انتهيت وأسرتي منذ أيام من مراسيم الدفن والعزاء في وفاة عمتي السيدة فاطمة محمد أبو بكر بلو. المكناة بـ «عمه فتو» ابنة شقيقة الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري وأبيها بالرضاعة. التي وافتها المنية صبيحة يوم الاحد 2022/07/31م – 1444/01/02هـ عن عمر ناهز الـ 80 عامًا. إثر إصابتها بالتهاب رئوي حاد أدخلت على إثره مستشفى جامعة الملك عبد العزيز بجدة. وقد صُلي عليها بعد صلاة المغرب بالمسجد الحرام. ووريت الثراء بمقبرة المعلاة بمكة المكرمة. مخلفة ورائها زوجها الداعية الشيخ محمد تكر المدني و2 من الأبناء و4 بنات و19 حفيد.
فأدعو الله لها بالعفو والمغفرة والرحمة وأن يجعل قبرها روضة من رياض الجنة.. آمين.

مجلس عزاء عمتي فتو
مجلس عزاء عمتي فتو

كانت هذه المرة الأولى التي أحضر وأشارك فيها في مراسيم عزاء. حسب العادات المعمول بها في جدة بعد رفع الإجراءات الاحترازية والوقائية المتعلقة بمكافحة جائحة كورونا. فقد جرت العادة بإقامة مجلس عزاء لمدة 3 أيام بين المغرب والعشاء. وضيافة المعزين بالقهوة العربي والماء وتقديم العشاء بعد الصلاة للمتواجدين. حيث توقفت بعض الأسر عن تلك العادة أثناء جائحة كورونا. واستمروا في ذلك اعتقادًا منهم بأن إقامة مجالس العزاء بدعة وأصبحوا يعلنون الاكتفاء بالعزاء في المقبرة فقط. رغم أن مراسيم العزاء بتلك الطريقة. فيها مواساة لأهل الميت. وتوطيدٌ لأواصر صلة الرحم وتسابق الأصدقاء والمعارف على فعل الخير بضيافة المعزين. وتقارب وتصالح المتباعدين. والإكثار من الدعاء للميت وأهله وذكر محاسنه. الأمر الذي يضفي على أهل الميت الصبر والطمأنينة فضلا عن أن لها أصل شرعي.

فقد روي في صحيح الترمذي. عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه. قال (لمَّا جاءَ نَعيُ جعفرٍ قالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ اصنَعوا لأهْلِ جعفرٍ طعامًا، فإنَّهُ قد جاءَهُم ما يشغلُهُمْ). كما روي عن أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها. (أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ. ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا. أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ. ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتْ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَتْ: كُلْنَ مِنْهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ). رواه البخاري ومسلم.

وروي أيضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ. قَالَ: “لَمَّا مَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ اجْتَمَعَنْ نِسْوَةُ بَنِي الْمُغِيرَةِ يَبْكِينَ عَلَيْهِ. فَقِيلَ لِعُمَرَ: أَرْسِلْ إلَيْهِنَّ فَانْهَهُنَّ، لاَ يَبْلُغُك عَنْهُنَّ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: ” وَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يُهْرِقْنَ مِنْ دُمُوعِهِنَّ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ، أَوْ لَقْلَقَةٌ”. رواه ابن أبي شيبة في “المصنف”، وعبد الرزاق الصنعاني بسند صحيح.

ويستدل من هذه الأحاديث على وجود أصل شرعي لاجتماع أهل الميت. أو اجتماع غيرهم معهم للتعزية، والطبخ والأكل سواء في بيت الميت أو خارجه.

وأما القول بأن الاجتماع للعزاء من البدع المحدثة. فيرد عليه بإن الاجتماع للعزاء من العادات، وليس من العبادات، والبدع لا تكون في العادات، بل الأصل فيها الإباحة. والتعزية أمر مقصود شرعًا ولا يمكن تطبيقه في زماننا إلا بتنظيم آلية لاستقبال المعزين. وفق إمكانيات وطبيعة كل مجتمع وذلك مما يعين على أداء السنة.

وقد سئل الشيخ ابن باز -رحمه الله- مفتي المملكة العربية السعودية سابقًا. عن استقبال المعزين والجلوس للتعزية. فقال: “لا أعلم بأسًا فيمن نزلت به مصيبة بموت قريب، أو زوجة، ونحو ذلك. أن يستقبل المعزين في بيته في الوقت المناسب. لأن التعزية سنة، واستقبال المعزين مما يعينهم على أداء السنة. وإذا أكرمهم بالقهوة، أو الشاي، أو الطيب، فكل ذلك حسن” من “مجموع فتاوى ومقالات متنوعة” (13/373).

وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي رحمه الله: “كان السلف يمنعون ذلك. وكان الإمام مالك رحمة الله عليه يشدد في ذلك كثيرًا ويمنع منه. وعلى ذلك درج فعل السلف. لكن أفتى المتأخرون من العلماء والفقهاء أنه لا حرج في هذه العصور المتأخرة.
والسبب في ذلك: أن العصور المتقدمة كان الناس قليلين. ويمكنك أن ترى آل الميت في المسجد، وأن تراهم في الطريق، وأن تراهم في السابلة وتعزي. وكان الأمر رِفقًا، بل قل أن يموت ميت إلا وعلم أهل القرية كلهم وشهدوا دفنه، فكان العزاء يسيرًا.
لكن في هذه الأزمنة اتسع العمران، وصعُب عليك أن تذهب لكل قريب في بيته. ويحصل بذلك من المشقة ما الله به عليم، وفيه عناء. لذلك لو اجتمعوا في بيت قريبٍ منهم كان أرفق بالناس وأرفق بهم. وأدعى لحصول المقصود من تعزية الجميع والجبر بخواطر الجميع. ولذلك أفتوا بأنه لا حرج -في هذه الحالة- من جلوسهم. ولا يعتبر هذا من النياحة، بل إنه مشروع لوجود الحاجة له”. من “سلسلة دروس شرح الزاد”.

وفي هذا السياق استحضر من ذاكرتي مشهد أول عزاء حضرته في طفولتي. وهو عزاء أحد شباب حارتنا بحي البغدادية بجدة. «صادق فضيل» الذي مات غرقًا في العشرين من عمره. وكيف كان للجيران وأهل الحارة والأصدقاء دور كبير في امتصاص الصدمة وتبعاتها وعناء مراسيم العزاء عن أهله.

فعلى مدى ثلاثة أيام كنت وأولاد الحارة نرابط في بيت العزاء بعد العودة من المدرسة. فشهدت بداية الترتيبات والاستعداد لمراسيم العزاء. وكيف تكفل الجيران وشباب الحارة بتهيئة وتجهيز مكان العزاء. واستئجار كراسي للمعزيين. والقيام بكافة الأعمال من رص الكراسي وخدمة الماء والمعزين والطعام والتنظيف والترفيع بعد الانتهاء.

ولفت انتباهي تعليق فني الكهرباء لعقد لمبات في مكان العزاء. ووضعه لمبة في نقطة وترك نقطتن فارغتين.. وهكذا حتى نهاية العقد. بحيث تكون الإضاءة خافتة ومختلفة عن إضاءات الأفراح. فيستطيع المارة معرفة ما إذا كان المكان معدًا لمراسيم عزاء أو مناسبة فرح. كما اعتاد بعض الأهالي بتعليق عِقدي إضاءة للدلالة على أن الميت رجل وعقد واحد للدلالة على أن الميت امرأة.

وتم قفل الشارع المؤدي إلى مجلس العزاء بسيارات الجيران. ورص الكراسي في صفوف متتالية. وفي مقابلهم صف لأهل الميت وعلى مقربة منهم تخته لقارئي القرآن.

وبدأت مراسيم العزاء بعد صلاة المغرب بجلوس أهل الميت في أماكنهم وتوافد المعزين على المكان. وبدأ القارئ الأول بقراءة القرآن على الطريقة الحجازية. وبعد قراءته لعدد من الآيات. قام القارئ الثاني بمشاركته القراءة بتناغم وتوافق جميل ثم توقف القارء الأول. وواصل القارئ الثاني القراءة ..وهكذا كانا يتبادلان الدور حتى تمتلئ كراسي المعزين فيتوقف القارئ عن القراءة. فيقوم فوج من المعزين بالسلام على أهل الميت وتعزيتهم ومغادرة المكان. ثم تستأنف القراءة مرة أخرى. وهكذا تكرر الحال حتى آذان العشاء وانفض المجلس، وبعد الصلاة وضعت سُفر عشاء للمتواجدين. ووزع فائض الطعام كصدقة عن الميت.
وفي اليوم الثالث الذي يسمى قطع العزاء قام القارئ قبل حلول آذان العشاء بالدعاء للميت وأهله وأمن المتواجدين. وكان طعام العشاء رز بالحمص واللحم مع سلطة الطحينة. وهي الأكلة المعتادة في ثالث أيام العزاء.

لقد أضفت قراءة القرآن الكريم على جو العزاء خشوع وروحانية وذكرت بهيبة الموت. والحزن كان السمة السائدة بين الحضور. فلا تسمع تسامرًا أو ضحكًا كما هو مشاهد في وقتنا الحاضر.
ولوحظ أن النساء كن يحضرن العزاء بثياب نسائية بسيطة ساترة إما باللون الرمادي الغامق أو الأسود. ولا تسمع منهن إلا بكاءً خافت ودعاء للميت وأهله عند دخولهن وخروجهن.

