أحزنني كثيرًا نبأ وفاة رجل الأعمال والأدب والإنسانية الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجة. الذي وافته المنية «السبت 1444/01/22هـ – 2022/08/20م» في الولايات المتحدة الأمريكية عن عمر ناهز 86 عامًا بعد معاناة مع المرض. وصُلي عليه بالحرم المكي الشريف بعد صلاة مغرب «الأربعاء 1444/01/26هـ – 2022/08/24م» ودفن بمقبرة المعلاة بمكة المكرمة.
فأسأل الله أن يغفر له ويرحمه ويسكنه فسيح جناته.. اللهم آمين.

ومن باب اذكروا محاسن موتاكم أتوقف في هذه السطور مع بعض المآثر الأدبية والإنسانية التي ربطتني به شخصيًا.
فعندما شرعت في مطلع الألفية الثانية بمبادرة ذاتية إطلاق مشروع إحياء الإرث الأدبي لجدي الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري المعروف بـ «بابا طاهر» كما كان يحلوا له أن نناديه بدء بتدوين سيرته الذاتية.
كاتبت كل من عرفت أن لهم صلة علاقة به لجمع معلومات عنه، وكان من بينهم الشيخ عبد المقصود خوجة، لعلمي بعمق علاقته ببابا طاهر الذي ما فتئ في أواخر حياته من ذكر فضائله وفضل أبيه الشيخ محمد سعيد خوجة الذي رعاه وتبناه، وعينه في أول مطبعه بالمملكة «المطبعة الأميرية» بمكة المكرمة. ووضعه على أول سلم الأدب والثقافة والصحافة (رحمهم الله جميعًا).
كما كان الشيخ عبد المقصود خوجة من أكبر الداعمين له ماديًا ومعنويًا حيث أهداه منزلاً لإقامته في تونس، وأول من بادر بجمع دواوينه الشعرية وإعادة طباعتها في نسخة فاخرة صدرت عن دار تهامة للطباعة والنشر؛ الأولى سميت «المجموعة الخضراء 1402هـ/1982م»؛ وهي مجموعة الدواوين التي أصدرها في تونس، والثانية «مجموعة النيل 1404هـ/ 1984م»؛ وهي الدواوين التي أصدرها في مصر، والثالثة كان من المفترض أن تكون «مجموعة الأرز»؛ وهي الدواوين التي أصدرها في لبنان بيد أن وفاة بابا طاهر في العام 1407هـ حالت دون إصدارها.

وعلى أي حال؛ عندما تسلم الشيخ عبد المقصود خوجة رسالتي كان في إجازته الصيفية خارج البلاد، فأوعز إلى مكتبه بإهدائي نسخة فاخرة من الجزئين الأول والثاني للإثنينية، رغم أنه لم يكن يعرفني أو التقى بي من قبل، فقرأتهما ووجدت أنهما كنز أدبي لا يقدر بثمن، حيث تضمنت نصوص وكلمات المحتفى بهم والضيوف في أمسيات تكريم منتدى الإثنينية.

ومن بينها أمسية «الإثنينية-2 – 1403/03/25هـ-1983/01/09م» التي كرم فيها بابا طاهر، وألقى كلمة استعرض فيها الكثير من جوانب حياته الشخصية خصوصًا المرتبطة بعلاقته بوالد الشيخ عبد المقصود «الشيخ محمد سعيد خوجة» منذ تخرجه من مدرسة الفلاح وحتى انطلاقته الأدبية، وبموجبهما استطعت أنجاز مؤلفي الأول عن حياته بعنوان «الماسة السمراء.. بابا طاهر زمخشري القرن العشرين» الذي صدر في العام 2005م. وأهديت نسخة منه للشيخ عبد المقصود خوجة في «1426/06/27هـ – 2005/08/02م»

غلافة كتاب الماسة السمراء - الطبعة الأولى
غلافة كتاب الماسة السمراء – الطبعة الأولى

