استكمالًا لقصة إيمان السليماني في جزئها الخامس من هذه السطور المضيئة والتي أكدت أهمية ثقافة ووعي طبيب العيون. بضرورة الحاق ضعيف البصر ببرنامج إعادة تأهيل كما فعل استشاري طب العيون بمستشفى سليمان فقيه د. هشام حسني مع إيمان السليماني وما ترتب على ذلك من تغير حياتها إلى الأفضل.

حياة جديدة

تقول إيمان ” أصبحت أشعر وكأن الجمعية بيتي الثاني وجزء لا يتجزأ من حياتي، وهدفًا لرسوماتي التي شغلت بها كل وقتي. وبلورت فلسفة فنية تلائم حالتي البصرية تستهدف ذوي الإعاقة البصرية. كانت تعتمد على الرسم المجسم بالحبال بحيث يستطيع المكفوفون تلمس الحبال وأدراك معالم الرسمة. ورسمت عدة لوحات أهديتها للجمعية التي قامت بتعليقها في مرافقها. الأمر الذي أسعدني كثيرًا وزاد حبي للرسم وثقتي في نفسي، فتغيرت حياتي إلى الأفضل”.

وعن ذلك تقول شقيقتها أماني “صدق د. هشام، فقد تغيرت حياة إيمان إلى الأفضل لأسباب كثيرة. منها تلقيها لتدريب عملي بمستوى جيد على مهارة التوجه والتنقل الآمن. وجود أشخاص داعمين ومحبين ومشجعين لها على الانشغال بتنمية موهبتها في الرسم بالفحم. وإشراكها في مسابقات للرسم. ومقابلاتها مع وسائل الإعلام وتعرفها على إعلاميين ساعد على اخرجها من عزلتها.

كل ذلك انعكس بأثر إيجابي عليها وعلينا. فتراجع خوفنا وقلقنا عليها كثيرًا فقد ارتفعت روحها المعنوية وبدأت وكأنها قد نسيت إعاقتها البصرية. وتكيفت معها وكبرت طموحاتها واحلامها مع عالم الرسم والجمعية التي أصبحت جزءًا من حياتنا وأحاديثنا اليومية. حيث أصبحت إيمان محبة جدًا لها ومستمتعة بالذهاب إليها والاستفادة من برامجها وتتطلع لتقديم المزيد من الرسومات لها ولمستفيديها”.

إيمان أثناء إجراءها مقابلة تلفزيونية مع القناة الثانية للتلفزيون السعودي
إيمان السليماني أثناء إجراءها مقابلة تلفزيونية مع القناة الثانية للتلفزيون السعودي

إيمان.. تجربة ملهمة

في غضون ذلك اعتدت تقديم نماذج ملهمة من ذوي الإعاقة البصرية المستفيدين من خدمات الجمعية. ضمن برنامج اجتماع الجمعية العمومية السنوي العادي. 

وفي ذلك العام اخترت إيمان. لتكون نموذجًا للتجربة الملهمة التي ستقدم في الاجتماع الخامس (الثلاثاء 15 جماد الأولى 1429هـ- 15 مايو 2008م) بفندق الشيراتون بجدة. حيث إنها أظهرت بُعدًا جديدًا وأثرًا إيجابيًا لإعادة تأهيل ضعيف البصر. إذ تحولت من مجرد صاحبة إعاقة بصرية تحضر لجمعية إبصار للحصول على خدمة تدريب. إلى شريكة عمل قدمت إضافة فنية للجمعية ولذوي الإعاقة البصرية برسوماتها. وبدأت تشق طريقها نحو عالم الفنانين التشكيليين السعوديين المحترفين. بما اكتسبته من مهارة الرسم بالفحم، واللوحات المجسدة التي علقت في أرجاء الجمعية. وفوزها بالمركز الثاني في مسابقة “مواهب الصحراء” بمركز العون للعام 2008م.

وعلى هذا الأساس دعوتها وأسرتها لحضور اجتماع الجمعية العمومية. وطلبت منها رسم لوحة فنية لإهدائها إلى الرئيس الفخري للجمعية الأمير طلال بن عبد العزيز- رحمه الله. وأخرى لمعالي رئيس مجلس الإدارة آنذاك د. أحمد محمد علي. حيث إنهما سيرعيان الاجتماع الذي سيحضره أعضاء الجمعية والمستفيدين وأسرهم، بالإضافة إلى وسائل الاعلام. وأن تلقي كلمة مختصرة عن أثر خدمات الجمعية عليها.

