Share

دكتورة مريم أبوبشيت: الأديب وظف تراكيب مفرداته الشعرية ليجعل القصيدة أكثر بهاء وجمال

نشر مقالي هذا على صحيفة غرب الإخبارية في 2020/11/03م.

إن الباحث عبر الشبكة العنكبوتية عن قصائد وأبيات الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري رائد الأدب والشعر السعودي سيلاحظ أن هناك مجموعة من القصائد والأبيات هي الأكثر تداولاً وانتشاراً بين مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي بشتى فئاتهم العمرية منها «إلى المروتين، يا أعذب الحب، يا معزف الحب، رباه، النفس المؤمنة، على الضفاف» ومن خلال الرصد والمتابعة تبين أن الأبيات الأكثر تداولاً وانتشاراً على الإطلاق هي:

أبكِي وأضحَكُ والحَالاتُ واحِدَةٌ

أطوي عَليها فؤادًا شفّهُ الألَمُ

فإن رأيتَ دمُوعِي وهي ضَاحِكَةٌ

فالدمعُ مِن زَحمَة الآلام يَبتَسِمُ

وهي من قصيدته «على الضفاف» التي نظمها من 59 بيتا ونشرها في ديوانه «الشراع الرفاف» في العام 1394هـ-1974م ومهرها بقوله “إلى الأطياف الجميلة التي ألهمتني رباعياتي «صبا نجد» وبدأها باقتباس لبيت الشاعر أبي الطيب المتنبي:

يا أعدل الناس إلا في معاملتي … فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

وقد لاحظت أن الكثير يتداولون تلك الأبيات خطأ بكتبتها:

أبكي وأضحك “والحالات” واحدة والصحيح “والحالان”

كذلك أطوي عليها فؤاداً شقه الألم والصحيح “شفّهُ”

ولما في هذه الأبيات من إبداع شعري جعلها تبقى حية وحاضرة في قلوب عشاق ومحبي الشعر جيلاً تلو الأخر سيما وأن أبيات منها كانت مقررة ضمن منهج الأدب والنصوص للصف الثالث ثانوي للقسم الأدبي في المملكة العربية السعودية توجهت إلى باحثة اللغة العربية والكاتبة الدكتورة مريم سعود أبوبشيت التي كانت ممن لازم الأديب في أواخر حياته حينما كانت تعد أول بحث ماجستير عن الأديب وشعره بعنوان ” شعر طاهر زمخشري ” لجامعة القاهرة في العام 1408هـ – 1988م.

صورة الدكتورة مريم سعود أبوبشيت

وأصدرته لاحقاً في كتاب بعنوان ” الإلهام والأصالة في شعر طاهر زمخشري” في العام 1435هـ-2013م، وبدورها قدمت هذه السطور المضيئة عن تلك القصيدة والأبيات التي وردت فيها بادئة بقولها: «إن من واجبنا أن تتظافر الجهود ونشدوا بفم القصائد التي قالها طاهر زمخشري “بابا طاهر كما كان يحب أن ينادى” فهي قوية وجميلة المعاني والتعبير، ولغتها العربية ناصعة، جميلة، سلسة، ودورنا كباحثين وكتاب أن نشيد بأفضال الناس الذين اجتهدوا وتعبوا من أجل وطنهم وأهلهم ودينهم مثل الأديب طاهر زمخشري الذي لا يختلف اثنان على رومنسيته وأعني بالرومانسية المدرسة التي انتمى إليها، من اختياره لمفرداته الدالة، الإبداعية، وصوره المتنامية، والبناء المحكم، والخروج من التقليدية، والتبعية إلى فضاء الشعراء الرومنسيين والجديين في الشعر العربي السعودي.

تلك الأبيات الشهيرة من قصيدة «على الضفاف» تجمع بين متناقضين «أبكي وأضحك» وما فيهما من مشاعر متناقضة تجمعها إنسانية الإنسان.

