Share

استكمالًا لقصة إيمان السليماني في جزئها الرابع من هذه السطور المضيئة، أشير إلى أنه في الوقت الذي كانت تتأهب إيمان وأسرتها لأول زيارة لجمعية إبصار الخيرية بجدة. كانت الجمعية قد اكتسبت زخمًا إعلاميًا بما تقدمه من خدمات وأنشط توعوية مختلفة. لعبت دورًا رئيسيًا في وضع «إيمان» على عتبات عالم جديد بدأته والدتها وشقيقتها «أماني».

التمهيد لزيارة إبصار

تقول «أماني»: “بعد تلك المكالمة الأولى مع أ. محمد توفيق مدير الجمعية آنذاك استبشرت خيرًا، وتلاشت لدي مخاوف عدم استفادة إيمان من الجمعية. وشرحت لوالدتي ما نحتاجه من تعديلات في المنزل فرحبت بذلك وأذنت لي بتعديل كل ما يلزم.

وأخذت على عاتقي هم إقناع «إيمان» بالذهاب للجمعية ومراجعة عيادة ضعف البصر للحصول على المعينات البصرية والخدمات الأخرى اللازمة لها، حيث كانت تتحاشى الاختلاط بالناس والافصاح عن مشاعرها وشرح حالتها خاصة بعد تجربتها المريرة مع المدرسة.

ولكن كنت متأكدة أن الأمر يستحق المحاولة. فعقدت العزم وأبلغتها بأنني تواصلت مع الجمعية وأنهم مرحبون بها وأن الأبواب مفتوحة لها متى ما أرادت. وأن هناك برنامج تأهيلي ينتظرها. فكان رد فعلها الأول سؤالي بخوف “هل هي مدرسة داخلية؟”. ولعلها كانت لا تزال تختزن في ذاكرتها برأي المعلمات في المدرسة بضرورة إلحاقها بالقسم الداخلي بمعهد النور للكفيفات بجدة.

فطمأنتها بالنفي، وشرحت لها باختصار عن الملاحظات التي أخبرني بها أ. محمد مثل أن النور الساطع المتوهج لا يساعدها على الرؤية على العكس مما كنا نظن، وأن تكبير شاشة التلفزيون لا فائدة منه، فبدت معالم الارتياح تظهر على وجهها مما يؤكد صحة تلك الملاحظات، واقتنعت بخوض تجربة الذهاب إلى الجمعية”.

أول زيارة لجمعية إبصار

تقول «إيمان»: “في اليوم المحدد ذهبت برفقة والدتي وشقيقتي «أماني» للجمعية، وأنا مليئة باليأس والإحباط، فقد كنت على قناعة بأن الأمر لن يختلف عن تلك الزيارات لعيادات العيون وشيوخ العلاجات الشعبية والروحية. وأنه لا حل لمشكلتي البصرية.

وصلنا إلى مقر الجمعية بمركز فلسطين التجاري. ودخلنا وأول ما لفت انتباهي هدوء المكان ونظافته، ورائحته العطرية، وإضاءاته الساطعة غير المتوهجة، والخطوط الزرقاء والحمراء على الحوائط والزوايا، واللون الأصفر المنجاوي في الحواف العلوية، والأسود في الحواف السفلية. ولا شعوريًا وجدت نفسي أتتبع تلك الخطوط وأمشي بثقة واستقامة نحو الاستقبال الذي أكملنا فيه فتح الملف، وأُحلنا إلى غرفة الاجتماعات وانضم إلينا أ. محمد توفيق.

رحب بنا وعرفنا بنفسه، ومع بداية تبادلنا الحديث، باغتني بسؤال مستفز كنت أكرهه منذ المدرسة وهو “ماذا تستطيعين أن تري بعينيك؟”، اغتظت من السؤال وتهربت من الإجابة، ووددت أن ينتهي لقائنا على الفور. لكن الحديث تواصل مع والدتي وشقيقتي بتعريفه عن الجمعية وخدماتها ثم أخذنا في جولة وأطلعنا على مرافقها.

وما أن تقدمنا بدأت أراقب حركته واندهشت وتعجبت من كيفية مشيه وتنقله باستقلالية بين المكاتب بكل يسر وسهولة، وتعرفه على الموظفين فردًا فردًا بأصواتهم وتعريفهم بنا.

صورة لمقر جمعية إبصار
صورة لمقر جمعية إبصار

وبنهاية الجولة أحالني إلى عيادة ضعف البصر، حيث تم فحصي من قبل أخصائية ضعف البصر «وداد عباس» التي وصفت لي نظارة طبية كانت سميكة العدسات وثقيلة الوزن لم ارتح لها، وتم تسجيلي في برنامج لإعادة التأهيل، على أن ابدأه في أقرب فرصة ممكنه”.

