في مثل هذا اليوم قبل 40 عاما (الأحد 8 شعبان 1405هـ – 28 أبريل 1985م) امتلأ بيتنا مساء ذلك اليوم بمجموعة من الأسرة والأصدقاء المهتمين والمحبين لجدي بابا طاهر زمخشري -رحمه الله- لمتابعة حفل تسليم جائزة الدولة التقديرية في الأدب لعام (1404هـ) برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- والذي أُعلن فيه عن تكريم بابا طاهر بمنحه الجائزة إلى جانب الأمير عبد الله الفيصل، والأديب أحمد عبد الغفور عطار -رحمهم الله- حيث إنها كانت المرة الأولى التي سيحظى فيها بابا طاهر بمثل هذا التكريم على مستوى المملكة.

وما أن بدأت القناة السعودية الأولى ببث وقائع الحفل على الهواء مباشرة حتى تحلقنا جميعًا أمام شاشات التلفزيون الموزعة في غرف المنزل، وتابعنا باهتمام برنامج الحفل كسائر أفراد المجتمع المهتمين بالأدب والثقافة وعشاق الرواد الفائزين.

توالى برنامج الحفل بالكلمات الافتتاحية ومن ثم تسليم كل فائز جائزته من يدي خادم الحرمين الشريفين وألقيت كلمة كل فائز بالنيابة عنه، وما أن جاء الدور على بابا طاهر ونودي على اسمه للصعود إلى المنصة للسلام على الملك فهد واستلام جائزته أخذ خطاه إليها برفقة ابنه «خالي د.فؤاد»، وقريب لنا «محمد يحيى».

واستلم جائزته من يدي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد الذي اقترح عليه بأن يلقي ابنه كلمته نيابة عنه مراعاة لظروفه الصحية لكنه قال للملك لقد أتيت من تونس خصيصًا لهذه اللحظة فوافقه الملك. فتوجه إلى المنبر متثاقل الخطى مسنودًا بمرافقيه حتى وصل إلى المكان المخصص لإلقاء كلمته التي افتتحها بقوله: «بسم الله الرحمن الرحيم.. السلام عليكم.. مولاي، أصحاب السمو الملكي أصحاب المعالي والفضيلة الوزراء والعلماء، حضرة الحفل الكريم، أنا طاهر زمخشري المعروف كما قيل عني كومة من الفحم سوداء تلبس ثيابًا بيضاء تقول شعرًا قصائده حمراء وخضراء وصفراء..» ففوجئ الجميع بهذا الاستهلال المرتجل ودوّت القاعة بالتصفيق وسادها جوٌ من البهجة والمرح.

بابا طاهر زمخشري أثناء تسلمه لجائزة الدولة التقديرية في الأدب لعام 1404هـ من يدي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ويظهر في الصورة الأمير فيصل بن فهد، وخالي د. فؤاد زمخشري (رحمهم الله جميعًا)

وأكمل قائلًا: «ومن قصائدي البيضاء أن أغني للحب وأن أغني للوفاء كما عشت أغني للحب والوفاء في مشواري الطويل.. الآن خطوتي.. خطوتي…” فسكت لوهله محاولًا أن يتذكر بيته من الشعر قائلًا.. قد كبلت خطوتي، وأدرك أنه ليس البيت الصحيح وجاهد محاولًا التذكر فسكت ثانية وبعفويه أثارت انتباه الجميع قال “نسيت”. فدوّت القاعة بالتصفيق ثانية، وفي هذه الاثناء ذكره خالي فؤاد بمطلع البيت (خطوتي تلتوي). فاستحضر ذاكرته واستجمع قواه وانطلق مكملاً «خطوتي تلتوي وما عُدتُ أمشي لا.. ولا أستطيع حتى القعودَ، ولكني مع ذلك جئت من تونس بإصرار لأشارك هذه الحفلة، ولألقي قصيدتي بإصرار، على الرغم أنه اقترح عليَّ أني تعبان ومريض ولازم يُلقيها عنِّي أحد أبنائي المذيعين أو ابني فؤاد، فأصررتُ أن أغني لهذه الحضارة وأن أغني لهذه الحركة.. قد لا تشعرون بها بالداخل، ولكني أعيش في تونس على صداها، بالفرحة على سريري الأبيض، وأعطتني الدفق، والحياة، والقوة، لأقف موقفي هذا وأنا مريض». وما كاد أن ينتهي من جملته هذه حتى دوّت القاعة بالتصفيق مرة أخرى، فصمت لبرهة استرعت انتباه الجميع فساد السكون القاعة، واستهل قصيدته بصوت شاعري رقيق منادٍ الملك فهد بـ يا أعذب الحب وكررها مكملاً:

يا أعذب الحُبِّ أمالي قد ابتسمت *** في محفل رقصت في جوِّه النِّعمُ

وقد بسطتَ بها فيئًا يُظللنا *** والخير ما زال فيَّاضًا به الكرمُ

وأتبع ذلك بـ 35 بيتنا تخللها تصفيق الحضور إعجابًا ببراعة الإلقاء وجمال المعنى وختم قصيدته بـ:

وللفداء لكم شعب عقيدته *** صدق الوفاء وإن الشاهد القسم

وما أن انتهى من قصيدته حتى دوّت القاعة بتصفيق حار عكس مدى إعجاب وتقدير الحضور وغمرت الفرحة جميع من كان في البيت من ذلك المشهد وانهالت الاتصالات علينا بالتهنئة والتبريكات على ذلك الظهور والنجاح المنقطع النظير الذي حققه بابا طاهر. وبدى لنا وكأنه قد حقق أسمى أمانيه الوطنية والأدبية، وأصبح مرتاحًا ومتهيأ لما قُدر له وذلك ما التمسناه من ثنايا ما قاله في قصيدته:

قد كبلت خطوتي أثقال داهية *** ونافس الداء في أعضائي السقم

وما تبرمت منها وهي ترهقني *** فللتصاريف من أقدارها حكم

وما تألمت فالأطياف من بلدي *** وبالسنا من رؤاها عولج الألم

وكان -رحمه الله- قد روى حكاية تلقيه نبأ فوزه بالجائزة حينما كان في تونس والشعور الذي غمره في حواره مع صحيفة اليوم الذي نشر في ذلك اليوم (الاحد 8 شعبان 1405 العدد 4380) حيث قال “الموضوع كان كالتالي، أمين سر لجنة جائزة الدولة الأستاذ عبد الرحمن العليق أتصل بي في السفارة السعودية ولم يستطع أن يحصل على رقم هاتفي، وحتى وصلت البيت دق جرس التلفون وإذا بسمو الأمير فيصل بن فهد على الطرف الآخر من الخط حيث نقل لي نبأ اختياري للجائزة وتهنئة جلالة الملك. ساعتها لم تسعني الفرحة وشعرت بالفخر والاعتزاز حتى أنني من شدة فرحتي صمت عن الكلام وانتابني شعور بروعة ما يجري وما يدور حولي”.

وأعتقد أن ما زاد من فرحة بابا طاهر هو تعزز شعوره بعمق تلك العلاقة التي كان يكنها له الملك فهد ونجله الأمير فيصل -رحمهما الله- حيث حكى لي عنها في رحلتي معه إلى تونس عام 1395هـ/1975م بعد اللقاء الذي جمعنا بالأمير فيصل في فندق «هيلتون» عندما كان في زيارة رسمية لمباركة وإطلاق تعاون ثقافي وفني بين المملكة وتونس إذ قال لي بابا طاهر «إن هذا الشبل من ذاك الأسد؛ فالأمير فيصل استمد اهتمامه وحبه للأدب والفكر من والده الملك فهد الذي جمعتني به علاقة صداقة منذ أن كان وزيرًا للمعارف، وقدم لي كل ما يمكنه من دعم لمجلة «الروضة»، وهكذا انتقلت صداقتي معه إلى نجله الأمير فيصل، ولهذا السبب حرصت على مقابلته وأنتم معي كي تتعلما أهمية الصداقة والوفاء ودور رواد الأدب والثقافة الذين يعملون خلف الكواليس؛ ومنهم الأمير فيصل بن فهد عبر الرئاسة العامة لرعاية الشباب».

