نشر هذا المقال في مجلة اليمامة زاوية قلبًا لقلب في 2022/10/13م

فُجعت الأوساط الأدبية والثقافية بنبأ وفاة الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجة رجل الأعمال والأدب والإنسانية الذي وافته المنية «السبت 1444/01/22هـ – 2022/08/20م» في الولايات المتحدة الأمريكية عن عمر ناهز 86 عامًا بعد معاناة مع المرض. وصُلي عليه بالمسجد الحرم، ودفن بمقبرة المعلاة، بعد صلاة مغرب «الأربعاء 1444/01/26هـ – 2022/08/24م».
فأدعوا الله له بالعفو والمغفرة وأن يسكنه فسيح جناته.. اللهم آمين.
ولأني من الذين عرفوه، وربطتهم به علاقة إنسانية وأدبية، فسأتوقف في مقالي هذا مع أهم المحطات التي عرفته بها وتستحق الذكر والتخليد، وذلك من باب اذكروا محاسن موتاكم. فعندما شرعتُ في مطلع الألفية الثانية بتدوين سيرة جدي الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري المعروف بـ «بابا طاهر» كما كان يحلوا له أن نناديه ضمن مبادرة ذاتيه لإحياء إرثه الأدبي والمحافظة عليه.
كان من أوائل الذين راسلتهم لجمع معلومات عنه، الشيخ عبد المقصود خوجة، لعلمي بعمق علاقته ببابا طاهر الذي ما فتئ يذكره، وفضل أبيه الشيخ محمد سعيد خوجة، حيث قال عنهما: «إن محمد سعيد خوجة رجل محسن في عمله وفي أخلاقه وهو محسن إلى غيره، وأنني أحد الذين شملهم إحسانه، فكان يبرني ويعطف علي ويساعدني بالمال. فقد كان له الفضل في الوقوف من خلفي يدفعني لكي أشق طريقي بثبات. وابنه اليوم عبد المقصود ينهج نهج أبيه يُكرِّم ويُعين ويكتب بأعماله الخيرة صفحات مشرقة له في سجلات الذكرى الحسنة والعمل الطيب، جزاه الله كل خير».
وكان الشيخ عبد المقصود خوجة امتدادًا لأبيه في رعاية بابا طاهر رحمه الله، ومن أكبر الداعمين له ماديًا ومعنويًا، فقد شارك مع معالي الوزير فايز البدر رحمه الله، والمستشار الأستاذ محمد سعيد طيب بشراء وإهداء منزلاً لبابا طاهر لإقامته في تونس، كما كان أول من بادر بجمع دواوينه الشعرية وإعادة طباعتها في نسخة فاخرة صدرت عن دار تهامة للطباعة والنشر؛ «المجموعة الخضراء 1402هـ/1982م»؛ وهي مجموعة الدواوين التي أصدرها في تونس، «مجموعة النيل 1404هـ/1984م»؛ وهي الدواوين التي أصدرها في مصر، وكان من المفترض ان يصدر «مجموعة الأرز»؛ وهي الدواوين التي أصدرها في لبنان لكن وفاة بابا طاهر في العام 1407هـ حالت دون ذلك.
وعلى أي حال؛ عندما تسلم الشيخ عبد المقصود خوجة رسالتي كان في إجازته الصيفية خارج البلاد، فأوعز إلى مكتبه بإهدائي نسخة فاخرة من الجزئين الأول والثاني للإثنينية، التي تضمنت نصوص وكلمات المحتفى بهم والضيوف في أمسيات تكريم منتدى الإثنينية.
ومن بينها أمسية «الإثنينية -2 – 1403/03/25هـ-1983/01/09م» التي كرم فيها بابا طاهر، وألقى كلمة استعرض فيها الكثير من جوانب حياته الشخصية خصوصًا المرتبط بعلاقته بوالد الشيخ عبد المقصود «الشيخ محمد سعيد خوجة» منذ تخرجه من مدرسة الفلاح وحتى انطلاقته الأدبية، الذي رعاه وتبناه بتعيينه في أول مطبعه بالمملكة «المطبعة الأميرية» بمكة المكرمة. ووضعه على أول سلم الأدب والثقافة والصحافة (رحمهم الله جميعًا).
