي تعرف من خلاله على «بابا طاهر» إبان إشرافه على الإذاعة. إذ لفت انتباه بابا طاهر موهبته الفنية فتبناه واهتم به وتابعه خلال إقامته في مصر والتحاقه في معهد الكونسرفتوار في العام 1960م لدراسة الموسيقى، كأول طالب غير مصري يقبل في المعهد على حسابه الخاص لما أظهره من موهبة فنية عالية. وكان الأديب رحمه الله مشجعًا وموجهًا له طيلة فترة دراسته، فتفوق على كافة زملائه، واستطاع أن يضع يده على مفاتيح التراث لينتج في وقت مبكر جدًا مجموعة من الروائع الخالدة قبل حصوله على البكالوريوس في العام 1967م بامتياز. وغنى ولحن من كلمات الأديب الزمخشري (بين ذراعيها، فضل الله، يا أم العروسة). وقدم مجموعة من الالحان لفنانين عرب تغنوا بكلمات الأديب منها (يا ليالينا الجميلة – وديع الصافي، أسرع من البوينج – هناء الصافي، يا شجرة الجنزبيلة – سميرة توفيق، حليوه بالجمال فتَّان – هيام يونس، أنا والسهد، وسلَّم علىَّ الورد – سَلاّمة).
أما طلال مداح فقد ربطته بالأديب علاقة صداقة روحية فنية منذ مطلع الستينيات الميلادية وقدمه للرئيس التونسي الحبيب بو رقيبة عام 1969م وكانت هذه بداية انطلاقة طلال في بلاد المغرب العربي الذي غنى من كلمات الأديب «علميني، مر في تيهه» بالإضافة إلى «أسمر حليوة» وكتب فيه ألأديب قصيدة «يا طلال» نشرت عام ١٩٦٣م -١٣٨٣هـ، وقصيدة يا «معزف الحب» نشرت في ديوان نافذة على القمر 1970م-1390هـ.
رابط المقال على صحيفة غرب الإخبارية
-
طاهر زمخشري وتأسيس أول بلدية للرياض
تداول عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي. صورة ضوئية لوثيقة كنت قد نشرتها في (٢١ أغسطس ٢٠١٦) ضمن منشور على صفحتي في الفيسبوك. تضمنت للأمر السامي بـ تأسيس أول بلدية للرياض. الذي نشرته جريدة أم القرى في عددها 922 الصادر في 16 شعبان 1361هـ 27 أغسطس 1942م. ونص على “لقد صدر الأمر السامي على أمين العاصمة بتشكيل إدارة بلدية للرياض. فرشح لذلك الموظفين اللازمين وقد صدر الأمر السامي بالموافقة عليهم وهم كالآتي:
الرئيس: محمود صالح قطان، الأعضاء السيد مصطفى أصغر الشيخ شفيق حريري. السكرتير طاهر زمخشري. المحاسب وأمين الصندوق خليل كتبخانة. كاتب الادارة بكر زمخشري. المهندس صالح جاوا. المفتشان حسن قباني. زياد عرفاء ومراقبون.” وأضافت الصحيفة أن المرشحين “سيغادرون العاصمة إلى الطائف للسلام على صاحب السمو الملكي النائب. المعظم ثم يواصلون السير في طريقهم إلى الرياض لاستلام زمام عملهم”.
الأمر السامي بتأسيس بلدية الرياض وفي ظل هذا الاهتمام، وجدت من المناسب أن أسلط الضوء من خلال هذه السطور المضيئة. على جانب من تاريخ تأسيس أول بلدية للرياض من مذكرات الأديب طاهر زمخشري. التي روى جانب منها في لقائه التلفزيوني مع الدكتور عبد الرحمن الشبيلي -رحمهما الله-. في برنامج شريط الذكريات 1976/11/25م. وما سمعته منه من حكايات عن تلك الحقبة. سردت جانبا منها في كتابي الماسة السمراء بابا طاهر زمخشري القرن العشرين2005م. خصوصا وأن هناك اهتمام متزايد من الباحثين والمؤرخين بالتنقيب عن مزيد من المعلومات التاريخية عن تأسيس بلدية الرياض. كالكاتب والمؤرخ محمد عبد الرزاق القشعمي الذي طالب في مقاله “متى تأسست بلدية الرياض؟!!” المنشور في مجلة اليمامة العدد 2646 (11/02/2021م – 29/07/1442هـ). بأن يساهم من لديه معلومات عن تأسيس البلدية بأن يدلي بدلوه.
