نشر هذا الاستقراء عن مؤلفي «حصاد الظلام» في مجلة اليمامة العدد (2740) – 2022/12/29م

حديث الكتب – عرض : د. صالح الشحري

يعرض هذا الكتاب لتجربة مؤلفه محمد توفيق بلو مع مرض العشى الليلي,  ينتهي المرض إلى إعاقة بصرية شديدة، و بما أنه مرض وراثي، فإن المتوقع أن يظهر في أكثر من فرد من الأسرة، وقد أصيب به أخو المؤلف.
عدد من لديهم إعاقة بصرية في العالم يصل إلى مائتي مليون، ربعهم لا يستطيعون السير بأنفسهم، ويُتوقع أن يتضاعف عددهم خلال ربع قرن. ظهرت الطبعة الأولى من الكتاب عام ٢٠٠٣، و هاهي الطبعة الثانية بينهما، خمس عشرة سنة، تتوقف الذكريات عندما اجتاز الرجل جزءاً من دورة تأهيلية، توصل أمثاله إلى الاستقلال الذاتي، أي الحياة دونما حاجة إلى الاعتماد على الآخرين، يدور الكتاب على السنوات الثماني التي قضاها بعد أن أجبر على التقاعد المبكر في سن الثالثة والثلاثين، كان خلالها يسعى لتطوير مهاراته ليعود إلى عمله في الخطوط السعودية، وأتمنى لو كتب الرجل سيرته في السنوات التي تلت خروجه من عنق الزجاجة.
    تأهل الكاتب ليكون مضيفاً جوياً نصحه جده  الشاعر طاهر زمخشري قائلا:  “ إن عمل المضيف الجوي له مساران، واحد إلى الرحمن، و الثاني إلى الشيطان، فانظر أيهما تختار” ،  يقصد جده أن عمله يجعله ينفتح على ثقافات مختلفة بما تحمله من ملذات ومغريات. عمل المضيف الجوي ليس فقط خدمة الركاب التي يقدمها نادل المقاهي، ولكنه مدرب على الحفاظ على سلامة الركاب والتصدي للكوارث والحوادث الجوية. صاحبنا كان عاشقاً لعمله، متطوراً معه، فقد تطور ليصبح طاهياً، وهي خدمة مهيأة لركاب الدرجة الأولى في الرحلات الطويلة.  عمل على الخطوط الطويلة مثلاً خط السعودية نيويورك، وهذا يتيح له أن يقضي أياماً في نيويورك، تعلم خلالها فنون التصوير والمزج الموسيقي. يسرت له هذه النجاحات أن يتزوج بفتاة أمريكية، كان أبوها يعمل مع الخطوط السعودية، لكن أباها قاطعها عنصرية ضد العرب والسود.
  عندما تمكنت منه الإعاقة البصرية  حُول إلى وظيفة مدرب أرضي، وهذا يعني خسارة نصف دخله، إلا أنه ظل يحاول تحسين أدائه والإتيان بالجديد، واستطاع ابتكار وجبة طائرة خاصة بالعميان، كما طور برنامجاً سمعياً يساعد غير العرب من المضيفين على تحسين قدراتهم على تعلم مفردات اللغة العربية، ثم قام بزيارة معاهد النور  للالتقاء بالعميان لمعرفة مشكلاتهم مع ركوب الطائرات، صمم برنامجاً يتم فيه تحديد الكفيف منذ وصوله للمطار، وتقديم الخدمة له بغير إحراج، مع وضع شارات خاصة على حقائبه، كان البرنامج يعني تحسين الخدمة التي يحتاجها سبعة آلاف مسافر سنوياً على الخطوط السعودية، ومثل هذا البرنامج تفتقر لمثله خطوط طيران عالمية، لكن ذلك لم يشفع له مع تدهور قدرته على الإبصار ليجد نفسه وقد أحيل على التقاعد المبكر، أصبح دخله ثلث ما كان عليه، إلى ذلك فقد زادت احتياجاته مع مرض والدته، ومع وصول طفله الأول، الذي ولد وبه عيب خلقي في القلب احتاج أكثر من جراحة، واضطرت زوجته للعمل مدربة سباحة في إحدى روضات الأطفال.
