عندما طلبت من إيمان أن أروي قصتها في هذه السطور المضيئة. سألتني كيف ستستطيع أن تكتب قصتي وأنت جزء منها دون أن تبدوا للقارئ بأنك تلمع نفسك!؟. أجبتها “سيكون هذا اختبار صعب سأسعى لاجتيازه”.

ومن هنا كانت بداية هذه السلسلة. التي سأتناول في جزئها هذا «الثالث». ملامح عن معانتها مع حالتها البصرية وهوايتها الفنية. والدعم الأسري الذي حظيت به وقادها للوصول إلى «جمعية إبصار الخيرية للتأهيل وخدمة الإعاقة البصرية».

الهروب من الواقع بالرسم

ففي تلك الأثناء التي كنت قد انتهيت فيها من تلقي برنامج تدريبي مكثف بمركز لايت هاوس الدولي بنيويورك (أكتوبر 2003م). في مجال إدارة خدمات ضعف البصر وإعادة التأهيل.

بدأتُ إدارة جمعية إبصار الخيرية التي باشرت تقديم خدماتها في مجال تأهيل وخدمة ذوي الإعاقة البصرية. من مقرها النموذجي بمركز فلسطين التجاري بجدة (أبريل 2005م). معتمدة على استراتيجية تقوم على توعية وتثقيف المجتمع والمختصين بالجمعية وخدماتها. وتقديمي للجلسات الإرشادية والتحفيزية لذوي الإعاقة البصرية وأسرهم. الأمر الذي ربطني مباشرة بإيمان وأسرتها.

حيث تقول إيمان. “بعد وفاة والدي كانت حياتي حزينة وشابها السئم والكآبة. فقد نشأت فاقدة لاستقلاليتي، ولا أستطيع الخروج من المنزل بمفردي، وليس لي أي أصدقاء سوى شقيقتي «أماني». خصوصًا بعد أن تزوجت شقيقتي الكبرى «أمل» وانتقلت للعيش في بيت الزوجية. وفقدت الأمل تمامًا في الحصول على أي فرصة للالتحاق بالمدرسة. خصوصًا بعد أن بائت كل محاولات والدتي بالفشل ويئست من إلحاقي بالمدرسة أو حتى نظام دراسة المنازل.

فكان مهربي الوحيد من ذلك الواقع. هو الانكباب على الرسم حتى أصبحت حياتي كلها رسم في رسم. رغم صعوبة ذلك وما كان يسببه لي من إرهاق ذهني، وبصري، وعبئ إضافي على والدتي. التي كانت تضطر إلى رص ألوان الفلومستر في العلبة لي بطريقة تمكنني من حفظ مواقعها. حيث إنني لا أستطيع تمييز ألوانها. فعلى سبيل المثال الأسود في أقصى اليمين يليه اللون البني فالأزرق.. وصولا إلى أفتح لون في أقصى اليسار من العلبة. وكلمات سقطت العلبة أو أحد الألوان أضطر إلى الاستعانة بمن يساعدني في إعادة رصها.

كما أنني كنت أضطر إلى تقريب وجهي إلى ورقة الرسم بمسافة لا تزيد عن 10سم. مع استخدام إضاءة إضافية حتى أتمكن من رؤية ما أرسم. وإن كان ذلك يسبب لي الكثير من الانزعاج. بسبب الظل الناتج من تقريب وجهي للورقة. ما يعيقني عن الرؤية. علاوة على أنني كلما ركزت على الخطوط التي ارسمها تبدوا لي وكأنها تتحرك وتتطاير في الهواء. فلا أستطيع تتبع رسمي بسهولة، مما يوترني فأتوقف عن الرسم وأعاود الكرة مرة أخرى.

كما أن الرسم بأقلام الفلوماستر لم يكن ذلك النموذج الأمثل في التعبير عن مكنوني الفني. وما أرغب في إيصاله من الرسمة. فهي محدودة ولا تعطي ظلال ما يجعل نتيجتها غير مقنعة لي على الأقل. وعلى أي حال تحملت كل تلك الصعوبات هروبًا من واقعي”.

الرسم بالفحم والحلم الكبير

في غضون ذلك كانت شقيقتي «أماني». قد التحقت بكلية اللغة العربية بجامعة أم القرى في العام ١٤١٩م. وفي أحد الأيام بينما كانت تتجول في مكتبة الجامعة. وقعت عينيها على كتاب كان على إحدى طاولات المكتبة بعنوان «كيف ترسم بالفحم خطوة بخطوة». فتصفحته وقررت استعارته وجاءتني به قائلة “اطلعي على هذا الكتاب ممكن ينفعك كثير”.

