كنت كسائر الملايين الذين تابعوا قصة الطفل المغربي «ريان» خصوصًا لحظاتها الأخيرة. ووقفت على مدى الاهتمام الواسع الذي حظيت به من قبل وسائل الاعلام المغربية والعالمية التي نقلت بث مباشر لها. وصور الحشود الكبيرة التي تجمعت في مكان الحدث لمتابعتها. وما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي من اخبار وصور. وتعاطف وتفاعل المجتمعات العربية مع تلك القصة الإنسانية التي انتهت نهاية مأساوية وحزن عليها كل من تابعها.
والحقيقة إن القصة لفتت الانتباه إلى مشكلة الآبار والصرف الصحي التي تحفر بطرق عشوائية. وعدم اتباع إجراءات السلامة اللازمة بوضع سياج أمان حولها للوقاية من السقوط فيها. فضلًا عن ترك الآبار الجافة مفتوحة دون تغطيتها أو ردمها مما يعرض لخطورة السقوط فيها. كذلك أهمية نشر الوعي بين السكان في القرى والارياف بمدى خطورة حفر الآبار وتركها مفتوحة.
بالإضافة إلى تسليط الضوء على فاعليه شبكات التواصل الاجتماعي. فلقد كان أول من أثار ولفت انتباه العالم لقصة الطفل «ريان» وحفز على متابعتها هم نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي. الذين جلبوا انتباه وسائل الإعلام المحلية والعالمية بنقل العديد من الوقائع في حينها. رغم وجود بعض المستخدمين الذين لم يكونوا موضوعيين وبالغوا في نقل الأخبار من أجل الشهرة والسبق.
قصة الطفل ريان
كان الطفل «ريان» ذو الخمسة أعوام من قرية «إغران» التابعة لمدينة شفشاون شمالي المغرب. قد سقط أثناء لعبه أمام منزله ظهر يوم الثلاثاء 1 فبراير2022. في بئر عمقها 32 مترًا حفرها والده بحثًا عن الماء. وعندما لاحظت أسرته اختفاءه بحثت عنه، فاكتشفت انه سقط في البئر. فحاولت إنقاذه بكل الوسائل المتاحة لديها، ولكن دون جدوى. فاستنجدوا بالأهالي والسلطات التي أرسلت فريقًا للإنقاذ. وأول ما قاموا به إنزال كاميرا إلى داخل البئر للتأكد من وجود «ريان» بداخله. فتبين لهم بأنه حي وواعي وأنه مصاب بإصابات طفيفة في رأسه.
وقرروا حفر حفرة موازية على بعد 8 أمتار من فتحة البئر تفاديًا لانهيارها. كحل بديل عن توسيع فتحة البئر نظرًا لهشاشة التربة. ثم حفر نفق أفقي للوصول إليه. وتم إنزال أنبوب أكسجين إلى داخل البئر وأخر للماء وتعذر التأكد من قدرته على استخدامها.
وفي الوقت الذي ساد فيه الاعتقاد بأن المهمة على وشك الانتهاء. اضطر فريق الإنقاذ لتبطيء الحفر داخل النفق بسبب مخاوفهم من انهيار التربة. واصطدامهم بصخرة تطلب هدمها 3 ساعات متواصلة بالحفر يدويًا. وواجهوا خطر الإغماء بسبب ضعف الأكسجين داخل النفق.
وفي اليوم الخامس من الحفر (السبت 5 فبراير) استطاعوا الوصول إليه وإخراجه حيًا من البئر. وبحسب ما نقلته وسائل الاعلام المغربية. بان إخراجه قد تم بعد توقف أعمال الحفر اليدوية. ودخول فريق طبي يرأسه طبيب مختص في الإنعاش وممرضين إلى داخل النفق الذي كان يوجد به «ريان».
وقد علت أصوات المحتشدين بالتصفيق والتهليل والتكبير، وعبّر المتابعون على شبكات التواصل الاجتماعي في المغرب وخارجه عن ابتهاجهم بإنقاذ «ريان».
