استكمالًا لما سردته في مقالي «فقيد الأدب عبد المقصود خوجة والحلم المنشود..» «2022/08/24م». عن مآثر الأديب ورجل الأعمال مؤسس منتدى الاثنينيه الثقافي عبد المقصود محمد سعيد خوجة الأدبية والإنسانية التي ربطتني به شخصيًا.

سأتوقف في هذه السطور مع جانب من مناقب الفقيد. غابت عن الكثير من كلمات الرثاء والعزاء وعن أقلام عمالقة رموز الأدب والفكر والثقافة في عالمنا. الذين امتلأت الصحف والمجلات بمقالاتهم.

وهي قصة الوفاء التي جمعت الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري الملقب بـ «بابا طاهر» كما كان يحلوا له أن نناديه. وصديقه الشيخ محمد سعيد خوجة وابنه الشيخ عبد المقصود «رحمهم الله جميعًا». وكان لها الفضل الكبير في إيصال بابا طاهر إلى أرقي مراتب الفكر والأدب التي كان يطمح الوصول إليها. وذلك من باب رد الفضل لأهله، كما قال بابا طاهر رحمه الله: “وإذا أحببت أن أرد الفضل لأهله، فإن محمد سعيد عبد المقصود، وعباس قطان، ومحمد سرور الصبان، هؤلاء الثلاثة كان لهم أيادٍ بيضاء كثيرة فلهم الشكر بعد الله..”. “إن محمد سعيد خوجة رجل محسن في عمله وفي أخلاقه وهو محسن إلى غيره، وأنني أحد الذين شملهم إحسانه، فكان يبرني ويعطف علي ويساعدني بالمال. فقد كان له الفضل في الوقوف من خلفي يدفعني لكي أشق طريقي بثبات. وابنه اليوم عبد المقصود ينهج نهج أبيه يُكرِّم ويُعين ويكتب بأعماله الخيرة صفحات مشرقة له في سجلات الذكرى الحسنة والعمل الطيب، جزاه الله كل خير”.

وتعود بداية العلاقة بين بابا طاهر والشيخ محمد سعيد خوجة إلى مطلع الخمسينيات الهجرية من القرن الماضي، حينما عينه للعمل لديه في المطبعة الأميرية، فقد روى رحمه الله في معرض ذكرياته مساء تكريمه في اثنينية خوجة «1403/03/25ﮬ – 1983/01/10م»: “تخرَّجت ولله الحمد من مدرسة الفلاح من الأوائل، ولكني كنت فقيراً، وكانت الوساطة والوجاهة من الأسباب القوية للحصول على الوظيفة، أما الفقير ابن الفقير فلا يجد السبيل إليها، حتى شاءت الأقدار، ولعبت الصدفة دورها ذات ليلة في سهرة ما في بيت أحد الجيران هو “بيت البَنَا” على ما أذكر، وقدمني بعض الإِخوان إلى الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود خوجة وامتدحوني أمامه وبيَّنوا له أنني تخرجت من مدرسة الفلاح، وأنني لم أجد وظيفة، بينما الحقيقة، أنني كنت أعمل بوظيفة مؤقتة منذ عدة أشهر تحت مسمّى كاتب في إدارة إحصاء النفوس، والتي تمكَّنت من الحصول عليها بعد نجاحي في مسابقة أُعَّدت لذلك وقد حصلت فيها على المركز الأول.

وكان لي في إحصاء النفوس جولة لا مجال لذكرها الآن. خطوتي الأولى التي أحسست أني شعرت بها بطعم الحياة كانت المطبعة الأميرية “مطبعة الحكومة”، وفي رعاية الشيخ محمد سعيد عبد المقصود، وكنا نخبة من الشباب أذكر منهم على سبيل المثال الأستاذ عبد الله بلخير شاعر الشباب، والأستاذ أحمد ملائكة، والمرحوم عبد الله عريف، وحسين خزندار، ومصطفى كمال باتبارة، وعبد الكريم مخلص، وحسن الياس.
وكنا مجموعة من الشباب المثقف اختارنا الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود خوجة حوله، وكان يرعانا الرعاية الكاملة ومن رعايته لي بصفة خاصة أنه أصدر تعليماته بتعييني كاتبًا في المطبعة براتب فرّاش، وكان الكاتب الذي يتقاضى راتب فراش يتولّى القيام بعمل الوارد والصادر، ومهمة مأمور المستودع، ومصحح الجريدة، وذلك كله مقابل مرَّتب مقداره 4 جنيهات آخذها من العم محمد باحمدين – الله يرحمه.