الحقيقة إن ما لم أخبر به «إيمان» وأسرتها هو أن سؤالي ذاك الذي كرهته عن حالتها البصرية ومرافقتي لهم في اقسام الجمعية، هي استراتيجية انتهجتها لتقييم مدى تقبل المعاق لحالته وتكيفه معها، وتقديم نموذج عملي أمامه وأسرته للتأكيد على أن الإعاقة البصرية ليست عائقًا من قيامه بأي مهام أو عمل في حياته اليومية. وهي الخطوة الأولى التي بدأتها في البرنامج التأهيلي لـ «إيمان»، حيث كنا نقدم في تلك الأيام برنامج إعادة تأهيل لذوي الإعاقة البصرية يشمل تقويم الحالة البصرية، وتقييم الحالة الاجتماعية والنفيسة، ثم الحاق المستفيد بدورات تدريبية في استخدام المعينات البصرية والتقنيات المساندة وطريقة برايل والتوجه والتحرك الآمن بهدف إكسابه المهارات الأساسية لتمكينه من الاعتماد الذاتي على نفسه في حياته اليومية، وتوعية وإرشاد أسرته في كيفية التعامل معه بالطرق الصحيحة.

برنامج إعادة التأهيل

تقول «إيمان»: “بعد أسبوعين من زيارتنا الأولى لإبصار بدأت برنامجي لإعادة التأهيل بدورة التوجه والتنقل الآمن مع المدرب راضي الشبعان، وكان معي والدتي وشقيقتي أماني و2 من كبار السن المكفوفين.

في البداية كان معظم ما يدور في الدورة والجمعية من أحاديث عن الاعاقة البصرية والتعامل معها وتجارب المعاقين التي مروا بها. انزعجت وتذمرت من ذلك كثيرًا فلم أكن أعترف بأني معاقة بصريًا، ولا أرغب في سماع أي شيء عن الإعاقة البصرية، فانعكس ذلك على حالتي الصحية وامتنعت عن مواصلة الذهاب إلى الجمعية، ولكن إصرار والدتي وتطلعها إلى أن تراني متجاوزة لإعاقتي البصرية وأتعلم شيء جديد في حياتي، جعلها تأخذني إلى الطبيب الذي يتابع حالتي الصحية العامة، فسألني عما أصابني؟ فقلت له بصراحة إن تلك الجمعية التي أذهب إليها في جدة لا أحبها، ولا أحب ما يدور فيها من أحاديث عن حالتي البصرية. فهدأني وقال لي إن هذه ليست مشكلة تستلزم كل هذا الغضب وأن عليَّ أن أتقوى واستمتع بالتدريب، وأقنعني بضرورة الاستمرار فيه. فاستئنافنا الذهاب إلى الجمعية والانتظام في البرنامج التدريبي بعد التنسيق ما بين شقيقتي أماني والأستاذ محمد توفيق”.

وعن ذلك تقول «أماني»: “بعد اتصال أ. محمد عدنا للجمعية، واتذكر حسن استقبال أفراد أسرة الجمعية لنا والأستاذة هناء الشطيري التي عرفت نفسها بأنها مساعدة المدير للشون الإنسانية والثقافية وأنها مكلفة بمتابعتنا، وتقديم كل ما يلزمنا من مساعدة، فكانت بمثابة الأخت والمعينة لنا بالمتابعة والوقوف على كل احتياجاتنا طيلة فترة البرنامج التدريبي الذي كان له أثر كبير في لفت انتباه ايمان للجمعية وعاملًا هامًا ومشجعًا لنا لاستكمال الدورات التأهيلية الأخرى.

وما زاد في ذلك هو ابتسامة المدرب راضي الشبعان التي كانت لا تفارق محياه، وكان صوته واضح وقوي ويجيد استخدام الكلمات المعبرة عما يشعر به المعاق بصريًا، وما يخالج صدر المقربين منه، وتركت تعليماته وتوجيهاته بصمتها المضيئة داخلي ووالدتي حيث علَّمَنا كيف نصنع بيئة أمانه للمعاق بصريًا، وكيف نساعده للتوجه والتنقل السليم، وكذلك استخدام العصا البيضاء والكثير من التدريبات العملية التي كانت لا تخلو من المرح.. ولن أتكلم بالنيابة عن إيمان عن مدى استفادتها من الدورة، ولكن بعد مرور أكثر من ١٦ عامًا مازلت أرى أثرها وفوائدها عليها، بل حتى أنا مازلت أستعين بما تعلمته عند وجودي وتحركي في الأماكن المظلمة والتي يتعذر عليَّ الرؤية فيها.

