وكما ذكرت سلفًا عن ليلة التأسيس وتحقيق الحلم (مركز خدمة للمعاقين بصريًا) الذي أُعلن كجمعية خيرية باسم إبصار للتأهيل وخدمة الإعاقة البصرية. فقد سبق تلك الليلة مرحلة كانت مليئة بالأحداث والعمل والإنجازات قال عنها معالي د. أحمد محمد علي في كلمته التي ألقاها في ليلة التأسيس مما جاء فيها: “ولم تكن فترة تأسيس الجمعية فترة ساكنة، كما هي الحالة عادة، بل كانت فترة حافلة بالنشاط بفضل التوجيهات السديدة لصاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبد العزيز والعناية الخاصة التي أولاها للجمعية صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن أحمد بن عبد العزيز، والجهود المخلصة التي بذلها الأخ الدكتور عاكف المغربي، وما قدمه من دعم سخي طوال هذه الفترة، وكذلك مساهمات جميع الإخوة أعضاء الهيئة التأسيسية.

ولقد مكن تضافر كل هذه العوامل من تحقيق إنجازات هامة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

  • بدء العمل في جمع معلومات إحصائية عن عدد المعوقين بصريًا وأنواع الإعاقات البصرية والتوزيع الجغرافي والوضع الاقتصادي والاجتماعي للمعوقين بصريًا ومراكز تأهيل المعوقين بصريًا في المملكة وطاقتها الاستيعابية ومقدرتها الفنية وتوزيعها الجغرافي، وكذلك جمع معلومات عن الأجهزة والمعدات الطبية المساعدة للمعاقين بصريًا وآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا والطب الحديث في هذا المجال.
  • إجراء دراسة بحثية شملت أكثر من 500 شخص من المعوقين والمختصين وأقرباء المعوقين.
  • إقامة مركز مؤقت لإبصار لتدريب فاقدي الإبصار على استخدام الكمبيوتر بواسطة الآلة القارئة بمشروع تجريبي لمدة ثلاثة أشهر.
  • تأسيس معمل مزود بسبعة أجهزة كمبيوتر مزودة بنظام الآلة القارئة وجهاز CCTV بتكلفة تقدر بأكثر من 110,000 ريال لتدريب المعوقين بصرياً على الكمبيوتر ومنذ تأسيس المعمل حتى تاريخه تم تدريب أكثر من 100 معوق بصرياً من الإناث والذكور على استخدام الحاسوب مجاناً، بالإضافة إلى إجراء إعادة فحوصات، قياسات نفسية للمتدربين من خلال مستشفيات ومراكز مغربي تبرع.
  • تركيب معمل (نظام إبصار) للكفيفات بجامعة الملك عبد العزيز للبنات بتمويل من الأخت ناجية عبد اللطيف جميل.
  • تنظيم عدة أنشطة ثقافية واجتماعية تمثلت في (ملتقى اليوم العالمي للعصا البيضاء ، ندوة المختصين في خط برايل، وورشة عمل نظام إبصار 2، ندوة التوجه الإيجابي نحو الإعاقة البصرية)، تم من خلالها التعريف بمركز إبصار وأهدافه وأهمية التكنولوجيا للمعوقين بصريًا وتبادل الخبرات بين المعوقين بصريًا وأسرهم والمختصين العاملين في المجال بالإضافة إلى تشجيع المعوقين بصريًا على استخدام التكنولوجيا بصفة عامة كإحدى الوسائل المشاركة والاندماج في المجتمع، بالإضافة إلى تقديم العديد من المقالات الصحفية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية لنشر التوعية في المجتمع عن التعامل مع العوق البصري.
  • المشاركة في عدد من المؤتمرات والندوات منها المؤتمر العربي الأول لتطوير وتوحيد خط برايل (الرياض في 8 أكتوبر 2002) والدورة الأولى لتنمية مهارات التعامل مع المكفوفين وضعاف البصر التي نظمها مستشفى الملك خالد التخصصي للعيون (الرياض 13-17 سبتمبر 2003).”