القاء قصيدة بين يدي الملك عبد العزيز:
صورة الأديب طاهر زمخشري – برنامج شريط الذكريات 1976م وعن ذلك، روى الأديب طاهر زمخشري رحمه الله: “عندما ذهبت إلى الرياض كانت أجمل فترة. ففيها أول مرة وقفت وبرزت كشاعر وخطيب. فقد كنت سكرتيرًا للشيخ عباس قطان أمين العاصمة المقدسة آنذاك. ورقاني كخبير في الشؤون البلدية. ورشحني لأكون سكرتير للشيخ محمود صالح قطان. في مهمة تأسيس أول بلدية للرياض. على أن ينضم إلينا في الرياض الشيخ عبد الله الخويطر. والد عبد العزيز الخويطر. وكان يشغل مدير مالية جدة. وتركي العطيشان ولكنه لم يباشر معنا.
وأعلنا في جريدة أم القرى عن حاجتنا إلى شوش لبلدية الرياض. جهزنا قافلة ضمت رئيس البلدية الشيخ محمود صالح قطان والهيئة. أذكر منهم الشيخ شفيق حريري ومصطفى أصغر وأخذنا معنا كل ما نحتاجه لمهمتنا من مساحي ومكانس وفوانيس وشوش. استغرقت رحلتنا 6 أيام. خلالها طُلب مني أن أكتب قصيدة ألقيها بين يدي جلالة الملك عبد العزيز. ترددت خوفًا من الموقف. لكنهم أصروا عليَّ وقالوا لي اكتبها ونحن سنشجعك على إلقائها أمام الملك. فنظمت 30 بيت خلال اليومين الأخيرين من الرحلة. وصلنا الرياض وذهبت في معية أعضاء الهيئة وعدد من وجهاء الرياض للسلام على جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله.
والطرافة في القصة. أني وضعت القصيدة في جيبي وكنت كل شوية أراجعها لأحفظها. حتى لا أتلكأ أمام الملك. وكان في تلك الأيام موضة جديدة للثياب بحياكة جيب علوي وضعت فيه القصيدة. قابلنا الملك عبد العزيز كان منظره مهيب. وقفت لألقي القصيدة وقلت له السلام عليكم. وبدأت أفتش في جيوبي الجانبية عن القصيدة فلم أجدها. 4-5 دقايق وأنا أبحث عن القصيدة. فقال لي الملك وش تبي تقول. وأنا أقول السلام عليكم ورحمة الله. فأتاري القصيدة في الجيب الفوقاني وأنا أبحث عنها في جيوبي الجانبية. لأني نسيت أنه في جيب فوقاني، فكان هذا أول موقف وقفت فيه أخطب وألقي قصيدة بين يدي ملك”.
لقاء الأديب طاهر زمخشري في برنامج شريط الذكريات مع الإعلامي الراحل عبد الرحمن الشبيلي -رحمهما الله- 1976م ذكريات البلدية
ومن جهة أخرى، قال رحمه الله “كانت ظروف عملي بالبلدية سببًا في الانطلاقات الاجتماعية الكبيرة التي حقَّقتها. فقد تعرَّفت على صور متباينة من الناس، ووقفت على تعامل الأفراد مع المجتمع، وعرفت الحياة بصورة أوسع.. ففي تلك الأثناء كان الأستاذ عبد الله بلخير يعمل في الشعبة السياسية بالقصر الملكي. فهو شيخ السياسية وشيخ الإِذاعة. وكانت دارته ملتقى عشاق الأدب. وقد أحسن ضيافتنا..
