في مثل هذا اليوم 15 ذي الحجة من العام 1366هـ، (31 أكتوبر 1947م) وبعد الانتهاء من موسم الحج تم تركيب أول باب للكعبة المشرفة في العهد السعودي بأمر من جلالة الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله- على نفقته الخاصة في حفل رسمي رعاه نيابة عنه ولي عهده آنذاك جلالة الملك سعود بن عبد العزيز -رحمه الله- وبتلك المناسبة نظم الأديب ابن مكة المكرمة طاهر زمخشري قصيدة شعرية بعنوان «فضل الله» تخليدًا لتلك الذكرى المباركة.
وأجدها فرصة مناسبة في هذه الأيام من هذا الشهر العظيم ذي الحجة أن أسلط الضوء في هذه السطور المضيئة على تلك الذكرى من أجل تعريف النشء الجديدـ، وضيوف بيت الله الحرام بها، وعامة المهتمين بآداب وفنون الحج، وأعمال طاهر زمخشري الأدبية.

صناعة أول باب للكعبة المشرفة في العهد السعودي

مع دخول جلالة الملك عبد العزيز -رحمه الله- مكة المكرمة في العام 1343هـ أولى جلالته اهتماما بالغًا بموسم الحج وضيوف الرحمن وترميم وتوسعة المسجد الحرام إلى جانب العناية بالكعبة المشرفة بدأ بإصدار أمره الكريم في غرة محرم عام 1346هـ بإنشاء أول مصنع لكسوة الكعبة بمحلة أجياد أمام دار وزارة المالية العمومية، الذي أنهى صناعة أول ثوب للكعبة المشرفة بعد ستة أشهر من تأسيسه.
واستكمالا لتلك العناية الكريمة كلف جلالته الشيخ محمود يوسف بدر شيخ الصاغة في مكة المكرمة آنذاك بصناعة باب جديد للكعبة بدلًا عن الباب القديم الذي تم تركيبه في العام 1045هـ – 1635م.
ووفق للأستاذ فيصل محمد بدر في لقاء إذاعي مع برنامج مركاز الفريد (08‏/04‏/2023م) فإن جده الشيخ محمود كان يقوم بصناعة طلبات الأسرة الحاكمة مثل السيوف، والخناجر٫ ومرشات العطور وأشياء النساء. حيث كان محبًا للرسم والتصاميم، فكلفه جلالة الملك عبد العزيز بصناعة باب جديد للكعبة.
وبدى في العمل على ذلك بتجهيز الرسوم، فرسم الباب ثم تم تجهيزه بعمله بالفضة، وشارك في صناعته جميع آل بدر واستغرق منهم العمل يدويًا سنه ونصف في الصب والسبك والنقش.
وبحسب تقرير لوكالة الأنباء السعودية (واس) فقد استغرق صنع هذا الباب 3 سنوات، وصنع من قاعدة الحديد الصلب التي ثُبّت على سطحها مصراعا الباب المعمولان من الخشب الجاوي المصفح بالفضة المطليّة بالذهب، إلى جانب أشرطة وفراشات نحاسية مزخرفة، فيما أُبقي على القفل القديم الذي ركب في موضعه عام 1309 هـ/1891م.

صورة أول باب للكعبة المشرفة يركب في العهد السعودي 1366هـ

تركيب الباب برعاية ولي العهد جلالة الملك سعود

وبعد الانتهاء كلية من صناعة الباب الجديد للكعبة تم تركيبه في موضعه بدلا من الباب القديم عصر يوم الخميس 15 ذي الحجة 1366 هـ – 31 أكتوبر 1947م في حفل رسمي مهيب داخل المسجد الحرام نظمته إدارة الأوقاف العامة ورعاه جلالة الملك سعود بن عبد العزيز ولي العهد آنذاك نيابة عن والده جلالة الملك عبد العزيز -رحمهما الله- بحضور وزير الدفاع آنذاك الأمير منصور، والأمير عبد الله الفيصل، وعدد من أصحاب السمو الملكي الأمراء، والعلماء وعلى رأسهم سماحة رئيس القضاة الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ وفضيلة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ وفضيلة الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ وسعادة مدير المعارف العامة فضيلة الشيخ محمد بن مانع، وأمراء المقاطعات، ورئيسا سدنه الكعبة، وعدد من أصحاب المعالي الوزراء ومدير الامن العام ومدير الأوقاف العامة ورؤساء الوفود والبعثات الإسلامية وكبار الشخصيات من الحجاج بالإضافة إلى هيئة موظفي المسجد الحرام وخدمه وأغواته.

وافتتح الحفل بتلاوة آيات من الذكر الحكيم تلاها المقرئ الشيخ سراج قاروت، ثم ألقى جلالته كلمة على الحضور جاء فيها “شعبي العزيز ووفود بيت الله الحرام:
أحييكم بتحية الاسلام والحمد لله الذي شرفنا بخدمة بيته وشرفني بوضع هذا الباب لهذا البيت العتيق. فهذا فضل من الله من به علينا وتلك مأثرة من مآثر جلالة والدي الملك المعظم حفظه الله وابقاه.
واني أسال الله في هذا الموقف العظيم ان يجعل عملنا كله خالصا لوجهة وان يتقبل منا ومنكم وأن يرفع الكرب عن شقيقتنا مصر وسائر بلاد المسلمين وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.