لم أكن أحلم أو أتوقع أن الله سيسخر لي تلك العوامل التي أوجزها معالي الدكتور أحمد محمد علي في التوجيهات السديدة والعناية والجهد مع الخبرة التخصصية في المجال والمساهمة المالية من الأعضاء، ولكن التوكل على الله والأخذ بالأسباب جعل حلمي يصبح حقيقة واقعة في مشروع جمعية ناشئة أنجزت قبل أن تولد.

فقد كانت البداية من عودتي إلى جدة في أواخر سبتمبر 1996م متسلحًا بالهدف الذي وضعته لنفسي، وفلسفة بـ “أن الإنسان متى وُجدت عنده العزيمة والإرادة يستطيع تحقيق المستحيل مهما فقد من حواسه، وأن فقدان البصر لا يعني فقدان القدرة على العمل”، بالإضافة إلى صور فتوغرافية وفيديو يوثقان يومًا من أيامي في «مينيابولس Minneapolis» منذ استيقاظي صباحًا وحتى ذهابي للمعهد وعودتي إلى شقتي، مرورًا ببرنامجي التدريبي، من أجل استخدامهم في نشر الوعي بأهمية إعادة التأهيل وإيصال المفاهيم الجديدة التي عشتها في مدينة «مينيابوليس» وأثرها عليَّ، والتأكيد على ضرورة نقل تلك المفاهيم إلى بلادنا وسائر بلدان عالمنا العربي والإسلامي.

وفي غضون ذلك كان عليَّ وزوجتي متابعة حالة ابننا سندس الذي ولد قبل 4 سنوات بمشاكل صحية في القلب وأجرى عمليتين جراحيتين تكللت الثانية بالنجاح. وبدأت نشاطي بالعزم على الانتفاع بما هو متوفر من خدمات لاكتساب المزيد من المهارات، والسعي في الحصول على فرصة عمل أو مصدر مالي لتسديد قيمة برنامج التدريب في أمريكا المتبقية (2400 دولار) حيث غادرت البرنامج على أن أسدد القيمة بعد العودة، وأحصل على تمويل لاستكمال باقي البرنامج التدريبي الذي يمتد إلى 9 أشهر. سيما وأنني فقدت الأمل في العودة إلى عملي السابق في الخطوط السعودية، فتواصلت مع مركز التأهيل الشامل، وتبين أن الخدمة المتوفرة هي الالتحاق بدورة مأمور سنترال لمدة عامين وأن أول فرصة متاحة بعد 10 أشهر. فاستبعدت ذلك الخيار.

وفي الأثناء بدأت بنشاط إعلامي بالتواصل مع الصحف التي كانت قد نشرت قصتي مع فقدان البصر وإحالتي إلى التقاعد المبكر من الخطوط السعودية في 15 أكتوبر 1992م، لعرض تجربتي مع إعادة التأهيل والمناداة بفتح مركز لتدريب وإعادة تأهيل ذوي الإعاقة البصرية في بلادنا. وتجاوبت معي صحيفة «عرب نيوز ARAB NEWS» بنشر لقاء صحفي على ثلاث حلقات في صفحة كاملة لكل حلقة بتاريخ 11 و18 و25 أكتوبر 1996م، تناولت فيها فلسفة إعادة التأهيل وأثرها وأهميتها لمجتمعنا، والحاجة إلى تطوير الخدمات القائمة لذوي الإعاقة البصرية، والفرق بين التربية الخاصة وإعادة التأهيل. وصرفوا لي مكافأة رمزية بمبلغ «250ريال».

ونشرت «مجلة الشرق الأوسط» تقريرًا صحفيًا في ثلاث صفحات بتاريخ (1996/11/26م) بعنوان «محمد بِلُّو يدعو إلى برنامج خاص لقهر الظَّلام». تناول قصة رحلتي إلى «مينيابوليس» وقضائي 30 يومًا غيرت مسيرة حياتي من خلال برنامج الاستقلال الذاتي للمكفوفين ودعوتي لضرورة نقل ذلك البرنامج إلى بلادنا.