وخلال دقائق تحول ذلك الابتهاج إلى حزن عقب صدور بيان رسمي بوفاة ريان. ونقل جثمانه بمروحية طبية إلى المستشفى العسكري في العاصمة المغربية «الرباط». وأصدر الديوان الملكي تعزية باسم الملك محمد السادس لوالدّي الطفل. وصلى عليه جموع من المصلين صلاة الميت في قريته.
قصص مشابهه
لقد ذكرتني قصة «ريان» بقصص مشابهه صادف أن تابعتها في حينها عبر القنوات الإخبارية العالمية. وانتهت بنهايات سعيدة على العكس من قصة «ريان». منها قصة الطفلة «جيسيكا ماكلور» «Jessica McClure» ذات الـ 18 شهرًا (المولودة في 26 مارس 1986م). التي سقطت في بئر عرضه 20سم وعمقه 6.7م، بحديقة منزل خالتها الخلفية ببلدة ميدلاند بولاية تكساس الأمريكية (14 أكتوبر 1987م).
وغطت كبرى وسائل الاعلام الأمريكية قصتها. على مدى الـ 56 ساعة التي عملت فيها فرق الإنقاذ جاهدة على إخراجها من البئر. بحفر حفرة رأسية على بعد 5 أمتار من موقع البئر بعمق زاد عن مكان سقوط الطفلة. ثم حفر نفق افقي من تحتها والوصول اليها وسحبها ثم إخراجها على قيد الحياة.
وكانت الطفلة مصابة في إحدى ساقيها إصابة بليغة. وقرر الأطباء أنها تحتاج لبترها. لكن طبيب آخر استطاع مع فريقه اجراء عملية معقدة لساقها تم بموجبها ترميم الساق واعادته الى طبيعته. دون الحاجة إلى بتره. باستثناء فقد أحد أصابع قدمها. وحظيت واسرتها باهتمام بالغ واستقبلها الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب في البيت الأبيض. وحُولت قصتها لفيلم تلفزيوني. انتجته محطة شبكة ABC عام 1989م بعنوان “طفلة الجميع: إنقاذ جيسيكا ماكلور”. وانتقد البعض آنذاك أسلوب التغطية الإعلامية للحادث ورأوا بانها أشبه بالسيرك الإعلامي. وفي العام 2013م حينما بلغت الـ 30 من عمرها. استضافتها عدد من شبكات التلفزيون الأمريكية للتحدث عن قصتها. منهم المذيعة الأمريكية اوبرا وينفري على برنامجها الشهير «Oprah Winfrey show».
كذلك قصة الطفل الهندي الذي سقط في بئر في مدينة هيسار شمال غربي الهند (2019)، وهو في عامه الأول. حينما كان مع أمه التي كانت تجمع الفاكهة. وتم إنقاذه من قبل فرق إنقاذ مختصة. بإرسال جهاز تعقب لتحديد موقعه. وإلقاء أنابيب اكسجين لمساعدته على التنفس، كما أنزلوا له البسكويت والعصائر. وقاموا بحفر بئرًا أخرى على بعد 6 أمتار، بالتوازي مع البئر الأصلي. ثم الحفر يدويًا للوصول الى الطفل، وتم إخراجه حيًا وقدمت له الرعاية الطبية اللازمة.
عمليات إنقاذ نموذجية
أ. منجم تشسلي
وقعت حادثة انهيار تربة منجم سان جوسيه للتنقيب عن النحاس والذهب في كوبيابو بصحراء أتاكاما شمال تشيلي (5 أغسطس 2010م) وترتب عليه احتجار 33 عامل (32 تشيلي + ا بوليفي) على عمق 700م تحت الأرض لمدة 69 يومًا كان أكبرهم 65 عام وأصغرهم 19عام. ولعب ملاحظ الوردية لويس أورزوا دورًا هامًا في مساعدة زملائه على تحمل أول 17 يوم من الانقطاع عن أي تواصل بالعالم الخارجي.
وبذلت حكومة تشيلي قصارى جهدها لإنقاذ المحتجزين، بدعم ومساندة قوات وفرق متخصصة من أكثر من بلد في العالم، وتم التمكن من الاتصال بالمحاصرين لأول مرة بعد 18 يوم (23 أغسطس)، واتضح أن لديهم بعض المشاكل الصحية.