وأتمنى لو تُقدم مثل هذه الدورات في المدارس والجامعات ليس لتأهيل ذوي الإعاقة البصرية فحسب، بل لتأهيل المحيطين بهم من أفراد المجتمع الذين قد يتسببون في تحطيم المعاق دون أن يشعروا أو يقصدوا ذلك، فلا أنسى تلك الجملة التي قالها المدرب راضي خلال الدورة بـ “إن من أكثر الامور التي تربك الكفيف وتفقده ثقته في نفسه هي المبادرة بحسن نية إلى الإمساك به بقوة ومساعدته للعبور أو الجلوس وأن المطلوب هو تأمين البيئة وليس إحكام القبضة على الكفيف”. وأتمنى أن يسود الوعي بين أبناء وبنات المجتمع عبر الدورات والبرامج التوعوية.. وبرغم مضي كل تلك السنين ما زلت أدين بالشكر الجزيل للمدرب راضي الشبعان فجزاه الله خير الجزاء ولنا في جنة الخلد لقاء”.

أوقاتي في إبصار

تقول «إيمان» “بمرور الأيام تشجعت وتعودت على المكان، وصرت متفائلة وسعيدة جدًا بالمعلومات التي تعلمتها لأول مرة في حياتي عن مهارات المشي بالاعتماد الذاتي، والمشي مع المرشد، وطلوع ونزول الدرج، وكيفية العثور على الأشياء الساقطة والتقاطها.

كما أني وجدت نفسي أجلس لأول مرة في حياتي أمام جهاز حاسب آلي بقارئ شاشة ينطق كل حركة على لوحة المفاتيح وما على الشاشة وأتدرب عليه ذاتيًا بتوجيه ومتابعة مدربة الحاسب آنذاك «ريم أبو معروف»، فكان ذلك شيء مذهل بالنسبة لي، كما كان الكل يعملون كأسرة واحدة ويعاملونني كشخص مميز ومهم جدًا بالنسبة لهم، فانعكس ذلك على معنوياتي وحياتي اليومية إيجابيًا فأنساني مشكلة حرماني من التعليم ومشاكلي الأخرى، وجعلتنا نتحمل عبء عناء الذهاب والعودة من والى مكة كل يوم رغم الإرهاق والتعب الذي كان يسببه لنا ذلك المشوار”.

باكورة إنتاجي الفني ولقائي في مجلة إبصار

وتضيف «إيمان» ” كان لبرنامجي التأهيلي دور رئيسي في انطلاقي بفكر جديد في عالم الرسم. فبينما كنت أحضر جلساتي الارشادية مع الأخصائية الاجتماعية «ماجدة برهام» المجدولة ضمن البرنامج، دخل علينا الأستاذ محمد في إحدى الجلسات لمتابعتي. وبعد سؤالي عن حالي مع التدريب، قال لي: “أريدك أن تعرفي أننا هنا لا نريد من أي صاحب إعاقة بصرية أن يكون طه حسين. نريد من كل شخص أن يكون كما يرد أن يكون وراض عن نفسه في المقام الأول ومتقبل لواقعه وذاته”.

لقد كانت تلك الكلمات بمثابة الجملة السحرية التي لامست مشاعري وجعلتني أغير تفكيري نحو إعاقتي البصرية وبدأت أنظر لواقعي بصورة مختلفة، وتلاشت نظرتي السلبية وغيضي من سؤال الأستاذ محمد ذاك عما أستطيع رؤيته.

وفي هذه الأثناء سألتني أ. ماجدة عن هواياتي فأجبتها أنه الرسم، وإنني أرسم بالفحم. فقالت لي إذن عليكِ الاستمرارية في ممارسة هوايتك. وعلى الفور فاجئني الأستاذ محمد بطلب رسم لوحة ووعدني إذا رسمتها سيعلقها في الجمعية.

وبعد مغادرته سألت الاخصائية ماذا أرسم؟ قالت: ارسمي ما يجول في خاطرك. وبعد عودتنا للمنزل فكرت مليًا ماذا أرسم، وكيف اعبر عما يجول في خاطري، فخطر على بالي أن أرسم لوحة مجسمة يستطيع الأستاذ محمد وأي كفيف آخر أن يتلمسها ويتعرف على ما بها، وفي نفس الوقت يستمتع المبصرون بها.     فرسمت حمامة محلقة في الهواء وعلى عينيها عصبة سوداء وكتبت على جناحيها إبصار، ورسمت قيدًا كما لو أنها تحررت منه وطارت في الهواء، واستخدمت حبالًا والصقتها بالغراء على حدود الرسمة بحيث يستطيع المكفوفين لمس الحبل وتبعه لإدراك ما في اللوحة. وعنيت من الرسمة بأن الحمامة هي ذاتي أنا أو أي معاق بصريًا. وأن العصبة على عينيها هي رمز لفقدان البصر، وان جناحيها هما جمعية إبصار التي يحلق بها المعاق بصريًا، والقيد هو العوائق والقيود التي يضعها المجتمع للمعاق.