     استمر في محاولاته العودة عن التقاعد، وجبته الخاصة بالعميان جلبت للخطوط السعودية جائزة للتميز من هيئة عالمية للطيران. استمر صاحبنا يرسل ملفاته لرؤسائه الإداريين، تلك الملفات التي تترجم قدراته في التصوير والإعداد الموسيقي، وتتضمن كيف يستطيع العودة إلى عمله التدريبي و الإداري بمساعدة جهاز يكلفه ثلاثة آلاف دولار( CCTV )، ويضمن الملف أشرطة تظهر حالات استمر فيها العميان بعد تأهيلهم في وظائفهم وكانوا متميزين. لم تنجح كل محاولاته.
 سافر منفرداً  ليلتحق بزوجته التي ذهبت لزيارة عائلتها في أمريكا،  تنقل بين أكثر من مطار وأكثر من خط طيران، و بنهاية الرحلة كان لديه تصور لبرنامج كامل أعده لتقديمه إلى شركات الطيران، يحول المطار والطائرة إلى بيئة صديقة لفاقدي البصر. كان مصمماً على أن يبدع شيئاً مميزاً تستفيد منه شركة الطيران ثم يطالب بحقوقه وهكذا.
  في نيويورك زار مركزاً خاصاً بالإعاقة البصرية، أربعة عشر طابقاً توفر للمحتاج الفحص الطبي، والعلاج الممكن، وبرامج التأهيل، ويضم مركزا لأبحاث الإعاقة البصرية،  تدرب على جهاز CCTV ، استطاع به قراءة الصحف للمرة الأولى منذ زمن، يمكن تطوير الجهاز ليقوم مقام سكرتير للأعمى. لكن المركز لا يشجع عمل أشياء قاصرة على العميان. هدفه ان يدرب الكفيف ليكون مستقلاً ذاتياً يمارس حياته وكأنه مبصر. الدعم الاجتماعي الذي يحصل عليه أمثاله في أمريكا، جعل زوجته تصر على الهجرة، خاصة وأنه لا يملك ثمن الأجهزة التي يحتاجها، وقد ركبتهم الديون، كانت تلك فاتحة للتوترات في حياته الزوجية.  بالنسبة له بدأ يفكر في مشروع لتأهيل المعاقين بصرياً، يشبه ما رآه في المركز.
   عاد إلى السعودية، في ذهنه مشروعات كبرى، يقدمها لشركة الطيران، و لمن يهمه أمر الإعاقة البصرية، حاول التسلح بالرأي العام، كتب عن حالته في الصحف المحلية الانجليزية والعربية، بسطت أكثر من صحيفة مشكلته، وعُرضت مقابلات معه، لم يجن من الصحافة مقابلاً لمقالاته ولا لصوره، ولكن لم تغير شركة الطيران موقفها، وزادت ديونه، لم يستجب لضغط زوجته لحل مسألته بالطريقة الأمريكية، أي أن يوكل محامياً يرفع دعوى على شركة الطيران، أتصور أنه لم يجد دعماً من رجال الخير على كثرتهم  لأنهم اعتقدوا أنه سيحل مشكلته مع شركة الطيران، لكن شركة الطيران كانت تتعامل مع الأمر بطريقة بيروقراطية.
    في بحثه الدؤوب عن مخرج عثر على كتاب “نكت الهميان في نكت العميان”  كتاب ألفه صلاح الدين الصفدي، يظهر الاهتمام بالعميان في الحضارة الإسلامية، كان العرب سابقين في اكتشاف الكتابة البارزة الخاصة بالعميان، صممها علي بن أحمد زين الدين الحنبلي الآمدي، سبق بها الفرنسي برايل بمئات السنين، أعيد طبع الكتاب عام ١٩١١ بأمر من ملك مصر الخديو عباس حلمي  ليشارك به في مؤتمر رعاية العميان الرابع. ومن خلاله تعرف على شخصية الصحابي عمرو بن أم مكتوم، الذي عاتب الله به نبيه في سورة عبس، استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أكثر من مرة، رغم عماه، بل جاهد الرجل واستشهد في معركة القادسية، أصبح هذا الصحابي الرمز الذي يستخدمه المؤلف عندما يتحدث عن إمكانيات العميان. 