وصرح الطبيب المسؤول عن عملية الإنقاذ لوسائل الإعلام في حينها بان المشاكل التي يعانون منها أقل من المتوقع قياسًا على مدة بقائهم داخل منجم بعمق 700 متر في درجات حرارة ورطوبة مرتفعة.
تم حفر ثقب عرضه 10سم من سطح الأرض إلى المكان الذي تجمعوا فيه واستخدامه لتزويدهم منه بالهواء والمياه والطعام، ومحلول الجلوكوز 5٪، ودواء لمنع قرحة المعدة الناتجة عن الحرمان من الطعام، وأقراص الإماهة، والأدوية، والاكسجين. وتم تصميم كبسولة معدنية قطرها 53سم متصلة برافعة صُممت خصيصا لإخراجهم من المنجم كل على حدة عبر حفرة حُفرت للكبسولة. وتم إنزالها مرتين فارغة كتجربة للتأكد من سلامة العملية.
وبحضور الرئيس التشيلي سبيستيان بينيرا وزوجته وعائلات العمال المحتجزين وكبار المسؤولين في اليوم الـ 67 (12 أكتوبر) بدأ إنقاذ العمال، وقسموا إلى ثلاث مجموعات الأولى الأقوياء صحيا وبدنيا، والثانية الضعفاء، والأخيرة الذين يعانون من أمراض ومشاكل صحية.
وكان أولهم خروجًا هو فلورينسيو أفالوس 31 عام في تمام الساعة 12:11 بعد منتصف الليل حسب التوقيت المحلي. تبعه بساعة زميله ماريو شيبالفيدا 40 عام. واكتملت عملية الإنقاذ التي استمرت 22 ساعة بانتشال جميع العمال بسلام. وسجلت تلك الحادثة بانها أطول مدة بقي فيها عمال محاصرين في منجم على قيد الحياة. وفي عام 2015م تم إنتاج فيلم عن الحادثة باسم “the 33”.
ب: فريق الناشئين التايلندي
كذلك قصة فريق الناشئين لكرة القدم (12 لاعب أعمارهم بين 11- 16 عام) مع مدربهم. احتجزوا في كهف ثام لوانغ نانغ نن بمحافظة تشيانغ ري التايلندية لمدة 18 يوم (23 يونيو 2018م) بسب ارتفاع منسوب المياه داخل الكهف نتيجة هطول أمطار غزيرة. وبُلغ عنهم كمفقودين ورجح أنهم عالقين داخل الكهف بعد العثور على متعلقات لهم بجانبه. وتعذر تحديد موقعهم والتواصل معهم لأكثر من أسبوع.
قامت الحكومة بجهود مضنيه لإنقاذهم بمشاركة أكثر من 1000 شخص، منهم البحرية التايلاندية وفرق متطوعة ومتخصصة من (أستراليا، إسرائيل، أمريكا، أوكرانيا، بريطانيا، روسيا، السويد، الصين، فنلندا، لاوس، ميانمار) وسط تغطية إعلامية مكثفة واهتمام من العامة.
وبجهد من فرق الغواصين اكتشفوا بأن كافة المفقودين على قيد الحياة قابعين على صخرة عالية ترتفع حوالي 4 كم (2.5 ميل) عن ثلمة الكهف.
وأعلن وزير الدفاع التايلاندي الجنرال براويت ونجسوان في 5 يوليو 2018م بأن صاحب الجلالة يتابع عن كثب عملية إنقاذ الأطفال الذين تم العثور عليهم. ويعرب عن قلقه إزاء احتمال زيادة كثافة هطول الأمطار التي قد تسبب فيضانات جديدة في الكهف. وزار رئيس الوزراء التايلاندي برايوت تشان أوتشا موقع البحث والإنقاذ يوم السادس وحثَّ عائلات الصِبْيَة المفقودين على عدم فقدان الأمل في إنقاذ أبنائهم.
ولقي عامل إنقاذ تايلندي «سامارن بونان» حتفه في محاولة لوضع أسطوانات أكسجين في طريق خروج محتمل.
