أغتنم فرصة هذا اليوم الأربعاء مطلع العام الهجري الجديد 1445هـ بالدعاء والتضرع إلى الله بأن يجعله عام خير وبركة علينا وعلى الأمة الإسلامية، وأن يكشف الغمة عن الأمة ويحفظها من شر الأسقام والكوارث، ويسود السلم والسلام أرجاء المعمورة، والمودة والألفة بين الناس.

إذ يحل هذا العام وبعض دول العالم لا تزال تشهد توترات واضطرابات سياسية جعلتها وكأنها على فوهة بركان، فضلًا عن الحرب القائمة منذ أكثر من عام بين روسيا من جهة وأوكرانيا والدول الغربية من خلفها. أما المسلمون فقد ينطبق عليهم ما قاله الشاعر طاهر عبد الرحمن زمخشري رحمه الله في قصيدته الخالدة «يا أعذب الحب»:

يا أعذب الحب…

المسلمون تمادوا في تنافرهم *** فمزقتهم شرور كلها حمم

وطوقتهم بهول لا حدود له *** لأنهم قد تناسوا أمر ربهم

وفي نفس الوقت تعاني العديد من الدول من ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة بسبب التغيرات المناخية، ترتب عليها اندلاع حرائق غابات في أمريكا الشمالية وأوروبا وفي مناطق مختلفة من العالم.

ومع ذلك لا يزال لفيف من الناس يتمتعون بقدر كبير من التفاؤل والبهجة والسعادة وتجلى ذلك بمظهر التهاني والتبريكات والدعوات التي يتبادلونها فيما بينهم، والاستمتاع بعاداتهم وتقاليدهم المرتبطة بمناسبة العام الهجري الجديد..

وفي هذا السياق استذكر الخلفية التاريخية لهذه الذكرى، إذ كان أول من أرَّخَّ بالهجرة في الإسلام هو الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقد أخرج الحاكم عن الشعبي أن أبا موسى كتب إليه: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: أرخ بالمبعث، وبعضهم أرخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها، وذلك سنة سبع عشرة، فلما اتفقوا قال بعضهم: ابدأوا برمضان. فقال عمر: بل المحرم، فإنه منصرف الناس من حجهم فاتفقوا عليه. ومن حينها اعتمد المسلمون التقويم الهجري وكان يوم 1 محرم من عام 17هـ هو بداية أول سنة هجرية.

وقد اثار اهتمامي واعجابي عودة الكثير من شرائح المجتمع تدريجيًا للاهتمام والعناية بهذه المناسبة واحياء بعض العادات والتقاليد الي كادت أن تندثر خصوصًا صناعة «قهوة اللوز» حيث بدأت بعض المقاهي الحديثة تدخلها ضمن قوائمها للمشروبات، بالإضافة إلى بعض الحلويات الحجازية القديمة.

ولمن لا يعرف «قهوة اللوز» التي تعرف أيضُا بـ «القهوة البيضاء، القهوة الحلوة، القهوة الملوزة، قهوة ستنا خديجة» فهي مشروب ساخن يصنع بغلي كمية من الحليب مع السكر، يضاف إليه دقيق أرز مخلوط مع حليب بارد ويمزجا سويًا ويقلبا فوق النار ويضاف إليهما اللوز والهيل مع الاستمرار في التقليب حتى ينضج ويقدم ساخنُا وتختلف أذواق الناس ما بين من يفضل اللوز مجروشًا، أو مطحونًا، محمصًا، أو مسلوقًا أو غير مقشر.

ومن طريف وظريف ما كان سائدًا من عادات وتقاليد قديمة في المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية خصوصًا في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة، حيث كان بعض الأهالي مع حلول أول يوم عام هجري جديد إلى جانب شربهم «قهوة اللوز» يضفون صِبغة اللون الأبيض والأخضر على كافة مناحي حياتهم من باب التفاؤل بأن تكون السنة الجديدة كلها بيضاء وخضراء ويسودها الحب والوئام. وذلك بتناول وجبة الملوخية الخضراء مع الأرز الأبيض في وجبة الغداء، وفرش البرسيم الأخضر في الطرقات والسير عليه مرتدين ملابس بيضاء، ويتبادلون الزيارات فيما بينهم للتهنئة بالعام الجديد. وتميز أهالي المدينة المنورة بشراء الورد المديني والنعناع والفل وتوزيعه على الأرحام والجيران. إضافة إلى حرص العائلات على أن يتم صرف المال في اليوم الأول من السنة بشكل اقتصادي بدون أي مبالغات حتى يستمر العام على نفس هذه الوتيرة.