تقرير صحفي لمجلة الشرق الأوسط بعنوان «محمد بِلُّو يدعو إلى برنامج خاص لقهر الظَّلام»
تقرير مجلة الشرق الأوسط 1996/11/26م

أما صحيفة «عكاظ» فأفردت لي صفحة كاملة لحوار صحفي بعنوان «قهر الإعاقة بمشروع ابن أُمِّ مكتوم – كفيف طبخ الكبسة للأمريكيين». سردت فيه تفاصيل إضافية عن برنامج إعادة التأهيل الذي التحقت به والإنجازات التي حققتها خلال فترة التدريب، وطرح فكرة إنشاء مركز بجدة باسم «ابن أُمِّ مكتوم» مشابه لمعهد الجمعية الوطنية الأمريكية للمكفوفين الذي تدربت فيه.

وقد لعبت تلك الصور التي أحضرتها معي من أمريكا دورًا فاعلًا في جلب اهتمام الصحف بتناول الموضوع والاهتمام به. كما تعاطف معي الأديب محمد صادق دياب -رحمه الله- الذي كان يشغل مدير مكتب مجلة سيدتي بجدة آنذاك. حيث جمعتني به الصدفة في مكتبه حينما كنت أجري لقائي مع مجلة الشرق الأوسط، فتعارفنا وتحدثنا سويًا لفترة مطولة عن قضيتي وفلسفة إعادة التأهيل الجديدة. فاهتم بها وقدم لي التوجيه والإرشاد فيما يجب عمله للتوعية بقضيتي، وفاجئني لاحقًا بزيارتي في المنزل مع فريق برنامجه «من السعودية مع التحية» الذي كان يعده لقناة ART وسجلوا معي لقاءًا تلفزيونيًا مع الإعلامي المخضرم عدنان صعيدي، حاورني فيه عن حالتي البصرية، وتجربتي مع إعادة التأهيل في الولايات المتحدة الأمريكية، والتعريج على عملي في الخطوط السعودية، وابتكاري لوجبة الراكب الكفيف قبل إحالتي للتقاعد المبكر، وبدئي لمشروع تأليف كتاب عن الأديب طاهر زمخشري بعنوان «حكايات وذكريات» لتعريف النشء الجديد به. وعلى إثر الحوار الذي دار بيننا قبل التسجيل فوجئت أنه قدمني في الحلقة على أساس أنني كاتب ومؤلف، ويومها لم أكن قد ألفت حتى سطر واحد. كانت تلك أول إطلالة تلفزيونية لي عقدت العزم بعدها بأن أصبح مؤلف كما قُدمت في الحلقة، وتوالت لقاءاتي بعدها بالأديب محمد صادق دياب بين الفينة والأخرى ورتب لي حوار صحفي مع مجلة سيدتي.

لقطة من حواري مع أ. عدنان صعيدي في برنامج من السعودية مع التحية على قناة ART في العام 1996م

وقد أسفر ذلك اللقاء التلفزيوني واللقاءات الصحفية الأخرى عن ردود فعل إعلامية وتفاعل اجتماعي واسع، خصوصًا المهتمين بشؤون المكفوفين، حيث اتصل بي من المنطقة الشرقية رجل الأعمال الكفيف د. عبد الرزاق بن علي التركي الذي كان يشغل منصب العضو المنتدب لشركة نما لخدمات الشحن المحدودة آنذاك، وأثنى على تلك اللقاءات الصحفية، وأكد على أهمية ما تناولته سيما وأن له تجربة مع فقدان البصر وله نشاط في التوعية بحقوق ذوي الإعاقة البصرية، وعلى دراية واطلاع عالمي بالخدمات خصوصًا وأنه قد أقام في الولايات المتحدة الأمريكية وأصبح أول كفيف سعودي يعمل في الحقل الدبلوماسي حينما كان يشغل وظيفة محلل سياسي في سفارة المملكة العربية السعودية في واشنطن بين عامي 1990م إلى 1992م، فعرض عليَّ وظيفة في أحد الفنادق التي كان يمتلكها، فشكرته واعتذرت له لعدم ارتباط ذلك بما أنادي به.