وبدئت عملية الانقاذ في الثامن من يوليو بـ 13 غواص باستخدام «نظام الرفيق»، أخرجوا اثنين من اليافعين الأكثر عافية ونقلهم الى مستشفى تشيانغ ري الإقليمي، أعقِبهم بوقت وجيز إخراج أثنين آخرين وتم رعايتهم طبيًا خارج الكهف. وتوالت العملية التي انتهت بإخراج الباقين سالمين في العاشر من يوليو.
وتعاطف السكان مع الحدث بالقيام بالطبخ والتنظيف وغيرها من أشكال الدعم لعائلات الفتيان المفقودين وفرق الإنقاذ في المعسكر الذي أُقِيم عند فوهة الكهف. كما وظِفتْ وسائل التواصل الاجتماعي للفت الأنظار تجاه محاولات الإنقاذ. وتبرعت المدارس المحلية بالمال لأسر الصِبْيَة الذين تعطلت أعمالهم بسبب انشغالهم في متابعة عملية الإنقاذ.
الأخوة الإنسانية
وما يثير الإعجاب من تلك القصص هو التكاتف والتضامن والتكافل الاجتماعي الذي حظيت به وتجسيد معنى الأخوة الإنسانية التي نادت بها الأمم المتحدة منذ العام 2020 من خلال إعلان اليوم الدولي للأخوة الإنسانية في الرابع من فبراير من كل عام.
ودعا ممثلها السامي لتحالف الحضارات ميغيل موراتينوس في كلمته لمناسبة هذا العام “طريق إلى المستقبل” إلى العمل بروح التضامن لبناء عالم أفضل قائلا “عملا بروح هذا اليوم، دعونا نعمل معا بروح التضامن لبناء عالم أفضل في إطار ثقافات متعددة، ولكن إنسانية واحدة”.
والأهم من ذلك كله أهمية تطوير فرق متخصصة في عمليات الإنقاذ المعقدة وضرورة التعاون الدولي في هذا المجال أثناء الحوادث.
ومن اللافت للنظر هي مشيئة الله بان يكون للطفل «ريان» ابن قرية «إغران» التي لم يسمع بها أحد إلا أهلها ومن لهم ارتباط بها في تجسيد معنى الأخوة الإنسانية في يوم احتفال الأمم المتحدة به سيما وإن العالم منشغلًا عن معاني الأخوة الإنسانية بهمومة المرتبطة بالحروب، والاضطرابات، وتقلبات المناخ، والجوع، والفقر.. الخ. وأختم دردشتي بأبيات من قصيدة مدرسة الحياة – للشاعر اليمني الكفيف عبد الله البردوني (رحمه الله)
قم يا صريع الوهم واسأل بالنهى *** ما قيمة الإنسان ما يعليه
واسمع تحدّثك الحياة فإنّها *** أستاذة التأديب والتّفقيه
وانصب فمدرسة الحياة بليغة *** تملي الدروس وجلّ ما تمليه
سلها وإن صمتت فصمت جلالها *** أجلى من التصريح والتنويه
الرابط المختصر لهذا المقال:
تحية طيبة وتبريك على إطلاق موقعكم الشخصي أستاذ محمد. والحقيقة أن قصة ريان ذكرتني بالطفلة لمى الروقي التي لم تكن نهايتها أفضل بكل أسف. ومثل هذه القصص لا يمكن ألا تؤثر في وجدان الانسانية. إلا أن التعاطف لا يكفي لتجنب حوادث مماثلة حيث ينبغي ان يفعل الشعور بالمسؤولية لدى كل إنسان حتى إذا حفر بئرا أقام حولها جدارا ولو صغيرا ليميزها عن سطح الارض كما كان يفعل الانسان البسيط في الماضي والذي كان على مايبدو اكثر استشعارا للمسؤولية تجاه غيره من الارواح. كما ان الزام البلديات لكل من يقوم بحفر بئر على وضع غطاء محكم لها او شيء حولها يمنع سقوط الساهي فيها ربما يكون إجراءا مفيدا يعود الانسان على التفكير في شركائه على هذه الارض من بشر وحيوان وعدم التسبب في مضرتهم ان لم يفكر بذلك من تلقاء نفسه.
رائع ومتألق كعادتك فيما تكتبه ، مقال اعتبره انا عبارة عن وثيقة ستقرأ منقول الاجيال القادمة بإذن الله أحسنت وبوركت ياصديقي