وعلى أي حال. فإنني أرى أهمية إقامة مجلس للعزاء حسب العادات والتقاليد المألوفة. فهي تخفف على أهل الميت من الحزن وآثار الصدمة. وكل ما يجب تجنبه البذخ والتبذير لقوله تعالى (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) الإسراء 27. وابتعاد النساء عن التزين والنياحة. لقوله صلى الله عليه وسلم (أَرْبَعٌ في أُمَّتي مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ في الأحْسابِ. والطَّعْنُ في الأنْسابِ. والاسْتِسْقاءُ بالنُّجُومِ. والنِّياحَةُ…). رواه مسلم.

وبالعودة إلى وفاة عمتي «فتو» رحمها الله. ومن باب اذكروا محاسن موتاكم. فقد عرفتها منذ نعومة أظافري بحنانها وطيبة نفسها. حيث ساهمت في تربيتنا إلى جانب والدتي -رحمها الله- بحكم تواجدها اليومي في بيتنا لزيارة جدتي «والدتها» وبابا طاهر «خالها». الذي كان يكن لها الكثير من الحب ويلقبها ووالدتي بـ «العمدة». ويحب طبخها وحسن ضيافتها. حتى أنه كان يخص بعض ضيوفه من التونسيين والأدباء والشعراء الذين يزورنه في المنزل ببعض الأطباق التي تميزت بها. خصوصًا صينية «المكرونة بالبشاميل». وأذكر أنه في أحد الأيام. دعا بابا طاهر صديقه الشاعر الأمير خالد بن عبد الله الفيصل -رحمه الله-. لتناول طعام الغداء. وطلب من عمتي تحضير طبختها المميزة «مكرونة بالبشاميل». فأعجب الأمير بمذاقها وقال لبابا طاهر “أنا لم أذق ألذ من هذا الطعم في حياتي”. وأصبح بابا طاهر يدعوه بين الفينة والأخرى لتناول وجبته المفضلة «مكرونة بالباشميل».

وإلى جانب مهارتها في الطبخ. فقد كانت تجيد الخياطة. حيث تعلمتها في أحد المعاهد النسائية. خلال فترة إقامتها بالقاهرة مع شقيقيها ووالدتها أثناء بعثتهم الدراسية في خمسينيات القرن الميلادي التي امتدت لنحو 5 سنوات. كما عرفت بتدينها ومتابعتها لحلقات العلم وارتياد المساجد خصوصًا في رمضان.

وقد حظيت بزيارتها قبل أيام من وفاتها بمعية زوجتي وحضور حفيدها حامد زبرماوي «عصر الجمعة 2022/07/22م». للاطمئنان على صحتها بعد أن شُفيت من وعكة صحية. وكانت زيارة لطيفة امتدت لنحو ساعتين استحضرنا خلالها الكثير من ذكريات الطفولة وحكايات الأسرة. وتحدثنا أيضًا عن مشكلة الإسكان ورفع الملاك للإيجارات في جدة. وأنها اتفقت مع ابنها «غازي». على عدم رفع الإيجار على المستأجرين في عمارتهم. حتى لا يضطروا إلى الانتقال والبحث عن مساكن بديلة. وحلول مستأجرين أخرين لا تُعرف طبيعتهم. وعندما ودعتها وتهيأت للمغادرة ضيفتني بحلوى أخذت حبة منها شكرتها ووضعتها في جيبي على أن أكلها لاحقًا. وفوجئت بعدها بيومين أنها أصيبت بوعكة صحية أدخلت على إثرها المستشفى. ولم تمض بضعه أيام حتى توفيت رحمها الله فتذكرت تلك الحلوى التي لم أكلها بعد. فقررت الاحتفاظ بها كذكرى حلوة ودعتني بها.

حلوى عمتي التي ضيفتني بها
حلوى عمتي التي ضيفتني بها

واختم دردشتي هذه بأبيات من قصيدة «إليها» للأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري رحمه الله
كلما قلت: يا لياليَّ مهلاً *** قذفتْ من صروفها أسواء

وأراها الغداة تملاُ اُفْقي *** بالرزايا وتنثر الأدواء

والتي كانت العزاء لنفسي *** غيَّب الموت حسنها والبهاء

هي كالشمس تملأ الكون نورًا *** لم تلامسْ وإن أفاضت سناء

هي كانت لي الخيال الموشَّى *** زاده طُهرُها العفيفُ صفاء

هي كانت لي النعيم المرجَّى *** فأضاع المنون مني الرجاء

عدد المشاهدات 507