وكانت تلك الكلمة بمثابة مصدر وثائقي هام أكملت بموجبها مؤلفي الأول عن حياته بعنوان «الماسة السمراء.. بابا طاهر زمخشري القرن العشرين» الذي صدر في العام 2005م. وأهديت نسخة منه للشيخ عبد المقصود خوجة في «1426/06/27هـ – 2005/08/02م»
وكان من المفترض أن أكمل بقية الكتاب بـ 6 أجزاء، ولكن شح معلوماتي عنه آنذاك ومحدودية الإمكانيات فضلًا عن انشغالي بتنمية وتطوير مشروعي الموازي جمعية إبصار الخيرية للتأهيل وخدمة الإعاقة البصرية حالت دون استكمال أجزاء الكتاب. ولم أكن أتوقع أن عملي بالجمعية سيجمعني بالشيخ عبد المقصود خوجة لأول مرة حينما زار الجمعية في 2013/08/31م إبان إدارتي لها، استقبلته وتعارفنا وعرفته بنفسي بأنني سبط بابا طاهر، فابتهج كثيرًا وترحم عليه.
وخلال زياراته المتكررة للجمعية تبادلنا الحديث فتساءل عن وضع أعمال بابا طاهر الأدبية ودواوينه الشعرية، وأخبرته عن مشروعي لإحياء أرث بابا طاهر الأدبي والأهمية التي مثلها كتاب «الاثنينيه» كمرجع هام لمؤلفي «الماسة السمراء.. بابا طاهر زمخشري القرن العشرين»، وطلبت منه دعم مشروعي، وعلى الفور وافق على ذلك، وقال إن بابا طاهر كنز أدبي من حق أدبه وفكره وشعره أن يكون ضمن أعمال المملكة العربية السعودية الخالدة، ولا بد من إبرازها وإعطائها ما تستحقه. ودعاني إلى اثنينيته، التي أصبحت من المداومين على حضورها.
وعند حضوري لأول اثنينية انبهرت بطريقة تنظيمها بدء باستقبال الضيوف من قبل مؤسسها خوجة ومجموعة من المتطوعين الذين يوزعون الضيوف ويجلسونهم، وإتاحة الفرصة للنساء للحضور وتنظيم أماكن مخصصة لهم. وما يثير الاعجاب ايضًا هو أسلوب تنظيم الأمسية من قبل اللجنة المنظمة، التي تفتتح بكلمة صاحب الاثنينية، ثم كلمة الضيف المكرم، مع توفير كل ما يستلزمه لإلقاء كلمته من صور وشرائح عرض. وتنسيق وإدارة الأسئلة والحوار والنقاش المفتوح عقب كلمة المكرم، وطبيعة جائزة التكريم التي غالبًا ما تكون رمزية ذات قيمة معنوية كقطعة من كسوة الكعبة أو مصاحف مخطوطة. واختتام الأمسية بمأدبة عشاء بنكهة شرقية كل ذلك يتم على خلفية صوت خرير المياه المنبعث من النوافير المنتشرة في أرجاء فناء المنزل، فتعطيك إيحاء وكأن بك في أحد مجالس الأدب في العصر الاندلسي.
ولن أنسى تلك الأمسية المميزة من أمسيات الاثنينية (416) «1434/01/26م» التي احتفي فيها بالبروفسيور د. زهير يوسف الهليس كبير استشاري جراحة القلب والصدر والأوعية الدموية بمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث، رئيس جمعية جراحة قلب الاطفال العالمية نظير إنجازاته المحلية والدولية، الذي جمعتني به ذكرى إنسانية قبل 24 عامًا، حينما أجرى عملية جراحة قلب مفتوح لابني سندس بعد عشرة أيام من ولادته في 25 أكتوبر 1992م استمرت لمدة 8 ساعات ساهمت بفضل الله في انقاذ حياته. وأجرى له عملية قلب مفتوح أخرى بعد عامين من العملية الأولى. وكنت قد اصطحبت معي ابني سندس إلى تلك الأمسية لتعريفه بالطبيب الذي أجرى له عملياته الجراحية وهو في المهد، فكان لقاءً مثيرًا تبادلنا فيه الحديث، وذكرى ذلك اليوم الذي أُجريت فيه العملية الجراحية.