كما اغتنمت فرصة تواجدي في الرياض أثناء إحدى المراجعات الطبية لأبني سندس في مستشفى الملك فيصل التخصصي، فقمت بزيارة الشيخ الكفيف عبد الله بن محمد الغانم -رحمه الله- بمكتبة في حي السفارات بالرياض بعد ترتيب مسبق معه، حيث كان يشغل آنذاك منصب رئيس الاتحاد العالمي لشؤون المكفوفين، ورئيس المكتب الإقليمي للجنة الشرق الأوسط لشؤون المكفوفين، وكان على اطلاع على ما نشرته مجلة الشرق الأوسط، وصحيفة عكاظ، فتحدثنا عما تناولته في لقاءاتي الصحفية، وأثنى على ما طرحته، وقدم لي مجموعة من الكتب التعريفية عن المكتب الإقليمي ونشاطاته، ووعدني خيرًا وتوالت الأيام وردود الفعل كانت لا تزال مستمرة من الأصدقاء وزملاء العمل الذين شاهدوا واطلعوا على تلك المقالات.

وكان من أهم ردود الفعل المكالمة الهاتفية التي جمعتني بأحد زملاء العمل بالخطوط السعودية، ولعبت دورًا هامًا في تغيير مسار طريقة طرحي لفكرة مشروع المركز، حيث أتصل بي ذلك الزميل وأخبرني بأن صديقًا مقربًا له لديه ابن كفيف ويريد أن يستفيد ويتعرف مني على ما هو جديد للمكفوفين في أمريكا، ورحبت بذلك. فاتصل بي ذلك الأب الذي كان موظفًا في شركة ارامكوا السعودية. وبدأنا حديثنا بالتعارف وشرحت له عن حالتي البصرية وأسباب فقداني للبصر التدريجي، وأبلغني أن ابنه كفيف منذ الصغر ويدرس في الصف الرابع الابتدائي بالمدرسة النموذجية السادسة بجدة. واستطردنا في الحديث عن ابنه، فحدثته عن إعادة التأهيل وأهميته وكيف تدرَّبتُ في معهد الجمعية الوطنية للمكفوفين في مدينة «مينيابوليس» على الحركة والتَّنقُّل وأنا معصوب العينين، حتى أصبحتُ أمشي وأتحرك بثقة دون خوف أو تردُّد، كذلك تعلَّمتُ المشي والحركة وسط الزحام، وكيف أتفادى المارة دون أن أصطدم بأحدهم. بالإضافة إلى عبوري الشوارع والطرقات أثناء حركة السيارات دون أن أتعرَّض لحادث أو أتسبَّب في تعطيل وعرقلة الآخرين، وأصعد وأنزل من الدرج واستقل الحافلات بكل ثقة دون خوف أو تردُّد، مُستخدمًا عصاي البيضاء التي أستشعر وأستكشف بها الطريق، فلو كان هناك شيء ما أمامي فإن العصا ستلامسه، وبناءً على ارتداد الصوت أحكم على ما هو أمامي، فأتفاداه.

نزولي من الدرج بالعصا البيضاء اثناء مغادرتي السكن بمفردي للتدريب – (مينيابوليس )سبتمبر 1996م

واقترحت عليه بأن يبدأ ابنه بالتدرب على التوجه والحركة واستخدام العصا البيضاء للاستقلال الذاتي، ففاجئني بردة فعل لم أكن أتوقعها من أب متعلم ويعمل موظف بشركة مرموقة إذ قال: “أعوذ بالله يا رجل.. أنا أجيب له واحد هندي ولا أخليه يستعمل هذه العصاية!”، وبإجابته تلك انتهت مكالمتنا.

فأدركت وأيقنت بأنني أمام مهمة صعبة وليست بالأمر اليسير، وعليَّ أن أجتهد وأتعامل مع واقع مجتمع لديه حساسية ومشكلة مع العصا البيضاء، على العكس تمامًا من المجتمع الذي كنت فيه في «مينيابوليس» فقد كنت أرى عشرات المكفوفين يذهبون إلى أيِّ مكان بمفردهم مستخدمين عصيهم البيضاء، دون أن يمسك أي أحد بأذرعهم.

وعلى هذا الأساس اتخذت قرارًا بتغيير المسار الذي كنت قد انتهجه لتحقيق حلمي، فكان له ما بعده …يتبع.

عدد المشاهدات 108