وقد التمست ذلك المعنى من خلال قراءتي لقصيدته «فهد في الخضراء» التي نظمها في الملك فهد وألقاها في حضرته بمناسبة أول زيارة له لتونس ونشرها لاحقًا في ديوانه «الشِّراع الرَّفَّاف 1394هـ/1974م». كذلك قصيدته في الأمير فيصل بن فهد بعنوان «فيصل أنت!» التي نظمها بمناسبة زيارته لتونس في نطاق نشاط وزارة الشباب والرياضة العرب ونشرها في ديوانه «عبير الذِّكريات 1400هـ/1980م».

الملك فهد بن عبد العزيز أثناء إحدى زياراته الرسمية ويظهر خلفه بابا طاهر زمخشري (رحمهم الله)

وعلى الرغم من مرور 40 عاما على كلمته المرتجلة في تلك الليلة “أنا طاهر زمخشري…” إلا أنها لا تزال عالقة في أذهان كل من استمع أو شاهد الحفل، فضلًا عن أنها أصبحت متداولة بين جيل اليوم من الذين لم يروه أو يعرفوه من قبل.

ولعلي أجدها فرصة مناسبة بأن أنادي بإعادة جائزة الدولة التقديرية للأدب فتكريم الأدباء والمفكرين والشعراء ظاهرة حضارية اهتمت بها الدول والمجتمعات على مر العصور، ولا زالت الدول خصوصًا المتقدمة منها تحتفي سنويًا بأدبائها ومفكريها وعلمائها ونجومها في شتى المجالات بتخصيص الجوائز والأوسمة التقديرية لهم.

وكانت جائزة الدولة التقديرية في الأدب أنشئت في العام (1403هـ/1983م) باقتراح من الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز آل سعود -رحمه الله- الرئيس العام لرعاية الشباب آنذاك. بهدف تكريم الرواد في مجال الفكر والثقافة والأدب والحفاظ على التراث الأدبي واللغوي وتنمية وتشجيع الأدباء على الإجادة والإتقان والإبداع. على أن تُمنح سنويًا لثلاثة من الأدباء السعوديين ممن هم فوق سن الـ 50 عاما الذين أسهموا في إثراء الميادين الدينية والأدبية والفكرية في السعودية، ويحصل الفائز بموجبها على ميدالية ذهبية، وبراءة، ومبلغ 100 ألف ريال مدى الحياة. وكان أول الأدباء الفائزين بها حمد الجاسر، أحمد السباعي، عبد الله بن خميس. واستمرت الجائزة لدورتين وتوقفت في العام 1405هـ.

كما أجدها فرصة أيضًا للاقتراح على وزارة الثقافة وكافة المراكز البحثية بأن يتبنوا مشروعا ينفذ ما خلصت إليه الأمانة العامة لجائزة الدولة التقديرية في الأدب في كتيبها الذي أصدرته آنذاك “الفائزون بالجائزة للعام 1404” بـ “إن طاهر زمخشري الذي نال جائزة الدولة التقديرية في الآداب لهذا العام (1404هـ) ما زال وسائر زملائه الرواد بحاجة إلى دراسات تتناول بالبحث زوايا مختلفة من إبداعه الشعري، بما يوفيه بعض حقه على جمهور الباحثين والنقاد”.

كتيب الفائزون بالجائزة
كتيب الفائزون بالجائزة لعام 1404 الصادر عن اللجنة العامة لجائزة الدولة التقديرية في الأدب

واختم دردشتي هذه بأبيات للشاعر المصري محمد مصطفى حمام – رحمه الله –

أكرمْ به من «طاهرٍ» مُطَهــرِ

وعالِم موقَّــــــــرٍ «زمخشري»

وكاتبٍ خِصْبِ البيـــــانِ مُزهرِ

وشاعرٍ سامي الخيــالِ عبقري

ربُ الأغاريد، وشادي المْعشَر

وصائغْ الشِّعر كصَوْغِ الجوهر

عدد المشاهدات 304