في بادئ الأمر. لم أعره أي اهتمام أو اتحمس له. فأخذته إلى والدتي وقلت لها: إن «أماني» قد احضرت لي هذا الكتاب وطلبت مني الاطلاع عليه.

فبدأت تقرأ لي مقتطفات منه. فجذبني واستوقفني كثيرًا ما استمعت إليه عن مزايا الرسم بالفحم وسهولته خصوصًا إمكانية الحذف والإضافة على الشكل المرسوم. وهذا ما لم يكن ممكنًا في الرسم بأقلام الفلوماستر. فتحمست له وطلبت من والدتي شراء المزيد من الكتب عنه. واقلام الفحم بدرجاتها المختلفة. وبدأت تقرأها عليّ وأطبق ما أتعلمه، ولاحظت أنني أستطيع أن أرسم الخطوط وأتتبعها بصورة أفضل، وأرسم ظلال الوجوه. فوجدت فيه ضالتي وحلًا بديلًا عن استخدام ألوان الفلوماستر. فتطور رسمي، وتحول من ردة فعل إلى فن أمارسه على أسس منهجيه علمية. جعلت حلمي يكبر من أن أكون معلمة رسم فقط إلى فنانة تشكيلية لها لوحات تعرض في معارض الرسم والفنون.

مستشفى فقيه والطريق إلى إبصار

وتضيف إيمان “في غضون ذلك كانت والدتي لا تزال متمسكة بأمل الوصول لعلاج لحالتي البصرية. ففاجأها اتصال من إحدى قريباتنا. ملئها بالأمل والتفاؤل حيث قالت لها: “لقد أجرى ابني عملية ليزر لعينيه في مستشفى سليمان فقيه بجدة. لدى طبيب ممتاز جدًا اسمه هشام حسني. فأصبح يرى بوضوح دون الحاجة إلى استخدام نظارته الطبية.. وأنا متأكدة بانك لو اخذتي إيمان للدكتور هشام سيحل مشكلتها”. فتحمست والدتي جدًا. وأخذتني برفقة شقيقتي أماني إليه التي جلست إلى جانبي لتهدئتي من الخوف الذي انتابني والتحدث إلى الطبيب بشأن حالتي”.

وعن ذلك روت «أماني»: “قام الطبيب بالفحص الروتيني على إيمان. ولم يضف شيئًا جديدًا من ناحية حالتها البصرية. (التهاب الشبكية الصباغي الوراثي، ورأرأة العين)، وأنه لا علاج لحالتها في الوقت الراهن. ولكن كان عنده شيء مهم للغاية ساقنا الله إليه لحكمه لا يعلمها إلا هو. فقد لاحظ الطبيب مدى خوف وتوتر إيمان. وأنني كنت قريبه جدًا منها أثناء الفحص لدرجة ملاصقتي لها. لكي تهدأ وتطمئن فيستطيع الطبب فحصها فهي عندما تتوتر تسيل دموعها. وإن كانت في هذا الفحص أهدأ بكثير من الفحص الذي أجري لها في مستشفى الملك خالد التخصصي للعيون في طفولتها. حيث اعتراها خوف وبكاء شديد أخافنا جميعًا.

فسألني هل تم تأهيل إيمان بأي شكل من الأشكال؟ فشرحت له وضعها التعليمي والمدرسي وعلى الفور قال لي هل عندك أي معلومات عن جمعية ابصار؟ فأجبته: بصراحة لا.

فأعطاني رقم الجمعية وقال لي اتصلي وكلمي مديرها محمد توفيق واشرحي له حالة إيمان وصدقيني ستتغير حياتها ١٨٠ درجة.. فستتعلم الكمبيوتر والمهارات الأخرى اللازمة لممارسة حياتها اليومية بصورة طبيعية.

عدنا إلى بيتنا في مكة وكان المشوار مُنهِكاً جدًا. وفي اليوم التالي دفعني حماسي إلى الاتصال على الجمعية قبل ذهابي إلى الجامعة فتم تحويلي على الأستاذ محمد فورًا. الذي رد عليَّ بلطف اهلًا وسهلًا يسعدني اتصالك واعتذر منك أنا مشغول أعطيني رقم جوالك وسأعاود الاتصال عليك.

صدمت، وشعرت بالخوف وسألت نفسي. هل يعقل أنه بمجرد ما قلت له أنني سأتحدث معك بخصوص حالة التهاب صبغي. قالي لي أنه مشغول!؟ اكيد لا يوجد أمل. وشعرت حينها بإحساس لا يوصف كسرة خاطر، خوف، قلق. ومضيت أتساءل كيف سأبلغ إيمان أن جمعية ابصار أقفلت بابها قبل تفتحه.