باكورة الإنتاج الفني لإيمان عبد الغني
باكورة الإنتاج الفني لإيمان عبد الغني

أحضرت اللوحة معي للجمعية فتجمع حولها الموظفين وأبدوا اعجابهم بها، وقلت لهم هذه اللوحة رسمتها للأستاذ محمد حسب طلبه وسأسلمها إليه. وعندما عرضتها عليه في مكتبه اطلع عليها وتلمسها بيديه، وأعجب بها كثيرًا وشكرني عليها وعلقها على الحائط إلى جانب باب مكتبة وقال علقتها هنا لكي يراها كل زوار مكتبي.

ومن شدة فرحي بذلك الاجراء رسمت لوحة أخرى هدية له تضمنت مجسم للحرم المكي الشريف بالحبال فعلقها داخل مكتبه.

وعلى ضوء ما التمسه موظفي الجمعية من موهبتي الفنية أحالتني مدربة الكمبيوتر «ريم أبو معروف» إلى مستشار الإعلام والعلاقات العامة بالجمعية «شادي باداود» الذي بدوره قابلني وتعرف عليَّ، واطلع على لوحاتي ومهارتي في الرسم فأجرى معي لقاء صحفي لمجلة إبصار التي كانت الجمعية تصدرها آنذاك وتتناول فيها شؤون الإعاقة البصرية والمعاقين.

فنشرته المجلة في عددها الثالث 3 سبتمبر 2007م بعنوان “إيمان.. تنسج الألوان بإحساس مرهف” تناول قصتي مع الإعاقة البصرية وحرماني من الدراسة ومشواري مع الرسم ووصولي إلى جمعية إبصار وطرح أمنيتي بأن أقيم معارض للوحاتي يعود ريعها للجمعية. فرحت وأسرتي بذلك اللقاء فرحًا كبيرًا وأصبحت الجمعية عالمي الجديد الذي عنى لي الكثير”.

لقاء إيمان عبد الغني - مجلة إبصار
لقاء إيمان عبد الغني – مجلة إبصار

رسامة إبصار

وتتابع إيمان: “بعد مرور نحو شهرين ونصف في جمعية إبصار أصبحت على علاقة جيدة مع عموم العاملين في الجمعية خصوصًا الأستاذ محمد الذي أصبح على تواصل مباشر معي ومتابع لي، وفي أحد الأيام اتصل عليَّ وأبلغني بان هناك مسابقة في مركز العون بجدة لفنون الرسم بعنوان “مسابقة مواهب الصحراء” وعليكِ أن تشتركي فيها ممثلة عن الجمعية.

تخوفت وترددت في البداية، وأمام إصراره عقدت العزم على خوض هذه التجربة وشاركت بلوحة، وكانت مفاجئتي الكبرى فوز لوحتي بالمركز الثاني.

شهادة الفوز بالمركز-الثاني-مسابقة-مواهب-الصحراء-1
شهادة الفوز بالمركز-الثاني-مسابقة-مواهب-الصحراء-1

ومن حينها أصبحت الجمعية تدعوني في جميع المناسبات والأنشطة التي يقومون بالمشاركة فيها ويخصصون جناح لما أرسمه من لوحات، حتى أصبحت ألقب بـ «رسامة الجمعية». فكان ذلك حافزًا قويًا لي بالاستمرار في الرسم واعتبرته أساسًا هامًا في حياتي، وشعرت أن حلمي الكبير بأن أكون فنانة تشكيلية ولي معارض شارف أن يتحقق”.

والحقيقة ما وصلت إليه «إيمان» هو ثمرة أولية لبرنامج إعادة التأهيل الذي كان يقوم على تنمية حواس المعاق بصريًا التعويضية وتدريبه على الوسائل البديلة لإدماجه في المجتمع بصورة طبيعية وتحويله من مجرد مستفيد من الخدمات إلى مشارك فاعل في إنجازات الجمعية وهذا ما سأسلط عليه الضوء في الجزء القادم.

الرابط المختصر لهذا المقال:

عدد المشاهدات 134
Share