في هذه القصيدة كصورة عامة تظهر سمات شعر «الزمخشري» التي دائماً تكون من منطلق الإيمان والعودة إلى الله سبحانه وتعالى، إلى هذه القوة الدافعة للإنسان مهما أصابه من ظلم أو حزن، أو قلق وتوتر، فهو دائماً يفيئ إلى الله سبحانه وتعالى ويظهر هذا في البيت الذي يقول فيه:

فاظلم كما شئت لا أرجوك مرحمة

إنا إلى الله يوم الحشر نحتكم

لئن قبضت يداً عني فكم بسطت

يد من الله ظلاً فيئه نعم

هذا الرضا وهذا الإيمان هو الذي يدعم الإنسان وينبئ عن سريرة طاهرة مطمئنة إلى المولى عز وجل فهذه الطاقة الخلاقة عند «بابا طاهر» متجددة وتسير في جميع دواوينه الشعرية كما لاحظت على قصائده المتنوعة في أي مجال، كما أنه في هذه القصيدة كبعض القصائد التي وردت في بعض دواوينه الشعرية في بناء صوره، رغم أن صور الزمخشري متكررة نوعاً عبر القصائد المختلفة وذلك يرجع للواقع الذي عاشه، واقع الألم والإحباط والتردد والحيرة والتشاؤم والفرح والظروف الاجتماعية …الخ، واقع الشعر الرومانسي الذي يسموا إلى عالم المثال.

تلك الصور المتكررة دلالات رمزية لواقع مرفوض وعالم متسامي مأمون ومن هذه الصور «أبكي وأضحك» بين البكاء والضحك حالات إنسانية بونٌ شاسع وأعتقد أن هذه الصورة تكررت في أكثر من قصيدة في مجموعة الخضراء، وكما أشرت إلى أن تكرار هذه الصور لا تأتي من أجل التكرار وإنما تدخل في سياق بناء الصورة فكل صورة مختلفة عن الأخرى والصورة الشعرية أداة جمالية تقوم على إقامة علاقات لغوية متنامية داخل الصورة الشعرية أو داخل الجملة الشعرية وقد تكررت كثير مثل هذه التراكيب.

القصيدة فيها من الحكمة إن الإنسان رغم أنه يقع في إشكالية الخصام أو الاختلاف مع الأخر ويقع في إشكالية أن الأخر يضع نفسه في موقع الخصم او موقع الخصم والحكم لكن كيف نستطيع أن نقابل ذلك؟ الشاعر الزمخشري كان يتمتع بهذه المهارة أو انطلاقاً مما يملك في داخله من السكينة والطمأنينة وأن الحكم لله سبحانه وتعالى أولاً وأخراً لذلك هو لا يضع نفسه في موقع الخصم ولا في موقع الخصم والحكم في ذات الوقت، ودائماً يعود إلى الله سبحانه وتعالى ثم إلى نفسه المستكينة المطمئنة وإلى سموه ونبله في أخلاقه، أخلاق ترقى إلى المثالية. هذا واضح في أغلب القصائد التي نظمها وقالها وتغنى وترنم بها «الشاعر الغريد» كما أسميته في ورقة عمل لي، هذا الذي يغرد دائماً بالإيجابية رغم الجرح والألم ورغم مواجهته لظروف الحياة القاسية لكنه دائماً يشدوا بالإيجابية

حَسْبي من الحبّ أنِّي بالوفاء له … أمشي وأحملُ جَرْحاً ليس يلتئمُ

الجرح في آلامه ونزفه مستمر ولكن يكفيه من الحب الوفاء له، والحب هذه القيمة تأتي في أولويات القيم، إن الإنسان دائماً محب للحياة محب للإنسانية محب للآخر، هذا الحب هو جوهر الإنسان وجوهر الحياة وهذا ما تغنى به «بابا طاهر» على الدوام ومن أجمل الأبيات التي وردت في هذه القصيدة:

أبْكِي وأضْحَكُ والحالان واحدةٌ … أطوي عَليْها فؤادًا شفّهُ الألَـمُ

هو يعيش كل الحالات ويعيشها بطبيعية وإنسانية ولكن سبحان الله كان خلف ذلك الألم وكان خلف ذلك الجراح والحياة التي عاشها، حياة مليئة بالآلام والأحزان وهذا أيضاً تحدي من نفسه بقوة إيمانه وطمأنينته وامتلاكه لفكر واع وإنسانية وقلب يحمل الحب لكل ما حوله من الحياة والناس ولا يتعلق بالتشاؤم والبؤس وإنما ينشر للعالم رسالة الحب والسلام، اعتقد أن هذا التضاد في القصيدة أيضاً ورد في بيت أخر حين قال:

لئن قبضت يداً عني فكم بسطت … يدٌ من الله ظلاً فيئه نعَمُ

بين القبض والبسط هذا التضاد يجعل الصورة أقوى وأكثر جمالاً، وأعتقد أن بابا طاهر وظف مفردته وتراكيب مفرداته الشعرية ليهدي إلينا صوراً جميلة صوراً معبرة صوراً مختلفة تجعل القصيدة أكثر بهاء وأكثر جمال، رحم الله الشاعر طاهر زمخشري وجعله في عليين.

تقسو عليَّ بِلا ذنبٍ أتيتُ به … ومَا تبرّمْتُ لكنْ خانني النَّغَمُ

أعادَه شَجناً بَاحَ الأنينُ به … فهل يلاَمُ محبٌ حاله عَدَمُ؟!

حَسْبي من الحبّ أنِّي بالوفاء له … أمشي وأحملُ جَرْحاً ليس يلتئمُ

وما شكوت لأني إنْ ظلمتُ فكم … قبلي من الناس في شرع الهوى ظلموا

أبْكِي وأضْحَكُ والحالان واحدةٌ … أطوي عَليْها فؤادًا شفّهُ الألَـمُ

فإنْ رأيتَ دمُوعِي وهي ضَاحِكَةٌ … فالدمْعُ مِن زَحْمَـة الآلام يَبْتَسِمُ

وفي الجَوانِحِ خَفّاقٌ مَتَى عَصَفَتْ … بِه الشُجُون تَلَوّى وهو مُضْطَرِمُ

فاظـْلُمْ كَمَا شِئتَ لا أرْجُوكَ مَرْحَمَةٌ … إنـّا إلَى الله يَومَ الحَشْرِ نَحْتَكِمُ

