انتهيت وأفراد أسرتي مؤخرًا من مراسيم العزاء في وفاة عم والدتي والأخ الأصغر لجدي الأديب طاهر زمخشري، هاشم عبد الرحمن زمخشري الذي اعتدنا مناداته بـ (العم هاشم) والذي وافته المنية مساء الاثنين (1445/02/05 – 2023/08/21) بالقاهرة، إثر تعرضه لأزمة قلبية. ووري الثرى بمقبرة المعلاة بمكة المكرمة (الأربعاء1445/02/07هـ – 2023/08/23م).
سائلًا المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته ومغفرته ويسكنه فسيح جناته.
ومن باب اذكروا محاسن موتاكم سأسطر في مقالي هذا شيئًا من مناقبه ولطيف من ذكرياتي معه وفاء له وبرًا به.
لقد أجمع كل من عرفتهم ممن عرفوه على دماثة خلقه وحسن معشره، وبره بوالدته وصلته لرحمه، ووفائه لأصدقائه، كما أنه قضى اخر سنوات حياته زاهدًا في دنياه متقربًا لربه خصوصًا سنواته الأخيرة التي قضاها في القاهرة واعتزل فيها الناس.
وعلمت من ابنه إبراهيم بأنه قد وجد ضمن مقتنياته في القاهرة كراسًا دون فيه ما جمعه من أدعية وأذكار ومقتطفات من قصائد دينية وحكم عكف على حفظها في عزلته مما قاله فيها “ليس كل ما أكتبه أو أنقله حكاية عن واقعي، إنما هي كلمات راقت لي وقد يحتاجها غيري”.
كما وجد أيضًا قائمة بأسماء لمعوزين دأب على مساعدتهم وفق إمكاناته من سداد فواتير كهرباء ومياه، وشراء أدوية. ومن عجيب ما سمعت في أيام عزاءه ما رواه لي الأخ والصديق قائد المنتخب الوطني والنادي الأهلي لكرة الطائرة الأسبق محمد داوود كنو الذي ربطته بالعم هاشم معرفة وصداقة أسرية، أنه بعد صلاة مغرب يوم الاثنين (2023/08/21) غفى لبرهه، فرأى أن العم هاشم جاءه على كرسيه المتحرك ببسمته المعهودة، وقال له “كيف حالك يا محمد.. تبغا أي شيء؟ ترى أنا ماشي وبلغ الشباب أني ماشي”، فاستيقظ متعجبًا ومندهشًا، واتصل بأخي حلمي وسأله عن العم هاشم وحالته الصحية، لعلمه أنه يخضع للعلاج في المستشفى. فأجابه أنه ما زال في المستشفى وحالته جيدة ومستقرة، ولكنه لم يتصل به بعد في ذلك اليوم، وأنه سيتصل به ويبلغه عن حاله بإذن الله. وبعد نحو ساعتين فوجئ باتصال من حلمي وكان في صوته حشرجة البكاء وقال له إن العم هاشم قد توفي، فاقشعر جسمه مما سمعه وقال لا إله إلا الله إنا لله وإنا إليه راجعون.
لقد كانت وفاة العم هاشم مفاجأة لم أتوقعها إذ كنا نتواصل بين الفينة والأخرى عبر الجوال ونتبادل أحاديث، وذكريات الماضي، والحاضر، وما يدور من أحوال، وكان اخر ما تحدثنا فيه عن تدفق اللاجئين الميسورين من السودانيين على مصر بسبب الحرب وأثر ذلك عليه بطلب مالك الشقة التي كان يسكنها إخلائها لرغبته في رفع أجرتها. وشبهنا ذلك بما حدث في جدة من بعض أصحاب الأملاك الذين رفعوا الإيجارات بسبب تتدفق السكان من الجنوب إلى الوسط والشمال بحكم أعمال الإزالة. فسبحان الله القائل «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ» و «وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ». وهكذا أُسدل الستار على حياةٍ مع العم هاشم امتدت لأكثر من ستين عامٍ عشناها سويًا تحت سقف بيت واحد في جو أسري ساده الألفة والوئام إلى أن تزوج في مطلع ثمانينيات القرن الماضي وأستقل بحياته، ولكنه بقي واحدًا من أعمدة الأسرة.