وكان الشيخ عبد الله الخويطر هو الموجه لنا في البلدية إذ واجهتنا الكثير من المشاكل. ومنها شكوى أهالي الرياض بأننا ازلنا الوقف. فغضب جلالة الملك عبد العزيز من ذلك. فاستدعانا من سكننا في المقيبرة. فذهبنا إليه على الفور ونحن خائفين ولا نعلم ما الأمر. فقد كان يحيطنا أفراد من الحرس الملكي مدججين بالسلاح. دخلنا على الملك. وكان غاضبًا فسألنا لماذا غيرتم مكان الوقف الذي يوزن عليه الناس السمن؟ فشرحت لجلالته اننا أحضرنا موازين ومكاييل على الطريقة القانونية ونضع على كل تنكه توزن رقم. وأحضرنا معنا موظف مخصص لهذه المهمة واعطينا له صباغ.. حيث كان الناس يزنون السمن دون مقابل. وحينها أدرك جلاله الملك ما قمنا به وفائدته للناس والبلدية. فقال “اذن ازيلوا الميزان”. فقلنا له طال عمرك نريد أن ننظم سوق المقيبرة هذا. ونزيل الدكاك التي وضعوها. فقال ازيلوها وهكذا أخذنا تأييده باستخدام ميزان البلدية القانوني”.
طرفة أدبية في منزل الشيخ الشلهوب
ومن ناحية أخرى، واكبت إقامته في الرياض وعمله في البلديه نشاطات أدبية وذكريات جميلة وطريفة. منها ما رواه رحمه الله “دعاني في أحد الأيام الشيخ عبد العزيز الشلهوب عندما كنت في بلدية الرياض إلى منزله. ودعا المشايخ من أصدقائه. وقدمني لهم فقال: أقدم لكم طاهر زمخشري شاعر الحجاز الفاسق. فقال أحد المشايخ كيف تحكم عليه بهذه التسمية؟ دعنا نسمع منه وبعد ذلك سوف نحكم عليه إذا كان فاسقًا أم لا. فاستحلفني عبد العزيز أن أقول قصيدة من أجمل ما كتبت في الغزل. وكان الموقف محرجًا وصعبًا بالنسبة لي فقلت لهم قصيدة طويلة منها:
لـــــم أنـــس لمـــا كســـر الغنــج جفنه *** كمــا أحمـر مــن فــرط الحيــاء سبيــل
وأطبـــــــق للشـــــــعر وكتــــــــــائب *** علــى رأســـه الرجــــاف منـــه فلــول
فقـــامت تهــــادي فــــي دلال ورقـــــة *** وارتمت من سحرها حول الفرات ذيـول
ولفــــت حـــــول خصـــري وهمـــــت *** تـتـــمتم بالألفــــــاظ وهــــــي تقـــــــول
فقالـت رأيتُ البـــدر تعنــــي شــــبيهها *** فقلــت: بلــــى والله وهـــــو خجــــول
فمــا لاح حتـــى أن تبــــدت سحابـــــة *** تربعـــت فيهــــا والســــحاب ســـدول
يحـــاذر أن يلقــــى ســـناك فينطـــوي *** ويرميــــه بالإشــــراق منـــك أُفـــول
فقلــت كذلك الصبــح مـا شــاع ضـوءه *** هـــــذا الليـــــــل فهــــــو ثقيـــــــــل
فقلــت كـذلك الصبــح غيـران لذوري *** وكأنـــك لــــم يشـــف الفــــؤاد بديــــل
وكان المشايخ مبسوطين من حلاوة شعري، وواصلت..
فقالــت: وقــــد دب النعـــــاس بجفنهــا *** إذن ليــس لـــي فــي العــالمين مثيـــل
لأنـــي فـــي دنيـــا المفــــاخر كوكــب *** صبـــــــح والخـــــــــدود أصيــــــــل
ونــامـت وحــولي غمــرة من ضيــائها *** فقلــت: ألا ليــــت العنـــــاق يطـــــول
بعد ذلك، سكتُ قليلًا وقلتُ لهم:
فتشتُ مـــن حولــــي إذ طيف غــادة *** وطيف الغوانــي فـــي المنــــام ختــول
فقال والله يا خبيث لم تضع البيت الأخير إلا خوفًا من المشايخ. فسألوني هل وضعت البيت خوفًا منا. قلت: لا أبدًا كانت القصيدة حلم من أحلام النوم ولن ننسى دور ثقافة الفلاح الإسلامية فأنا واحد من خريجيها”.