تكريم إيمان

تقول إيمان:. “عندما اتصل بي الأستاذ محمد توفيق ودعاني لحضور الاجتماع الذي سيرأسه الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله. وأن أرسم لوحة له ولرئيس مجلس الإدارة.. وقال لي إن لدينا أسبوعين فقط قبل موعد الاجتماع. شعرت بفرح شديد، وفي نفس الوقت شعرت بالقلق والخوف من الموقف الذي سأوجهه. تشجعت ووافقت على خوض التجربة.. فتشاورت مع والدتي وأخواتي عما أرسم. فاقترحوا عليَّ أفكار تقليدية. ولكني اردت أن ارسم لوحة أعبر بها عن حقيقة مشاعري نحو إبصار. فرسمت للأمير طلال لوحة مجسمة خلفيتها مظلمة، وفي وسطها عين استوحيت فكرتها من شعار جمعية إبصار. وجعلت بؤبؤها صورة الأمير طلال، ومن خلفها شعلة أضاءت الظلام. وقصدت بالعين تعبير عن المعاقين بصريًا، وأن الأمير طلال اضاء لهم الظلام بإبصار. ورسمت لوحة أخرى لـ د. أحمد محمد علي عبارة عن زخارف فنية على شكل مزهريتين متجاورتين. وفي يوم الاجتماع ذهبت بمعية والدتي وزوج أختي إلى جدة لحضور الاجتماع ومعنا تلك اللوحتين.

بدء الاجتماع برئاسة الأمير طلال. وعندما طُلب مني أن ألقى كلمة أمام الأمير تملكني الخوف والخجل. وترددت كثيرُ فلم أكن أتصور أو أتخيل نفسي في مثل هذا الموقف. وبتشجيع والدتي والأستاذ محمد توفيق ووقفت وتكلمت وأنا مليئة بالخجل. عرفت بنفسي وعن تجربتي مع جمعية إبصار وأثرها عليّ. ثم استأذنت الأمير أن أهديه لوحتي. وعندما سلمته إياها التمست مدى تقديره وفرحه بها من خلال كلماته الرقيقة الأبوية التي لم تفارق مسمعي حتى يومنا هذا.

ثم سلمت معالي رئيس مجلس الإدارة لوحته أيضًا الذي شكرني بدوره وعبر عن سروره بها وتقديره لي. وعلى وقع تصفيق الحضور وفلاشات كاميرات وسائل الاعلام غمرني الفرح والسرور، وشعرت بأنني قد حققت أكبر إنجاز في حياتي.

وبانتهاء الاجتماع جاءنا الأمير أثناء مغادرته، وانا جالسة مع والدتي بجانب موظفات الجمعية، فسلم علينا وقال لنا أنتن كحفيداتي. وغادر وهو فرح بلوحتي فلحق به زوج أختي واستأذنه بأن يلتقط لي صورة معه فرحب بذلك وتصورت معه. كان في قمة التواضع فلم أكن أتخيل أو أتوقع تواضعه وبساطته معي.

وبعد عدة أيام فوجئت بخطاب شكر منه وصلني عبر البريد. مما جاء فيه “تلقينا بمزيد من التقدير اللوحة التي قمتم برسمها وإهدائنا إياها. ونود أن نشكركم على ذلك. ونبدي إعجابنا بلمساتكم الفنية. ونفيدكم بأننا قد وجهنا بتعليقها في مكان مناسب في مقر برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية (أجفند)”.  كدت أطير من الفرح فقد كان ذلك أول وأغلى خطاب شكر أتلقاه في حياتي ولا زلت احتفظ به.

كما تلقيت ايضًا خطاب شكر من معالي د. أحمد محمد علي ومما جاء فيه “لقد أسعدني كثيرًا تلقي هديتكم الفنية القيمة والتي تفضلتم مشكورين بإهدائي إياها.. ويسرني تهنئتكم على هذه الموهبة التي تجلت من خلال إبداعكم الفني في لوحتكم. مما ينم عن موهبة لها مستقبل واعد بإذن الله”.

لم أصدق نفسي بأنني حظيت بمثل هذا التقدير والتشريف. الذي جعلني أنسى إعاقتي البصرية ولا أفكر بها، وأتحفز للاستمرار في الرسم لتحقيق حلمي الكبير”.