من ذكرياتي وحكاياتي مع العم هاشم
لقد عرفته منذ نعومة أظافري، حيث كان لي ولأخوتي بمثابة الموجه والمربي بعد وفاة والدي رحمه الله وأنا على مشارف السادسة من عمري، ولعب دورًا في تجاوزنا آثار وانعكاسات حياة اليتم والحرمان باللعب معنا وتسليتنا. ومشاركتنا في مشاهدة الكثير من البرامج والأفلام على التلفاز. واختزنت في ذاكرتي الكثير من الذكريات والحكايات معه منها تلك الصورة التي التقطت في 1967/01/19 – 1386/10/07 باستديو رانيا الكائن تحت عمارة باخشب بحي العمارية بمناسبة عيد فطر ذلك العام قبل وفاة والدي بخمسة أشهر. ويظهر فيها العم هاشم حاملًا في حضنه ابنة عمتي نجوى مدني وأظهر في الصورة أقصى يساره وإلى جانبي شقيقتي الكبرى سوزان رحمها الله وأمامها شقيقي حلمي وبجانبه أبن عمتي نزار مدني وعلى أقصى يمين العم هاشم يظهر شقيقي الأكبر محمد نجاتي وإلى يساره شقيقتي منى وأمامها قريبتنا إكرام جمعة.
ولا زلت أذكر ذلك اليوم الذي أخذني معه برفقة صديقه «عبد الله الطيب» على دراجتهم النارية لأخذ التطعيمات المدرسية لاستكمال إجراءات دخولي للمدرسة.
كما كان له أثرًا في نشأتي وحلم طفولتي بالعمل كمضيف جوي حيث كان يعمل مضيفًا جويًا بالخطوط السعودية بمشاهداتي له مرتديًا زي المضيفين حين مغادرته للرحلات، كذلك لعبي بقبعته وما يحضره من ألعاب وتسالي من الطائرات.
ومن لطيف ما حكي لي عن ذكرياته في تلك الفترة أن والدي هو من شجعه على الالتحاق بالعمل في الخطوط في العام 1965م، ولكنه لم يستمر طويلًا حيث قال “استقلت من عملي بالخطوط بسبب موقف تعرضت له بعد وفاة والدك رحمه الله. حيث كنت في أحد الأيام عائدًا من رحلة ومعي بريد دبلوماسي نسيت أن أسلمه عند الوصول حسب النظام. وذهبت بعد الرحلة إلى مركازنا في الحارة، وبعد يومين فوجئت باستدعاء من مكتب المدير العام آنذاك «كامل سندي». فتذكرت البريد وأدركت أنني في ورطة كبيرة، وعلى الفور كلمت أخويا طاهر (بابا طاهر) وشرحت له الحكاية وطلبت منه أن يفزع لي ويخرجني من هذه الورطة. وبدوره اتصل بكامل سندي وحكى له الموضوع وتشفع لي عنده فسامحوني، وطُلب مني تسليم البريد ومراجعة مكتب المدير العام، فذهبت وسلمت البريد وراجعت مكتب المدير العام الذي وبخني وقالي لي: “والله لو لا شفاعة اخوك الأستاذ طاهر لحبسناك”، فغادرت مكتبه وانا مرتعب وخائف من تكرار مثل هذا الأمر واستقلت بعدها من العمل”.
كما روى لي أيضًا عن ذكرياته مع والدي (أبيه أحمد كما كان يناديه) رحلتهما إلى نيجيريا في ستينيات القرن الماضي، حيث قال: “عندما عزم أبيه أحمد السفر إلى نيجيريا منتدبًا من الخطوط السعودية لتمهيد افتتاح الخط الجوي بين المملكة ونيجيريا، وتنظيم رحلات الحجيج إلى السعودية، حيث كان يعمل في إدارة الشؤون الخارجية بالخطوط. أقترح عليه أخويا طاهر أن يصطحبني معه كمترجم بحكم أنني كنت أجيد اللغة الهوساوية وهي اللغة الوطنية في نيجيريا.
وبالفعل سافرت معه. والتقينا بالحاج سير أحمد بِلُّو رئيس وزراء نيجيريا آنذاك. واستقبلنا في مكتبه واحتفى بنا وكنت أترجم الحوار فيما بينهما. وعلى هامش اللقاء تحدثا عن أهالي الحجاز من الأصول الأفريقية. وبنهاية اللقاء أهدانا خمسة طيور ببغاء من نوع «الكاسكو» وهي إحدى أنواع الببغاوات الأفريقية النادرة طليقة اللسان. وبعد عودتنا أهدى أبيه أحمد لكل بيت رئيسي من العائلة واحدًا منها. ومن عجيب ما رأيت في مكتب الحاج أحمد بلو هيبته وكيف كان الذين يدخلون عليه من حاشيته لا يدخلون إلا حبوًا على ركبهم!”.
