يعد العاشر من محرم المعروف بـ «عاشوراء» من المناسبات الدينية التي سن الرسول صلى الله عليه وسلم صيامها، فقد ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تهتم بصيام يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى – شكرا لله تعالى فنحن نصومه»، وللبخاري في رواية أبي بشر: «ونحن نصومه تعظيما له» قال: «فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه» وفي رواية لمسلم: «هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه».

ويُعتقد في روايات غير مثبته بسند صحيح بأنه اليوم الذي تاب الله فيه على آدم عليه السلام، وأنجى الله فيه نوحًا من الغرق، وعاد فيه يوسف إلى أبيه يعقوب عليهما السلام، ونجى الله عز وجل يونس عليه السلام من بطن الحوت. ورُفع فيه عيسى عليه السلام إلى السماء. وثبُت أنه اليوم الذي أستشهد فيه الأمام الحسين بن علي رضي الله عنهما سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد ارتبط هذا اليوم العظيم بعادات وتقاليد اجتماعية إلى جانب الصيام، احتفالًا بذكرى هذا اليوم عند معظم الشعوب الإسلامية بجميع فئاتهم ومذاهبهم وثقافاتهم، من أشهرها صناعة وتناول طبق المحبة النباتي المسمى بحلوى «العاشورية» أو ما يعرف أيضًا عند أهل الحجاز بـ «حلوى القمح»، أو «حلوى الأرز»، وعند الأتراك «أشوري»، أو «حلوى نوح أو عصيدة نوح – Noha’s Pudding»، وذلك لأنها -بحسب بعض الروايات- تعد أقدم حلوى في التاريخ، حيث يقال إنها الحلوى التي صنعها النبي نوح -عليه السلام- ابتهاجا بالنجاة بعد أن أرسى سفينته على جبل الجودي، وجمع أصناف الحبوب والفاكهة لصنع عصيدة الاحتفال، وفقا لروايات عدة ودراسة تاريخية أجرتها جامعة ماساتشوستس بحسب ما أورده موقع الجزيرة نت.

وبرغم اختلاف الروايات عن أصل ومنشأ طبق حلوى «عاشوراء»، إلا أن العديد من المصادر التاريخية أجمعت بأنه يعود للعهد العثماني وأُطلق عليه اسم «أشوري» وفي رواية أخرى أنه عندما دخل صلاح الدين الأيوبي مصر وهزم الدولة الفاطمية في أواخر القرن السادس الهجري أراد أن يمحو كل ما يتعلق بها خاصة تلك الأطعمة التي كانت مرتبطة بعاداتهم في يوم عاشوراء، أمر الطباخين بصنع طبق بدلًا عن تلك الأطباق فصنعوا طبق «حلوى عاشوراء»، بطريقته الحالية.

وهناك رواية أيضًا بأن الشعب اليوناني أشتهر بتحضير حلوى بنفس مكونات حلوى العاشوراء تسمى «كوليفا»، ولكنهم يوزعونها في المقابر على أرواح الموتى.

وامتازت الشعوب الإسلامية في توقيت صناعة «حلوى عاشوراء»، حيث ارتبط تقديمها بالعاشر من شهر محرم وتوزيعها على الأهل والأصدقاء والغرباء أيضًا، باعتبارها رسالة محبة وسلام في أحد أيام الأشهر الحرم، بحسب ما ورد في كتاب “الطعام والأعياد والإيمان.. موسوعة ثقافة الطعام في الأديان” (Food. Feasts And Faith. Food Culture In World Religions).

ويعد طبق عاشوراء أكثر الحلويات النباتية شهرة، فلا يستخدم في وصفته أي من منتجات الحيوانات، ويرى البعض أن حلوى عاشوراء «العاشورية» نباتية بصفتها رمزا معنويا للأشهر الحرم التي لا تراق فيها الدماء، وتختلف مكونات وطريقة صنعه من بلد إلى آخر بحسب بيئتها الشعبية، فالأتراك يحرصون على إضافة عشرة مكونات له ليتماشى مع اسم المناسبة، وتشمل بعض هذه المكونات حبوب الحمص والفاصوليا البيضاء والقمح، يضاف إليها حبات القرنفل وعيدان القرفة والزبيب «العنب المجفف» والمكسرات والفواكه المجففة «المشمش والتين» وبعض الفاكهة الطازجة مثل التفاح والبرتقال، والكمثرى، وحبات الرمان، والحليب. ويعد الطبق الأكثر شهرة في المطبخ التركي الذي تتقن وتتنافس في صناعته النساء.