وقبل استرسالي في مزيد من الأفكار والتساؤلات عاود الأستاذ محمد الاتصال عليَّ كما وعد. وقال لي أنه بمجرد ما سمعت منكِ أن لديك شخص يعاني من التهاب صبغي. فورًا أنهيت ما كان يشغلني وعاودت الاتصال عليكِ كي اسمع منك بتركيز.

لا أعلم كيف امتدت المكالمة لقرابة ساعة. تخللها شرح باستفاضة لحالة إيمان من شخص يعاني من نفس المشكلة دموع الفرح سبقتني وأبواب الامل انفتحت.. وقلت في نفسي أنا الآن اتواصل مع شخص فاهم حتى النخاع مشاعر إيمان وحالتها ومعاناتها. وأحسست أنني وجدت اليد التي ستأخذ معي بيد إيمان”.

وتقول إيمان “لم أفهم سر كل تلك الحماسة التي بدت على شقيقتي من تلك المكالمة أو أعيرها أي اهتمام. كما أنني في الأساس لم أتحمس لما قاله الطبيب. فقد كنت على قناعة أن حلمي الكبير بأن أكون رسامه وفنانة مرموقة لن يتحقق بسبب حالتي البصرية. وأنه لا يوجد أحد أو أي جمعية للمكفوفين يستطيع أن يغير ذلك الواقع. ولكن اذكر أنه عقب تلك المكالمة لاحظت أن شقيقتي اشترت صحون بألوان متباينة، وأجرت تغييرات في إضاءة المنزل”.

أثناء تقديمي توجيه وإرشاد لإحدى الحالات في جمعية إبصار

والجدير بالذكر أنه بالرغم من مرور نحو 15 عامًا على تلك المكالمة. إلا أنني تذكرتها جيدًا حيث كنت معتادًا آنذاك على مقابلة الحالات حديثة العهد بالإعاقة البصرية وأسرهم. واستطلاع ما يواجهونه من مشكلات والعمل معهم على حلها وتقديم ما يلزم من نصح وإرشاد.

فعندما بدأت «أماني» حديثها معي عن «إيمان» وحالتها البصرية والصعوبات التي تواجهها والمحتمل مواجهتها. طمأنتها وقلت لها أن حالتها بسيطة. مقارنة بحالات أخرى أصعب بكثير تتدرب عندنا في الجمعية. فعلى سبيل المثال لدينا حالة شابة سورية وأخيها مكفوفين ومصابين بهشاشة عظام منذ الولادة ترتب عليها إعاقتهم حركيًا. ومع ذلك يأتون للجمعية مع والدتهم لتلقي التدريب والتأهيل. وشاب آخر فقد بصره نتيجة إصابة في الرأس بسبب حادث سيارة مريع وغيرهم كثيرين. تدربوا وتأهلوا وأصبحوا منتجين ومندمجين في المجتمع بصورة طبيعية. وكلمة السر تكمن في قبول الواقع والرضا بقضاء الله وقدره والأخذ بالأسباب.

ولإيصال إيمان إلى تلك النقطة لابد من الحاقها ببرنامج إعادة تأهيل بالجمعية في أسرع وقت ممكن. وريثما يتم ذلك عليكم البدء في اتخاذ بعض الإجراءات المنزلية البسيطة لتهيئة البيئة المحيطة بها. باستخدام تباين الألوان مثل الأطباق، الكاسات، السفرة، واستخدام إضاءات قوية خالية من الوهج. وحاولوا لفت انتباهها لكل ما هو أمامها وحولها بهدوء ولطف، من أجل أن تكون «ايمان» مستعدة نفسيًا قبل قدومها للجمعية. وعندما تأتي إلينا سنبدأ بإحالتها إلى عيادة ضعف البصر وتحديد خطة برنامج إعادة التأهيل اللازم لها.

وفي الواقع إن تلك الإرشادات هي الخطوات الأساسية والمنهجية للعناية بضعيف البصر. فالتحكم بالإضاءة والسيطرة على الوهج وتباين الألوان. همي مفتاح الحل لتحسين ظروف الرؤية لدى كل ضعيف بصر لديه نسبة من الإبصار. كما أن برامج التثقف والتوعية لأطباء العيون واختصاصيي البصريات. ضرورية لخلق الوعي بأهمية إحالة ذوي الإعاقة البصرية إلى برامج التدريب وإعادة التأهيل في الوقت المناسب.

عدد المشاهدات 187