  • خطاب شكر من الأمير طلال لإيمان السليماني
  • خطاب شكر من معالي د. أحمد محمد علي لإيمان السليماني

في بيت الفن التشكيلي السعودي

تقول إيمان “في ظل تلك السعادة التي كانت تغمرني من التكريم الذي حظيت به اتصل بي الأستاذ محمد توفيق. وأبلغني بأن مستشار العلاقات العامة وتنمية المواهب الفنية بالجمعية آنذاك الأستاذ عبد الرحمن مكوار. سيتواصل معي بشأن دعوتي لحضور حفل تكريم الفنان التشكيلي عبد الله نواوي. وبالفعل تواصل معي وعرفني بنفسه ودعاني لحضور الحفل وطلب مني احضار لوحاتي.

وفي يوم الحفل حضرت فاستقبلني الأستاذ عبد الرحمن مكوار وعرفني بنفسه. وفوجئت بتقديمي للفنان التشكيلي عبد الله نواوي. صاحب المعرض الذي فاجئني أيضًا بترحيبه بي وتقديمي لوسائل الاعلام. على أنني فنانة وعلق لوحاتي وبدء يصفها لهم ويعلق عليها. فسلط الإعلاميون الضوء عليَّ مباشرة وأنا في غاية الذهول ولم أستوعب ما يجري. فقد كان الموقف مهيب بالنسبة لي. فهي المرة الأولى التي أحضر فيها معرض لفنانين تشكيليين. وأقف أمام هذا الكم من الإعلاميين والصحفيين والجمهور.

وكانت المفاجئة الأكبر هو تقديمي للفنان التشكيلي السعودي هشام بنجابي. الذي ملأ اسمه صيت الساحات الفنية والالتقاء به كان بمثابة حلم بعيد لم اتوقعه في حياتي. عرفني بنفسه ورحب بي أجمل ترحيب، وأثنى على لوحاتي. عدت الى مكة المكرمة والفرحة والذهول تغمراني فلم أكن أصدق ما جرى لي في ذلك اليوم”.

الفنان التشكيلي عبد الله النواوي يصف لوحة إيمان لحضور معرض الفنانين التشكيليين 2009م
الفنان التشكيلي عبد الله نواوي يصف لوحة إيمان السليماني لحضور معرض الفنانين التشكيليين 2009م

في دورة العناية الاكلينيكية بضعف البصر

تقول إيمان “وعلى ضوء ما تحقق أصبح الأستاذ محمد توفيق يعتبرني عنصرًا أساسيًا في جميع فعاليات الجمعية الرئيسية. ومن ضمنها دورة العناية الاكلينيكية بضعف البصر التي كانت الجمعية تنظمها سنويا لأطباء العيون وأخصائيي البصريات. فدعاني لحضور الدورة السادسة التي نظمتها الجمعية في الفترة من 31 مارس إلى 04 أبريل 2012م. كنموذج لتجربة ملهمة لحالة ضعف بصر استفادت من برنامج إعادة التأهيل. وتمكنت من تنمية موهبتها الفنية. وطلب مني رسم لوحات لفريق الهيئة العلمية للدورة وأن أسلمها لهم بنفسي وأن ألقي كلمة على المشاركين. ومرة أخرى تملكني الخوف والتوتر من الطلب. كيف سأسلمهم لوحاتي وانا لا اجيد الإنجليزية ولا أحب الأطباء ولا اتعامل معهم، ولكنه أصر علي. فرسمت 6 لوحات لكل عضو لوحة تمثل شيئًا من تراثنا العربي والسعودي. فرسمت دلة قهوة مع الفناجين، صقر، مبخرة، وجه امرأه بنقاب، وجه رجل بالزي السعودي، دوارق ماء.

وفي اليوم المحدد جئت إلى الدورة بمعية شقيقتي الكبرى «أماني» ووالدتي. والخوف والخجل يملئاني. فشجعني الأستاذ محمد ودعاني إلى القاعة وقدمني للهيئة العلمية والمشاركين من الأطباء واخصائي البصريات. وطلب مني إلقاء الكلمة، فقلت له لا اريد، ولكنه أصر علي وقال لي قولي لهم لماذا لا تحبينهم؟ فتمنعت من ذلك. وأمام إصراره وقفت وألقيت كلمة قلت فيها “شكرًا لكم لأنكم تركتم عياداتكم وجئتم لتتعلموا جديد من أجل مرضاكم. وأقول إن التأهيل مهم جدًا والأهم من ذلك بالنسبة لي هو أن تسعوا جاهدين لإيجاد علاج للمرض».