أما في مصر فتختلف طريقة تحضيره ومكوناته، إذ تعتمد على استخدام القمح والحليب والنشاء والسكر والقشدة وتزيينه بالمكسرات (فستق، زبيب، بندق، جوز هند). والقرفة وغيرها من النكهات الإضافية المميزة، وقد يفضل البعض تناوله ساخنًا والبعض الآخر يفضله باردة. وبالإضافة إلى أكلة في يوم عاشوراء فإن بعض الأسر المصرية يتناولونه طيلة العام لطعمه اللذيذ وسهولة هضمه، بالإضافة إلى فوائده الغذائية.

أما أهالي الحجاز خصوصًا جدة والمدينة المنورة ومكة المكرمة فأنهم يحرصون على تقديمه وتناوله بعد صلاة مغرب العاشر من محرم مع وجبة الإفطار. وكان الأهالي والجيران يتبادلونه فيما بينهم، لإضفاء جو من المحبة والتواصل الاجتماعي، ولا تزال بعض الأسر حتى يومنا هذا محافظون على هذه العادة باعتبارها من العادات الاجتماعية الأصيلة التي تؤلف بين القلوب وتديم التواصل والمحبة. وادخلوا على طريقة تقديمها وصناعتها بعض التحديثات فأصبحوا يقدمونها في كاسات الكريستال أو أطباق زجاجية ملونة، وتزيينها بالمكسرات الفاخرة (اللوز البجلي، الفستق، والشوكولاتة الفرنسية المبشورة)، التي ترش على وجه الطبق كلمسة إضافية للتزيين. مع الاحتفاظ بمكونات الطبق الأساسية من القمح، والأرز المصري، والحليب وإضافة المكسرات والمنكهات إليها. وجرت العادة أن تزدحم محلات بيع المكسرات خصوصًا في الأسواق الشعبية لشراء مكونات طبق «حلوى العاشورية» وتعتمد الطريقة الحجازية في تحضيره على غلي القمح المنقوع لمدة ساعة تقريبًا ثم يضاف إليه الأرز ويُطهى الخليط على نار هادئة حتّى ينضج ثم يضاف إليه حليب ممزوج بماء الورد والكادي ويضيف البعض النشا لتكثيف المزيج، ويحلى بالسكر حسب الرغبة ويضاف إليه الفستق والصنوبر والزبيب واللوز، والمنكهات مع تُحرّك المكوّنات جيداً على النار الهادئة، ثم يُسكب الخليط في أطباق للتقديم وتزينها بالمكسّرات والشكولاتة المبشورة (حسب الرغبة)، وفي حالة إضافة الفاصوليا واللوبيا والبليله إلى الخليط فإنها تنقع مسبقًا وتغلى مع القمح.

وبالرغم من العمق التاريخي والبعد الثقافي والاجتماعي والاقتصادي لطبق «حلوى العاشورية» فضلًا عن قيمته الغذائية لما يحتويه من الياف ومعادن وفيتامينات ودهون غير مشبعة إلا أنه يلاحظ غيابه من الاهتمام الثقافي والأدبي قياسًا على ما كان يوليه الأدباء والشعراء في العهود القديمة من اهتمام أدبي بأطباق المأكولات والحلويات خصوصًا الموسمية منها كالقطائف والكنافة والزلابية. لذلك أكرر ما اقترحته سابقًا في مقالي «توثيق عادات الاحتفال بمطلع العام الهجري ضمن التراث غير المادي» بأن توثق وزارة الثقافة العادات الاجتماعية القديمة ومناسباتها والمأكولات والمشروبات المرتبطة بها ضمن التراث غير المادي للملكة، وتنظيم فعاليات جماعية لها تبث روح البهجة في نفوس الناس، وواجهة حضارية تشجع السياحة الداخلية. تمشيًا مع ما تشهده بلادنا من عمل دؤوب وحثيث لاستنهاض كل ما هو جميل من عاداتنا وتقاليدنا الجميلة، التي تضفي البهجة على النفوس والتفاؤل وتكرس الحب والوئام بين أفراد المجتمع وتقوي علاقاتهم. كذلك دعوة الشعراء والأدباء المعاصرين بإثراء هذه المناسبة بأعمال جديدة على غرار ما فعله الشعراء والأدباء السابقون، واختم دردشتي بما قاله الشاعر العباسي أبن الرومي في حلوى الزلابية وصانعها:

ومُسْتَقِرٌ على كُرْسِيِّهِ تَعِبٍ

رُوْحي الفِداءُ له مِنْ مُنْصَبٍ نَصِبِ

رأيتُه سَحرَاً يَقْلي زَلابيَةً  

في رِقَّةِ القِشْرِ والتَّجْوِيْفُ كالقَصَب

كأنما زَيْتُهُ المَغْلِيُّ حين بَدا

كالكِيْمِياءِ التي قالوا ولم تُصَب

يُلْقِي العَجِيْنَ لُجَيْنَاً مِنْ أَنَامِلِهِ

فَيَسْتحِيْلُ شَبابِيْطاً مِنَ الذَّهب

عدد المشاهدات 116