واجدها فرصة أن اكرر ما اقترحته سابقًا «حال العام الهجري الجديد 1443هـ وقهوة اللوز» على وزارة الثقافة بأن توثق تلك العادات ضمن التراث غير المادي للملكة وتنظيمها في شكل مسابقات واحتفالات جماعية تبث روح البهجة في نفوس الناس، وواجهة حضارية تشجع السياحة الداخلية. تمشيًا مع ما تشهده بلادنا من عمل دؤوب وحثيث لاستنهاض كل ما هو جميل من عاداتنا وتقاليدنا الجميلة، التي تضفي البهجة على النفوس والتفاؤل وتكرس الحب والوئام بين أفراد المجتمع وتقوي علاقاتهم.

كذلك دعوة الشعراء والأدباء المعاصرين بإثراء هذه المناسبة بأعمال جديدة، كذلك إحياء ما خلفه الرواد من أعمال أدبية مرتبطة بذكرى هذه المناسبة أيضًا مثل قصيدة «ذكرى الهجرة» للأديب الراحل طاهر عبد الرحمن زمخشري – رحمه الله – من ديوانه «همسات – 1952م/1372هـ» التي نظمها من 30 بيتًا مقسمة على أربعة مقاطع المقطع الأول خمسة أبيات المقطع الثاني ثمانية أبيات، المقطع الثالث أحد عشر بيتاً، المقطع الرابع ستة أبيات، مجد من خلالها هجرة المختار المصطفى عليه الصلاة والسلام ودعى فيها إلى ترك الأحقاد والضغينة لأنها سلاح المخفق.

مع ضرورة توعية المجتمع بأهمية التفريق بين العادات الاجتماعية والعبادات حتى لا تتحول تلك العادات والتقاليد الموروثة بمرور الزمن الى معتقد ديني.

وأختم دردشتي هذه بأبيات قصيدة «ذكرى الهجرة»

ناحتِ الشمسُ على عامِ مضَى *** ثم ذابت حمرةً في الأفق

وأفاضَتْ مِن شجاها زفرَةً *** صبغت أنوارها بالشَّفق

ووراء الأفق بحرٌ صاخبٌ *** يتلظّى بالبِلي المصطفق

تسبح الأجيال في تَيَّاره *** فلكه مُضْطَربٌ في نزق

فإذا ما لعبَ الْبَحرُ به *** ترجفُ الدُّنيَا له من فرق

*****

فهنا عام وقد ملَّ السُّرى *** فانزوى خلف سجافِ الغَسَّق

لاهثاً أكدى وللدهر يَدٌ *** بِعصور سلفت لم تُشفق

يا لِغَرْقَى ذهب الماضي بِهم *** وذكاءٌ في ذهول المطرق

كل عامِ تُرْسل الدَّمْع على *** راحلِ أحرزَ قصبَ السَّبَق

فإذا العام توارى غَرقَتْ *** لِتُحَييِّ فجرَ عامِ مُشرِق

هكذا المقدور يجري حكمه *** يا ليالي للبِلى فاَنْطَلقي

واتركي خلفكِ ذِكرى ربمَّا *** كانت النور على المْفُتْرَق

واقرئي من صُوَر الماضي لنا *** عِبَراً تَجلْو الصُّوى في الطرقِ

*****

فهُنا عامٌ وهذا فجره *** هلَّ موفورَ السَّنا والفَلقِ

تلعبُ الآمالُ في أعطافِه *** مُشْرقاتٍ في إهابٍ يَفَق

مُشرئبَّاتِ وفي مَطلعها *** غرةُ الصُبح المنير المونق

والشَّذا الفَوَّاح في موْكبها *** عاطرَ الأنفاس زاكي العَبَق

والسَّنا الضَّاحك في أفيائها *** يغمر الدنيا بسحرِ الرَّوْنقِ

طلعةٌ والصبح من إشراقها *** لِسوى عذبِ المنى لم تُخْلَق

ذكَّرتني، رُب ذكرى رقصت *** بِحنايا ذائبٍ مُحْتَرق

ذكَّرتني، موكب النور سرى *** وَضَحاً يغزو الدُّجىٰ كالفَيْلَقِ

ذكَّرتني الغار في جوف الدُّجىٰ *** وبه النصر الذي لم يُخْفِق

ذكَّرتني المُصْطَفَىٰ مُختبئاً *** يرقب الصُّبح وَلمَّا يَبْثُق

ذكَّرتني صرخةَ الحقِّ وقد *** كُبِتَتْ لكنها لم تُخْنَق

*****

هاجرَ المْختار من موطنهِ***مرهفَ العزمِ، قويَّ المنطق

فانتضى من عزمة الحق الظُّباَ *** جاهدتْ صفاً فلم يفَتَرق

جمعت شمل الأولَىٰ شادوا لَنَا *** صرْحَ مجدٍ، وسلامٍ مُشرقِ

ضله الأهواء لا تجني سِوىٰ *** خرقٍ، يا بئسَهُ من خرق

فاتركوا الأحقاد واحْتَثُّوا الخطَىٰ *** إنَّما الَضِّغْنُ سِلاَحُ المُخْفق

هجرة المختارِ ذكرى فيْضُهَا *** بات يَهْمي بالسّنَا الْمُنْبَثق

عدد المشاهدات 154