وفي تلك الفترة عرفت سبيلي إلى الحياة، وعرفت طريقي إلى العمل، وتعلَّمت من محمد سعيد عبد المقصود العمل الجاد. فقد كان يسكن في الخريق وكانت المطبعة في أجياد وكان أحيانًا يتصل بي هاتفيًا، ويطلب مني إنجاز عملٍ ما فلا أكاد أجمع أوراقي لأنفِّذ تعليماته، حتى أجده واقفًا أمامي وقد قدم من منزله من الخريق.
مشيت المشوار مع محمد سعيد عبد المقصود، وارتبطت بهذا المشوار بالحركة الفكرية، وأنا كنت ناشئًا، كل مؤهلاتي هي المؤهلات التي حصلت عليها من مدرسة الفلاح فيما يتعلق بالنحو والصرف، والبلاغة والبديع، وموازين الشعر. ولكنني لا أعرف شيئًا عن كتابة المقالات.

وكان السيد رشدي ملحس مدير الجريدة، والأستاذ محمد سعيد عبد المقصود مدير المطبعة، يكلفاني بتبويب الجرائد والبريد. فرغم أن المطبعة كانت تقوم بإصدار جريدة واحدة أسبوعية هي (أم القرى)، كانت الجرائد والمجلات التي تصلنا من الخارج أكثر من 150 صحيفة متنوعة، ما بين مجلات وجرائد، وكانا يتركان لي فرصة تبويب هذه الجرائد، وكنت شغوفاً بالقراءة، فبدلًا من القيام بتبويب الجرائد أنهمك في قراءتها، وكان الأستاذ رشدي ملحس والأستاذ محمد سعيد عبد المقصود يرياني ويتركاني لشأني عدة ساعات، وكانا سعيدين بهذا.

وكانت لنا مع الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود خوجة ذكريات جميلة، أذكر منها أنه كان يبعث الحماس فينا كناشئة، وكان ألمعُنا وأبرزنا شاعر الشباب في ذلك الزمان الأستاذ عبد الله بلخير الذي كان من أبرز الشباب حول المرحوم الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود.

ومن الذكريات الجميلة أيضًا أن الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود يُعرف في ذلك الوقت بالأستاذ محمد سعيد خوجة فقط وكان في مكة في ذلك الوقت تاجرٌ يحمل نفس الاسم، وهذا التشابه في الاسم نجم عنه كثير من اللبس، فقد يحدث بصفة متكررة أن تصلنا عن طريق البريد خطابات تحمل بوليصة شحن أو مناقصات، فنكتشف عدم علاقتنا بها وأنها تخص محمد سعيد خوجة التاجر، فنرسلها له معتذرين، وفي الوقت ذاته تصله خطابات تحمل مقالات، أو طلب نشر إعلانات، أو مجموعة كتب، فيكتشف أنها تخص محمد سعيد خوجة الكاتب، فيرسلها لنا معتذرًا، وأخيرًا رأى الأستاذ محمد سعيد خوجة الأديب أن أفضل طريقة لوضع حد لهذا اللبس أن يضيف إلى اسمه اسم والده عبد المقصود حتى يصبح الاسم هكذا: (محمد سعيد عبد المقصود خوجة)”.

كانت تلك بداية علاقة العمل التي جمعت بابا طاهر بالشيخ محمد سعيد خوجة، ورعايته له حتى توقف عن العمل وغادر إلى المدينة المنورة لرعاية والدته بإيعاز من والده، وخلالها عمل كمعلم بدار الأيتام، حتى عيره زملائه كيف له ان يأتي للعمل في المدينة المنورة والناس تذهب للعمل في مكة. فغضب وعاد لمكة المكرمة لعمله الأول في المطبعة.