لئن قبضت يداً عني فكم بسطت … يدٌ من الله ظلاً فيئه نعَمُ

بها سأحيا برغم الحيف في كنف… من المسرة مهما آدني السقم

يذكر أن الأديب طاهر عبد الرحمن محمد زمخشري

  • أحد الأعلام المَكِّيين السُّعوديين في العصر الحديث من مواليد مكة المكرمة (27 رجب 1332هـ الموافق 22 يونيو 1914م) الذين أثروا الأدب والفكر والإعلام في القرن العشرين، وصاحبُ أوَّل ديوان شعري يُطبع في تاريخ المملكة العربيَّة السعوديَّة «ديوان أحلام الربيع» (1946م/ 1366هـ)، وأوَّل أديب وشاعر سعودي يُكرَّم خارج السعوديَّة من رئيس الجمهورية التُّونسيَّة الرَّاحل الحبيب بو رقيبة، بالإضافة إلى حصوله على جائزة الدولة التَّقديريَّة للأدب من خادم الحرمين الشَّريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود – رحمه الله – 1405-1985م وتُرجمت بعض قصائده إلى اللُّغات الإنجليزيَّة والألمانيَّة والفرنسيَّة بطلبٍ من هيئة اليونيسكو.
  • يُعَدُّ من شُعراء الرَّعيل الأوَّل وأكثرهم غزارةً في الإنتاج، حيث أصدر نحو 30 ديوانًا شعريًّا، منها (6) في مصر، و(5) في لبنان، و(6) في تونس، و(13) في السعودية، عدا دواوين أخرى تُوفِّي قبل إصدارها.
  • تُعتبر أعماله الأدبية أحد أهمِّ المدارس الشِّعرية المكِّية في القرن العشرين، وسمَّاها المدرسة الرَّبيعية الحجازيَّة نسبةً إلى الشَّاعر عمرو بن أبي ربيعة.
  • أصبح شِعرُه موضعًا لدراساتٍ جمَّةٍ، منها الأكاديميَّة، وغير الأكاديميَّة، في الجامعات السعوديَّة، وبعض الجامعات العربيَّة، منها جامعة القاهرة، وجامعة الخرطوم، ومعاهد اليونيسكو.
  • كانت باكورة إنتاجه الأدبي «نشرة المهرجان» في عام 1366هـ/ 1946م، ونُشرت عبر مكتبة الثقافة في مكَّة، وضمَّت مجموعةً من القصائد والخُطب والمقالات بأقلام أُدباء وشُعراء المملكة العربية السعوديَّة آنذاك، جمعها بمناسبة أوَّل رحلة لجلالة الملك فيصل – رحمه الله – إلى أمريكا.
  • جمع بين الأدب والفنِّ والإعلام والإدارة؛ فقد تنقَّل في عددٍ من الوظائف الحكوميَّة على مدى 20 عامًا، منها المطبعة الحكوميَّة، وأمانة العاصمة، وديوان الجمارك، علاوة على أنه أصبح أحد الرُّوَّاد الإعلاميين منذ مُساهمته في تأسيس أوَّل إذاعة للمملكة العربيَّة السعوديَّة في مكَّة المُكرَّمة، والعمل فيها، أشرف على أوَّل نقل لصلاة جُمعة من المسجد الحرام والمسجد النَّبوي، ونقل مناسك الحجِّ من المشاعر المُقدَّسة في عرفات ومِنى.
  • أصبح أحد رُوَّاد أدب الطِّفل في العالم العربي بصفةٍ عامَّةٍ، والمملكة العربيَّة السعوديَّة بصفةٍ خاصَّةٍ، عبر برنامجه الشَّهير «ركن الأطفال» الذي اشتُهر من خلاله باسم «بابا طاهر»، وأتبعه بإصدار أوَّل مجلة سعودية وخليجية للأطفال، مجلة «الروضة» عام (1379هـ/ 1959م).
  • أثرى السَّاحة الفنيَّة بإسهاماته الموسيقيَّة وكلماته الغنائيَّة، حيث أسَّس أوَّل فرقةٍ موسيقيَّةٍ للإذاعة في تاريخ المملكة العربيَّة السعوديَّة مُكوَّنة من محمد علي بوسطجي، عازف عود، وسليمان شبانة «الدكتور»، عازف كمان، وسعيد شاولي، عازف كمان، وحمزة مغربي، عازف قانون، والهرساني، عازف ناي، وعبد المجيد الهندي، ضابط إيقاع.
  • كتب أكثر من 200 نص غنائي شدا بها أكثر من 30 فنان إلى جانب ذلك، كان له اهتمامٌ بالرِّياضة، حيث أسهم في تأسيس نادي الوحدة الرِّياضي الذي كان له ولأعضائه أثرٌ في الحركة الفكريَّة والرِّياضيَّة في بلادنا، وأوَّل مُعلِّق رياضي حينما علَّق على مُباراة كانت بين نادي الوحدة والاتحاد في ساحة إسلام بمكَّة المُكرَّمة، وألَّف ولحَّن أوَّل أُغنية للكُرة «جيب الجون على الرَّايق».
  • ربطته علاقة صداقة بعديد من الأُدباء والشُّعراء العرب من أشهرهم الأمير الشَّاعر الرَّاحل عبد الله الفيصل، وأحمد رامي، وفاروق جويدة، وأحمد اللغماني… وغيرهم كثيرون.

وللمزيد:

طاهر زمخشري – ويكيبيديا

الرابط المختصر لهذا المقال:

عدد المشاهدات 2٬052
Share