وكان من المفترض أن أكمل بقية المشروع بإصدار 6 أجزاء اخرى من الكتاب تتناول: (كلمات أغاني بابا طاهر ومناسباتها، رائد أدب الطفل، بابا طاهر ما بين الأثير والشاشة البيضاء، رحلاته ما بين بلاد الأرز وضفاف النيل وضلال الخضراء، أشعار بابا طاهر، دراسات نقدية لشعر بابا طاهر)، كذلك إعادة إصدار قصائده في مجموعات حسب أغراضها الشعرية (دينية، وطنية، حماسية، فنية…الخ)، ونشر كافة أعماله الأدبية التي لم تنشر من قبل، وإطلاق موقع إلكتروني وحسابات على شبكات التواصل الاجتماعي تضم كافة أعماله المقروءة والمسموعة والمرئية، وإعادة إنتاج أهم وانجح الأغاني التي كتبها أو لحنها، وإعادة إصدار مجلة الروضة بقالب جديد.
ولكن شح المعلومات ومحدودية الإمكانيات فضلًا عن انشغالي بتنمية وتطوير مشروعي الموازي آنذاك جمعية إبصار الخيرية للتأهيل وخدمة الإعاقة البصرية حالت دون استمراريتي في تنفيذ المشروع.

ولم أكن أتوقع أن عملي في جمعية إبصار سيجمعني شخصيًا بالشيخ عبد المقصود خوجة الذي طالما تنميت لقاءه والعمل معه في مواصلة مشروعي خصوصًا بعد انضمامه إلى عضوية الجمعية في «1428/06/05 – 2007/06/20م». ودعمه لها.
وقد لعبت الصدفة البحتة دورًا في أول لقاء مباشر لي به في العام 2013م حينما واجه مشكلة في عدم القدرة على القراءة وتعذر إيجاد قياسات النظارات المناسبة لحالته. فُنصح بمراجعة عيادة إبصار لضعف البصر التي عدت آنذاك أنموذجًا يقتدى به للعناية بضعف البصر في منطقة الشرق الأوسط وفق الوكالة الدولية لمكافحة العمى.
وعند علمي بمجيئه للعيادة استقبلته وعرفته بنفسي بأنني حفيد بابا طاهر، فابتهج كثيرًا وترحم عليه، وبعد الانتهاء من الفحوصات الإكلينيكية لحالته البصرية مع استشاري ضعف البصر د.محمد سرفراز خان تم تحديد النظارة الطبية والاضاءة المناسبة له، التي سعد بها كثيرًا لتمكنه من القراءة بصورة طبيعية ومريحة، ونصح بالمراجعة كل عدة أشهر للمتابعة.
ودعاني والدكتور خان لحضور أمسية الاثنينيه، واضافنا إلى قائمة الضيوف، فشكرته ولبيت الدعوة وفي أول حضور لنا رحب بنا وأهدانا في نهايتها نسخة من مصحف مخطوط من إهداءات الإثنينية. ومن حينها أصبحت من مرتادي الاثنينية والمداومين على حضورها.
وفي مراجعته الثانية للعيادة «2013/08/31م» وبعد انتهائه من الفحوصات التي أجراها له اختصاصي ضعف البصر هاني الرحيلي رافقته في جولة ميدانية داخل مرافق الجمعية وأطلعته على خدماتها التي أشاد بها، وخلال الزيارة تبادلنا الحديث فتساءل عن وضع أعمال بابا طاهر الأدبية ودواوينه الشعرية، وأخبرته عن مشروعي لأحياء أرث بابا طاهر الأدبي والأهمية التي مثلها كتاب «الاثنينيه» كمرجع هام لمؤلفي «الماسة السمراء.. بابا طاهر زمخشري القرن العشرين»، وطلبت منه دعم مشروعي، وعلى الفور وافق على ذلك، وقال إن بابا طاهر كنز أدبي من حق أدبه وفكره وشعره أن يكون ضمن أعمال المملكة العربية السعودية الخالدة، ولا بد من إبرازها وإعطائها ما تستحقه.