كما زرع في حب نادي الاتحاد الذي كان يشجعه ولعب في أشباله لكرة القدم، وكان يصطحبني واخوتي معه لمشاهدة مباريات الاتحاد في ملعب الصبان، وأذكر أن أول مباراة حضرتها برفقته مباراة ودية بين الاتحاد وغزل المحلة المصري، كما حضرت معه ايضًا مباراة للاتحاد والهلال ضمن الدوري الممتاز. وعندما لاحظ عليَّ بعض المهارات الكروية اثناء لعبنا في شرفة البيت، وميلي وحبي لنادي الاتحاد، وطموحي وتطلعي لأن أكون أحد لاعبيه ونجومه، شجعني لأصقل موهبتي الكروية بتجربة اللعب مع أشبال نادي الاتحاد، وتحدث مع صديقه مدرب الأشبال آنذاك غنيمة الحربي الذي أتاح لي فرصة التدرب مع الأشبال.
ومما حكى لي من ذكرياته أيضًا عودته للخطوط السعودية مرة أخرى في العام 1970م وسبب ابتعاثه إلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1976م قائلًا “انضممت إلى برنامج صيانة الطائرات وابتعثنا للتدريب في بيروت، وخلالها اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية. وكان الوضع مرعب ومخيف جدًا فقد حوصرنا في السكن لأيام بين دوي الانفجارات والقذائف الصاروخية التي كانت تتطاير في كل مكان، إلى أن تم ترتيب إخلائنا بحافلات إلى مطار دمشق برًا في رحلة كانت محفوفة بالمخاطر بين زخات الرصاص وطلقات المدافع إلى أن وصلنا للمطار واستقلينا طائرة إلى القاهرة ومنها عدنا إلى جدة جوًا. وبعدها بفترة تم ابتعاثنا إلى مدينة دالاس بالولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا كانت الحرب سببًا في سفري لأول مرة إلى أمريكا».
ولم تقتصر ذكرياتي وحكاياتي معه على الطفولة، بل امتدت طيلة حياته واشتملت على الكثير من الطرائف والظرائف منها تلك الليلة التي اصطحبني فيها وصديقي منصور الحسيني، وزميلي في العمل عبد المحسن الحارثي لزيارة أحد أصدقائه قائلا لي “تعال.. أعرفك على صاحب لي طالما كنت تصفق له وتتمنى مقابلته”. فذهبنا معه وعندما وصلنا طرق الباب وإذا به نجم نادي الاتحاد السابق النور موسى رحمه الله الذي كانت تربطه به علاقة صداقة ولم يلتقيا منذ فترة، فرحب بنا واستضافنا، كان إنسانًا عفويُا وبسيط جدًا ومرحًا، جلسنا وتبادلنا الأحاديث ولعبنا البلوت، وخلالها غاب عنا لفترة ثم عاد بزبدية كبيرة مليئة بالبيض المسلوق، وضعها في وسط المجلس وقال ضاحكًا “والله شرفتوني بزيارتكم وما في أحد في البيت غيري وبحثت عن شيء اضيفكم به فلم أجد الا هذا البيض في الثلاجة فسلقته واحضرته لكم” فضحكنا وأكلنا البيض. كما جمعتني به ذكريات وحكايات جميلة أخرى حينما التقينا في نيويورك، وفي سانت لويس، ولوس أنجلس حينما زرته أثناء إقامته فيهما.
حياته ووفاته
يجدر بالذكر إن العم هاشم من مواليد مكة المكرمة (14 يوليو 1942م – 1 رجب 1361ه). وسماه والده «هاشم» على اسم صديقه فقيه المدينة المنورة الشيخ محمد هاشم الفوتي المالكي المدني المشهور بـ «ألفا هاشم». وقد نشأ يتيم الأب إذ توفي والده وهو في الثالثة من عمره، فتولى رعايته أخيه الأكبر الأديب طاهر زمخشري.