ثم سلمت كل عضو من الهيئة العلمية لوحته، وشعرت أنهم كانوا فرحين جدًا ومنبهرين بها وشكروني بعمق. وصفق لي الحضور تصفيقًا حارًا. ففرحت بذلك فرحًا كبيرًا. وكنت سعيدة جدًا فقد أحسست بأنني رددت على أولئك الأطباء. الذين قالوا بأنني قد أفقد بصري في العشرين من عمري. وها أنا قد تجاوزت العشرين ولم أفقد بصري. ورسمت هذه اللوحات بما تبقى لي منه. وإن كل ما قالوه خالف قدرة الله الذي حفظ لي بصري ومكنني من الرسم به. وما زاد في سعادتي أنني علمت لاحقًا من الأستاذ محمد. بأن أعضاء الهيئة العلمية بعد عودتهم لبلادهم في أمريكا أرسلوا رسائل شكر لي وللجمعية. وقالوا انهم علقوا تلك اللوحات في بيوتهم.

صورة تذكارية لإيمان مع الهيئة العلمية للدورة واللوحات التي أهدتها لهم
صورة تذكارية لإيمان السليماني مع الهيئة العلمية للدورة واللوحات التي أهدتها لهم

غياب شعلة إبصار

تقول إيمان “في غمرة فرحي بما حققته مع إبصار. فاجأتني والدتي في أحد الأيام بخبر قراته في الصحف عن استقالة أمين عام جمعية إبصار الأستاذ محمد توفيق. في البداية لم نصدق ذلك، ولكننا أيقنا بصحة الخبر من تواتره على الصحف واهتمامها به. كان خبرًا محزنًا بالنسبة لنا ولم نتخيل إبصار دون الأستاذ محمد، وتوقعت أن صلتنا بإبصار ستنقطع. ومرت الأيام دون أن نعرف تفاصيل وأسباب تلك الاستقالة المفاجئة. ومن حينها وكما توقعت تباعدت علاقتي بالجمعية تدريجيا اذ لم يعودوا يتواصلون معي أو يدعونني لأي مشاركات. وفي المقابل كنت أتلقى دعوات من جهات أخرى للمشاركة في معارض الرسم وأنشطتهم المختلفة. فأصبحت أشارك باسمي ممثلة عن نفسي والحزن يملئني إذ كنت في السابق أشارك كممثلة عن الجمعية. وبمرور الوقت تراجعت اهتماماتي بالتأهيل ومتابعة أخبار الجمعية”.

وأكدت ذلك شقيقتها أماني بقولها: “لا أظن أن استقالة الأستاذ محمد توفيق من الجمعية كان أمر جيدًا لنا ولإيمان. ليس تقليلًا من شأن الجمعية والعاملين أو الجهات المعنية بها. ولكن كانت إيمان في مرحلة بات من الصعب فيها الابتعاد عن الجمعية والعاملين بها. وعلى رأسهم الأستاذ محمد. وبمرور الوقت التمسنا تغييرات في فريق عمل الجمعية وطريقة عملها. وترتب على ذلك تراجع ملموس في مستوى الاهتمام بإيمان. ما انعكس على معنوياتها سلبًا. وعادت تدريجيًا لعزلتها خاصة بعد مرض والدتي وصعوبة الذهاب إلى جدة. في ظل التزامي بالعمل وعدم وجود شخص متفرغ لها.

وبرأيي كانت مرحلة إبصار بالنسبة لإيمان هي المرحلة الذهبية في حياتها حتى الآن. فقد كانت أشبه بالابنة المدللة لها والأخت المحببة لموظفيها. كما أنها تعرفت فيها على شخصيات كريمة من إعلاميين وأطباء وفنانين. منهم المذيع بالقناة السعودية الإنجليزية سابقًا الأستاذ زياد السفياني. والفنان التشكيلي هشام بنجابي. بالإضافة إلى الوالد الحنون مستشار العلاقات العامة وتنمية المواهب الفنية بالجمعية الأستاذ عبد الرحمن مكوار وغيرهم.. والحمد الله على كل حال”.

وللقصة بقية. فلقد مرت الأسابيع والأشهر وبقي حبل الأمل الوحيد الذي تعلقت به إيمان هو استمراريتها في الرسم والفن. والمشاركة في المعارض. في الوقت الذي كان الالتهاب الصبغي يلاحقها بظلمته ليخطف منها ذلك الأمل. في ظل تراجع أثر تلك الشعلة «إبصار» التي رسمتها بيديها.

عدد المشاهدات 188