   كادت زوجته تغادر إلى غير رجعة عندما ذهبت لحضور جنازة والدها، كان مؤلماً أن تسافر بتذكرة جمع ثمنها لهم الأصدقاء، من خلال متابعاتها للصحف،  تواصلت مع إحدى رائدات العمل للمكفوفين، كانت امرأة مكفوفة طورت قدراتها، ولديها طفلان في الثالثة عشر، لديهما نفس الإعاقة التي لدى محمد، الزوج مبصر والأسرة مثال للنجاح، أسست الجمعية الوطنية الأمريكية للمكفوفين، نصحتها بأن يتعلم زوجها طريقة برايل لأنه عن طريق جهاز CCTV لن يتمكن إلا من قراءة عدد قليل من الكلمات في الدقيقة، لكن بطريقة برايل سيقرأ ما يصل إلى مائة كلمة في الدقيقة، كما نصحت بالالتحاق بمعهد الجمعية الوطنية للمكفوفين والمشاركة في دورة الاعتماد الذاتي. رفعت هذه المعلومات معنويات الزوجة، و لكنها احتاجت عاماً حتى يقتنع الزوج ويتدبر الجميع  نفقة العودة إلى أمريكا.
     دورة الاعتماد الذاتي مدتها تسعة أشهر، سيقضي الرجل شهراً واحداً، رسوم الشهر ثلاثة آلاف دولار، عندما تم استقباله، أبدوا تسامحاً في تحصيل  الرسوم، معظم العاملين من المكفوفين، الجميع حتى المبصرين مطالبون بتغطية عيونهم طيلة الوقت، ليتعلم الجميع تطوير مهاراتهم  دون الاعتماد على الإبصار،  أهم المبادئ التي تتبعها الجمعية هي أن الأعمى لا يحتاج إلى تغيير البيئة المحيطة به ليكون فعالاً وقادراً على الحركة، بل يجب أن ينمي جميع مهاراته و يستفيد من قدراته الطبيعية وحواسه التعويضية، ومع استخدام وسائل بديلة للتنقل والحركة في أي مكان بأمن وسلام معتمداً على نفسه مهما كانت حالته البصرية. يعتمد الأعمى على معرفة الأصوات، والإحساس باتجاه الريح حتى يحدد اتجاهاته، في السكن كل النزلاء عميان، يقومون بكل ما يحتاجونه، من نظافة، وإعداد طعام وغسل ملابس، وتحضير الأدوات الشخصية، ثم المغادرة كل منهم منفرداً يركب الحافلة حتى المعهد، يغادر السكن للتسوق منفرداً، في اليومين الأولين يكون له مرافق ثم يتركه ليقوم بكل أموره منفرداً، شريكه في السكن كان يابانياً عمره ستة وثلاثون عاماً، ولد أعمى، يحضر نفس الدورة، لكنه يغطي مجموعة من النشاطات الثقافية الأمريكية، وخاصة ما له علاقة بالعميان، تُذاع تقاريرها من إذاعة في اليابان. في الدورة يتعلم إعداد الطعام والحفلات للجميع، يتعلم طرق النجارة، بعض آلاتها حادة لا تحتمل الخطأ، لكن كل متدرب يتمكن من مهاراتها و هكذا.
   بنهاية الشهر تجدد الأمل، و عاد صاحبنا بمشروع إبصار، مستوحيا خبراته التي اكتسبها في تدريب العميان، يقول في المقدمة إنه وجد داعمين، الأمير طلال بن عبد العزيز، مستشفيات المغربي للعيون، بنك التنمية الإسلامي، كما أسس شركة للخدمات البصرية الطبية. وذاق طعم النجاح مضاعفاً.
  تعيد قراءة هذا الكتاب إلى ذهني حواراً دار بيني وبين أحد أساتذة الطب العرب الذين  عاشوا ونجحوا في الغرب، و ترددوا على العالم العربى لنقل الخبرة، تحدثنا عن مشكلات الحياة في الغرب، رغم فرص النجاح الكبيرة، تذاكرنا التحديات الثقافية والاجتماعية والدينية، وخلصنا إلى الضريبة الباهظة التي يدفعها  المهاجر العربي، وأخيرا قال الرجل: إنه رغم كل ذلك فإنهم يستمرون في العيش في أمريكا وأوروبا، السبب أن الإنسان في الغرب  أكثر كفاءة من نظيره في الشرق، فرق الكفاءة هذا تشعر به بمجرد أن تنتقل من مطار إلى مطار، أو تسمع شاباً يتحدث عن خططه المستقبلية، ها نحن نرى الكفاءة التي يكتسبها الأعمى لينافس البصير، اللهم اجعلنا أكثر كفاءة في مواطننا.
  تجربة ثرية ملهمة و لو أتيح للكتاب بعض اللمسات الأدبية لكان أكثر جاذبية وبريقاً.

رابط الاستقراء على مجلة اليمامة

عدد المشاهدات 211