دعوة لتكريم مؤسسي بلدية الرياض
وبانتهاء مهمتهم بتأسيس بلدية الرياض التي تخللها أيضًا تأسيس بلديتي الخرج والليث. عاد إلى مكة.
وكان الشيخ سليمان المشيقح أول رئيس لبلدية الخرج رحمه الله قد ذكر في حواره مع الإعلامي محمد الوعيل بصحيفة الجزيرة (العدد 5545 في 1408/04/13-1987/12/04م) بأن الشيخ محمد سرور صبان القائم بأعمال وزير المالية قد أصدر أمرًا في 1362/03/15هـ. بتوجهه إلى الخرج ومع وصوله صدر أمر وزير المالية عبد الله السليمان بتعيينه رئيسا لبلدية الخرج على أن يكون مرتبطًا به من الناحية الإدارية. وعينوا له الأديب طاهر زمخشري مشرفًا على مكتبه ومرشدًا له في عمل البلدية بحكم خبرته السابقة في بلدية مكة المكرمة. خلالها قاموا بتخطيط مدينة الخرج بدون مهندسين ووضعوا الشوارع الكبيرة وأسمو الشوارع وأنشئوا سجلا للأملاك.
وبانتهاء تلك الأعمال عاد الزمخشري لمكتب وزير المالية بمكة المكرمة الذي كان يرأسه آنذاك الأديب الكبير محمد حسين زيدان – رحمه الله-. تاركًا خلفه تاريخًا كاد أن يندثر. لولا اجتهادات بعض الباحثين. التي حفظت شيء من ذلك التاريخ. كالباحث فهد المفيريج الذي وثق في بحث له تاريخ تأسيس أول بلدية في الرياض. نُشر جانب منه في صحيفة سبق. بعنوان ((قبل 80 عاماً.. تعرّف على أعضاء ومكان تأسيس بلدية الرياض)) في 20/05/2020 – 27/09/1441هـ وأورد فيه نص الأمر السامي بتأسيس بلدية الرياض. وأسماء المرشحين من مكة المكرمة للقيام بهذه المهمة. وأسماء الفريق الذين انضموا إليهم من الرياض. وهم عبد الله الخويطر وسعد بن سعيد وعبد العزيز بن مبارك بن حلوان وعبد الله بن محمد الحكير.
وأشار، إلى أن مبنى البلدية بني عام 1359هـ – 1940م. وأن ملكيته كانت تعود إلى أحد وجهاء الرياض في ذلك الوقت عبد العزيز بن عبد الله بن حسن. ويوجد في حي الظهيرة – حوطة خالد. وسكنه عدد من الوجهاء. منهم الشاعر نافع بن فشلية الحربي. ثم الوزير عيد بن سالم، ثم آلت ملكيته إلى القاضي عبد الرحمن بن فيصل التركي.
وذكر أن البلدية بدأت في ممارسة مهامها بالرياض. فتم تشكيل جهاز للإشراف على النظافة وإلغاء الموازن القديمة للأغذية وبدأ تعديل عرض الشوارع بحيث لا يقل عن 6 أمتار.. وأن وجهاء الرياض طالبوا التشرف بمقابلة الملك عبد العزيز هم وأعضاء الجهاز البلدي. وتشرفوا بالسلام عليه وألقى الشاعر الزمخشري قصيدة ذكر فيها خصال الملك الحميدة وذكر فيها محاسن الرياض.
ولعلها فرصة مناسبة أن أدعو في ظل هذه الأيام التي تشهد فيها المملكة اهتماما بالغًا بإحياء إرثها التاريخي وتكريم رواده. بتكريم أولئك الرواد الذين ساهموا في تأسيس أول بلدية للرياض. وتخليد ذكراهم بوضع أسمائهم وصورهم في لوحة شرف على مدخل مبنى البلدية. وتسمية شوارع رئيسية في الرياض بأسمائهم وفاء لهم وتقديرًا لما أنجزوه.
الرئيسية
عدد المشاهدات 994