  • تبادل الحديث أثناء الجولة الميدانية في مرافق الجمعية
  • عند استقبالي للشيخ عبد المقصود خوجة

ووعد بقيام منتدى الإثنينية بجمع وإعادة طباعة دواوينه الشعرية وكافة أعماله الأخرى ونشرها ضمن مجموعة مطبوعات كاملة وتوزيعها، ضمن إطار عمل الإثنينية الثقافي في جمع إرث المفكرين والأدباء الذين أثروا الساحة الأدبية السعودية المعاصرة.


وباشر بمتابعة الموضوع والاهتمام به شخصيًا وأعلن في 2013/09/04م عبر وسائل الاعلام عن إطلاق مبادرة الاثنينيه لجمع التراث الأدبي للأديب الراحل طاهر زمخشري، وأوفد سكرتير الإثنينية د.محمد الحسن إلى منزلنا، للاجتماع معي بخصوص المشروع ومراجعة كل ما لدي من أعمال أدبية لبابا طاهر ووضع خطة لإعادة نشرها.
وكاتب كل من يعرفه ممن ارتبطوا بعلاقة ببابا طاهر أو لهم مكتبات أبلغهم بالمشروع وما تم جمعه، وطالبهم بتضافر الجهود لإنجاح المشروع، والبحث عن أعمال الأديب المفقودة التي حصرت في «في الطريق، على هامش الحياة، مع الأصيل، أغاريد المذياع، ليالي ابن الرومي، أقوال مبعثرة، أحلام، رمضان كريم، بكاء الزهر، من أوراق الزهر، رباعيات الخضراء، أغاريد الخضراء»
وتواصل مع مطابع بيروت التي يتعامل معها لترتيب طباعة الدواوين المتوفرة، ولكن مرضه، وتطور حالته الصحية، وتوقف الإثنينية حالت دون استكمال المشروع.

صورة من رسالة الأديب ورجل الأعمال الشيخ عبد المقصود خوجة لجمع أعمال بابا طاهر
صورة من رسالة الأديب ورجل الأعمال الشيخ عبد المقصود خوجة لجمع أعمال بابا طاهر

لقد كانت تلك المبادرة بمثابة بارقة أمل لي ولطموحاتي حينما أوشك الشيخ عبد المقصود خوجة بتحقيق حلمي بإحياء إرث جدي الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري رحمه الله. عندما لبى طلبي، وأكد على دوره القيادي والأدبي في حفظ الفكر المعاصر ونشره وتوثيق مسيرة رواد الأدباء السعوديين. فقد أخذ رحمه الله على عاتقه نشر أدبهم ورعاية مواسم الأدب عبر اثنينيته.

لذلك أدعو أبنائه للحفاظ على استمرارية نشاط منتدى الإثنينية الأدبي والثقافي وتطويره ليكون مركزًا ثقافيًا يحمل اسمه للحفاظ على ذكراه وجهوده التي بذلها. وأن يكون للمركز مجلس إدارة وإدارة تنفيذية تقوم بوضع خطط العمل والإشراف على إدارة النشاطات الثقافية والفكرية فيه، بالتعاون مع وزارة الثقافة والجهات المعنية كالأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون. بالإضافة إلى استكمال مشاريع الإثنينية الثقافية التي لم تنجز، مع إتاحة جميع الأعمال للأجيال القادمة كصدقة جارية عن الفقيد رحمه الله، واختم دردشتي بأبيات الدكتور يوسف العارف في رثاءه للشيخ عبد المقصود بعنوان «ومات عبد المقصود» (صحيفة الرياض – الاثنين 24 محرم 1444هـ – 22 أغسطس 2022م)
نبأ سرى فتزلزلت أركاني
وانهد حيلي واستراب كياني
وتساقط الدمع الهتون فليتني
لم أسمع الأخبار في الإعلان
قالوا توفى قلت للفردوس من
كانت شواهده على الأعيان
نور من التقوى على شرفاته
وعلى يديه شواهد التبيان

عدد المشاهدات 308