وفي غضون ذلك أطلق الشيخ عبد المقصود خوجة مبادرة أدبية وإنسانية سأذكرها له ما حييت، حينما لبى طلبي بتحقيق حلمي بإحياء إرث جدي الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري رحمه الله التي كانت بمثابة بارقة أمل لي ولطموحاتي وذلك بإعلانه قيام منتدى الاثنينيه بجمع وإعادة طباعة دواوين الزمخشري الشعرية وكافة أعماله الأخرى. ونشرها ضمن مجموعة مطبوعات كاملة وتوزيعها ضمن إطار عمل الاثنينيه الثقافي في جمع إرث المفكرين والأدباء الذين أثروا الساحة الأدبية السعودية المعاصرة.
وكاتب كل من يعرفه ممن ارتبطوا بعلاقة ببابا طاهر أو لهم مكتبات أبلغهم بالمشروع وما تم جمعه وطالبهم بتضافر الجهود لإنجاحه، والبحث عن أعمال الأديب المفقودة التي حُصرت في «في الطريق، على هامش الحياة، مع الأصيل، أغاريد المذياع، ليالي ابن الرومي، أقوال مبعثرة، أحلام، رمضان كريم، بكاء الزهر، من أوراق الزهر، رباعيات الخضراء، أغاريد الخضراء».
وتواصل مع مطابع بيروت التي يتعامل معها لترتيب طباعة الدواوين المتوفرة، وبالتوازي عملتُ مع سكرتيره في الاثنينية د.محمد الحسن على مراجعة ما بحوزتي من أعمال أدبية للأديب ضمن خطوات المشروع، ولكن ظروف مرض الشيخ عبد المقصود وتوقف الاثنينية حالا دون استكمال المشروع.
لقد أكد «خوجة» بإطلاقه لتلك المبادرة على دوره القيادي والأدبي في حفظ الأدب والفكر المعاصر ونشره وتوثيق مسيرة رواد الأدباء السعوديين، فقد أخذ رحمه الله على عاتقه نشر أدبهم ورعاية مواسم الأدب عبر اثنينيته اسوة بأبيه رحمه الله الشيخ «محمد سعيد خوجة» الذي رعى وتبنى رواد الفكر والأدب في بلادنا أذكر منهم على سبيل المثال أحمد ملائكة، حسن الياس، حسين خزندار، عبد الكريم مخلص، عبد الله بلخير، عبد الله عريف، مصطفى كمال باتبارة، بالإضافة الى أديبنا الزمخشري (رحمهم الله جميعًا).
ولعله من المناسب أن اغتنم هذه الفرصة لأناشد ابنائه بالحذو حذو أبيهم وجدهم في الاستمرار في رعاية الأدب والفكر في بلادنا، والحفاظ على الاثنينيه وموقعها الالكتروني، وتطويرهما ليكونا مركز ومنتدى ثقافي أدبي باسم مؤسسها للحفاظ على ذكراه وجهوده التي بذلها. وتكوين مجلس إدارة وإدارة تنفيذية تقوم بوضع خطط العمل والإشراف على إدارة النشاطات الثقافية والفكرية فيه بالتعاون مع وزارة الثقافة والجهات المعنية كالأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون. بالإضافة إلى استكمال مشاريع الاثنينية الثقافية التي لم تنجز، مع إتاحة جميع الأعمال للأجيال القادمة كصدقة جارية عن الفقيد رحمه الله. والتي منها إحياء إرث الأديب طاهر زمخشري الأدبي.

رابط المقال على مجلة اليمامة

عدد المشاهدات 112