بدء حياته الدراسية في المدرسة الناصرية الابتدائية بحي المسفلة بمكة المكرمة، وخلالها أنضم إلى فريق برنامج بابا طاهر للأطفال «ركن الأطفال». ثم انتقل مع والدته للعيش في المدينة المنورة لبعض الوقت، وواصل دراسته بمدرسة دار الأيتام ثم عاد إلى مكة المكرمة. ثم أنتقل للعيش في مدينة جدة مع والديَّ، وأكمل دراسته في المدرسة السعودية.
وحينما سافرنا برفقة والدي إلى الولايات المتحدة الأمريكية أنتقل للعيش مع بابا طاهر في سكنه بفلة السنيدي بحي الكندرة.
وفي العام 1965م التحق بالعمل في الخطوط السعودية كمضيف جوي. ثم انتقل بعد استقالته إلى مصفاة جدة (بترومين) التي أصبح اسمها فيما بعد أرامكو. وفي العام 1970م التحق بالخطوط السعودية مرة أخرى في قسم صيانة الطائرات وخلالها ابتعث إلى لبنان ومن ثم الى الولايات المتحدة الأمريكية.
ثم انتقل للعمل في الشركة العربية لخدمات الطيران المحدودة (عرباسكو)، ومنها انتقل للعمل في إدارة الخدمات الطبية بالقوات المسلحة بالرياض حيث شغل منصب مساعد مدير صيانة الطائرات ورئيس الجودة، ثم انتقل للعمل لدى الشركة الوطنية لثاني أكسيد التيتانيوم (كريستل) بالهيئة الملكية للجبيل وينبع، ومنها الى العمل الحر قبل ان يتقاعد عن العمل نهائيًا.
تزوج وله أربعة من الأبناء وعاش معظم حياته في جدة تنقل خلالها ما بين الولايات المتحدة الأمريكية، والرياض، والسودان، ومصر التي عاش فيها أواخر سنوات حياته.
وكان رحمه الله قد تعرض لمشاكل في العمود الفقري على إثرها خضع لسلسلة عمليات جراحية في كل من جدة والهند وأمريكا ومصر لم تكلل بالنجاح وفقد القدرة على المشي. فانتقل إلى مصر لمواصلة العلاج الطبي والتأهيلي.
وفي منتصف أغسطس الماضي أصيب بجلطة دماغية مفاجئة نقل على إثرها للعناية المركزة في مستشفى مصطفى محمود بالقاهرة، حيث خضع لعلاج مكثف. ولم تتحسن حالته حتى أصيب بأزمة قلبية أدت إلى وفاته مساء يوم الاثنين (1445/02/05 – 2023/08/21) عن عمر ناهز الـ 81 عامًا.
وتولت السفارة السعودية بالقاهرة نقل جثمان إلى جدة وتحمل تكاليف ذلك التي بلغت حسب بوليصة الشحن 41,000 ريال. وبوصوله إلى مطار الملك عبد العزيز بجدة على رحلة الخطوط السعودية (SV302) الساعة (11:05مساءا) تم نقله إلى جامع الثنيان بحي الصفا حيث تم غسله وتجهيزه ونقله إلى المسجد الحرام والصلاة عليه بعد فجر يوم الأربعاء ودفنه بمقبرة المعلاة. فأسأل الله أن يغفر له ويرحمه ويجعل قبره روضة من رياض الجنة وينزله مع الشهداء والصديقين في جنات النعيم.
الرابط المختصر لهذا المقال:
الله
يرحمه ويغمد روحه الجنه كان اهله جيراننا في الشرفيه نعم الجيران والاخلاق والكرم
رحمك
الله ياعم هاشم
فعلا
كان دمث الخلق، وحسن المعشر، وأب وأخ وصديق.
عظم الله أجر الجميع ،،،وإنا لله وإنا إليه راجعون.
رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته
رحمة الله عليه وعلى جميع أموات المسلمين
الله يغفر له ويرحمه ويسكنه
فسيح جناته
إنا لله وانا اليه راجعون
عظم الله أجركم في فقيدكم يا أستاذ
محمد. هذه هي قصة الإنسان في الحياة
تنتهي بالرحيل ولكن تظل الذكريات
الجميلة والأعمال الجليلة والسيرة الطيبة
أفضل مواساة يخلفها الراحل لأحبابه. رحم
الله العم هاشم وأمواتنا وجميع المسلمين.