أعقبه الشيخ عبد الله الشيبى السادن الثاني لبيت الله الحرام بكلمة أشاد فيه بمآثر جلالة الملك المعظم وختمه بالدعاء لجلالته ولسمو ولى عهده ولكافة أفراد الاسرة المالكة، ثم ألقى فضيلة الأستاذ ضياء الدين رجب معاون مدير الأوقاف العامة كلمة تتحدث عن تاريخ باب الكعبة المعظمة والتغيرات والتطورات التي طرأت عليه.
وختم الحفل بتلاوة آيات من الذكر الحكيم تلاها الشيخ جميل آشى، ثم تقدم جلالة الملك سعود، وركب حلقة باب الكعبة على مصراعيه بين تهليل وتكبير المدعوين والمحتشدين، ثم دخل الكعبة المشرفة برفقة أصحاب السمو الملكي الامراء ورؤساء الوفود الإسلامية والعلماء والأعيان وبعد ذلك خرج من الكعبة وطاف بها ثم صلى بمقام ابراهيم قبل مغادرته المسجد الحرام.
وبقي ذلك الباب شاهدًا على تلك الذكرى حتى تم تغييره في عهد الملك خالد بن عبد العزيز-رحمه الله- في العام 1399هـ فوفق الموقع الإلكتروني لرئاسة الحرمين فإن الملك خالد عندما صلى في جوف الكعبة عام 1397هـ لاحظ تقادم الباب وظهور بعض الخدوش عليه فأمر بصناعة بابين جديدين للكعبة وباب التوبة صنعا من الذهب الخالص بكلفة بلغت (13,420,000ريال)، عدا كمية الذهب التي تم تأمينها بواسطة مؤسسة النقد العربي السعودي، والتي بلغت (280) كيلو جرامًا، عيار 999.9%. واستغرق العمل اثنا عشرة شهرًا منذ بدء العمل فيهما في غرة ذي الحجة عام 1398هـ، لذلك أقيمت ورشة خاصة لصناعته.

وكتب في الدرفة اليمنى لباب الكعبة ضمن زخرفة خفيفة عبارة: ( تشرف بافتتاحه بعون الله تعالى الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود في الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1399هـ)، وكتب في الدرفة اليسرى عبارة:(صنعه أحمد إبراهيم بدر بمكة المكرمة ، صممه منير الجندي ، واضع الخط عبد الرحمن أمين).

قصيدة فضل الله

وكما اعتاد شاعرنا ابن مكة المكرمة الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري بمواكبة المناسبات والأحداث الدينية والوطنية خصوصًا كل ما هو مرتبط بالحرمين أو الحج فقد نظم في تلك المناسبة قصيدة من 27 بيتًا بعنوان «فضل الله». نالت على استحسان وإعجاب المهتمين بأشعار المناسبات المكية والدينية ومن حضر الحفل، ونشرها لاحقًا في ديوانه «أنفاس الربيع 1374هـ- 1955م» ومهرها بقوله «نظمت بمناسبة الاحتفال بتركيب باب الكعبة الجديد».
زمما جاء فيها:
جلالٌ من روائعه انتهلنا *** سنى الإشراق عذبًا مستطابا
وذقنا من لذاذته رحيقًا *** وهل أشهى من النجوى شرابا؟
وقفنا حول بيت الله صفًا *** فزدنا من محاربهُ اقترابا
بيوم تشهد الدنيا بأنا *** عباد الله نعبده احتسابا
ومن يلزم ستار البيت يرجع *** نقيًا نال بالزلفى ثوابا
فكيف بمن حباه الله فضلًا *** فشيد وابتنى للبيت بابا؟
وكيف بمن أزاح الستر عنه *** وأرخى عن مهابته النقابا؟
يمينك في رتاج الباب فاهنأ *** بهذا الفضل واسأله الثوابا

وعلى ضوء اهتمام الأديب بتخصيص جزء من قصائده الموسمية في شهر الحج لتأديتها ضمن فنون الحج فقد وقع اختياره على الشاب الموهوب الصاعد آنذاك غازي علي لتلحين وغناء تلك القصيدة بمناسبة موسم حج 1379هـ فسجلت بإذاعة جدة بصحبة أوركسترا الجيش بقيادة الموسيقار الراحل طارق عبد الحكيم، وأرشفت بمكتبة إذاعة جدة في 07/02/1380هـ

جلالٌ من روائعه انتهلنا
جلالٌ من روائعه أنتهلنا
سنى الإشراق عذباً مستطابا اه اه اه
وذقنا من لذاذته رحيقاً
وذقنا من لذاذته رحيقاً
وذقنا من لذاذته رحيقاً
وهل أشهى من النجوى
وهل أشهى من النجوى شرابا

ولاقت تلك الأغنية في حينه رواجًا ونجاحًا أكد موهبة الموسيقار غازي علي وابداعية الثلاث طاهر زمخشري وطارق عبد الحكيم وغازي علي – رحمهم الله جمعًا-
ولعلها فرصة مناسبة أن أدعو في الختام بإضافة تلك القصيدة «فضل الله» ضمن الأعمال الأدبية الخاصة بالحرمين وإحياء أغنية «فضل الله» ضمن فنون الحج.

عدد المشاهدات 194