وعن ذلك روى أيضًا: “علَّق بعض الزملاء على اشتغالي بدار الأيتام بقولهم: ما رأيكم في شخص قدم للعمل بالمدينة؟ في حين يتركها الناس إلى مكة للعمل هناك. فقررت ترك الوظيفة والعودة إلى مكة. عدت إلى مكة، وعندما قابلت الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود سألني لماذا عدت؟ مع أنك قد وجدت عملًا في المدينة، فأخبرته بما عيَّرني به زملائي في دار الأيتام، فسألني: هل ترغب في العودة للعمل في المطبعة؟ فأجبت بالإيجاب، وعدت بالفعل للعمل في المطبعة مصححًا، وكانت هذه بداية تجربتي في الصحافة، وكان لمحمد سعيد عبد المقصود أثر كبير في حياتي. فبسببه عرفت امتلاك النقود حيث كانت المطبعة تقوم بطبع تقاويم أم القرى وتوزِّعها على الدوائر الرسمية وعلى المكتبات وعلى السوق وتحصّل قيمتها فورًا. فدعاني الأستاذ محمد سعيد وقال لي: المكتبات والدوائر الرسمية أنت مسؤول عن البيع لها، ومسؤول عن تحصيل قيمة ما تبيعه. ولقد كانت الكمية التي وكّلني ببيعها ما بين سبعة إلى عشرة آلاف نسخة. وقمت بالفعل بتوزيعها واستحصال مبالغها وتوريدها للمحاسبة وبعدما انتهت عملية البيع وتوريد القيمة، أعطاني خمسين جنيهاً ذهبًا، فسألته: – لِمَ هذا المبلغ؟ فقال: هذا مقابل أتعابك في بيع التقاويم بواقع 10% من قيمة المبالغ التي تمَّ تحصيلها.
هذه هي بدايتي في المطبعة. وقد تعلَّمت فيها معنى العناد في سبيل الوصول إلى الغاية، تعلَّمت ذلك من محمد سعيد عبد المقصود الذي أنشأ مدرسة لتعليم الصف والطبع.. لعدم وجود عمال بالمطبعة، واختارني مراقبًا لتلك المدرسة، وكان يصرف للعمال مكافآت تشجيعية لرفع مستواهم وتشجيعهم على التعلم، وعيَّن منهم رؤساء للأقسام المختلفة. رئيس قسم الطبع، ورئيس قسم التجليد، واختار نفرًا منهم وأرسلهم بعثة للخارج على حساب المطبعة لدراسة التجليد والصف والطبع..

وكان يخطط لإِقامة أكبر مطبعة في العالم العربي، فلا ينفك ليل نهار في اجتماعات متواصلة ودراسات ثقافية وإعداد مستمر لإِنشاء أكبر مطبعة في العالم العربي. وتعتبر المطبعة الكبرى التي وضع لها الأساس هي العمارة التي تقع في مدخل مكة، والتي فيها الشرطة الآن، ويعتبر العاملون في مطابع مكة الآن معظمهم، إن لم يكونوا كلهم من عمال المطبعة التي أسَّسها محمد سعيد عبد المقصود.. وقد أصبح بعضهم الآن أصحاب مطابع مستقلة، وما ذلك إلاَّ بتوجيه الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود، وهناك أشياء كثيرة لا يتَّسع الوقت لذكرها، ولكني كما قلت آنفاً، سألتزم بذكر البدايات”.

وبمرور السنين جاء الدور على الشيخ عبد المقصود خوجة الأبن ليكون السند والدعم لبابا طاهر في تحقيق طموحاته الأدبية والفكرية والاعتناء بأعماله كما ينبغي، وتكريمه عبر اثنينيته مرتين الأولى أمسية الاثنينية (2) والثانية (40) مع الشيخ أحمد عبد الغفور عطار بمناسبة حصولهما على جائزة الدولة التقديرية للأدب عام 1405-1985م. وذلك امتدادًا للدور الذي بدأه أبيه مع بابا طاهر من باب البر والوفاء لأصدقائه.

وعلى ما أذكر أنه عندما كان بابا طاهر يخضع للعلاج في إحدى مستشفيات لندن مطلع الثمانينيات الميلادية، كان الشيخ عبد المقصود خوجة من أوائل الذين زاروه في المستشفى للاطمئنان على صحته، وعندما رأه بابا طاهر أدمعت عيناه وقال: لقد تجلت أمامي صورة والدك رحمه الله. وأرى فيك نعم الأبن البار لأبيه.

وهكذا ضرب الشيخ عبد المقصود خير مثل في الوفاء لأبيه ببره لصديقه بابا طاهر، وأختم دردشتي بقول الشاعر خالد المحاميد في الشيخ عبد المقصود.
يا سيدي والقول فيك رواية
كتبت عظيم فصولها الأفعال
إن كنت أخفيت المكارم زاهدًا
فلها لسان فاضح ومقال

عدد المشاهدات 434