Share

نشر هذا المقال على مجلة «نوافذ» التي تصدر عن اتحاد الكتاب الارتريين بالمهجر في 2022/03/15م

بداية أرفع أسمى آيات التهاني والتبريكات لاتحاد الكتاب الارتريين بالمهجر على اصدارهم هذه المجلة «نوافذ». وانه لمن دواعي فخري واعتزازي بان أكون أول من يسطر فيها كلمات من مدينة جِدَّة. التي سماها شاعرها المكي طاهر عبد الرحمن زمخشري بعروس البحر الأحمر وقال فيها:

يا عروس البحر خَفَّاقي الذي *** بينَ جنْبَيَّ تَصبَّاك عميدَا

ومن الأَعماقِ فيه جذوةٌ *** تَبْتَغي للحُبِّ زَنْدًا ووقُودَا

فلمنْ أُهدي عقودي؟ لِسِوى *** من بِها أشْدُو وأرْجُو أنْ أُجيدَا

يا عروسَ البحْرِ ما أنْت سوى *** مَرْبعٍ طاب لَنَا روْضًا نَضيدَا

فَبِشَطَّيْك أفَانينُ السَّنَا *** تُلْهمُ الأوْزَانَ تُجْرِيهَا قَصيدَا

فلقد شاء الله أن أولد وأنشأ وأترعرع في مدينة جِدَّة وأتشبع بثقافتها المتنوعة وبيئتها متعددة الأعراق ومنها الارتري. حيث ارتبط جانب من تاريخها بمصوع التي عرفت أيضاً باسم «باضع» وأسمرة. وكان الكثير من تاريخها واهميتها غائباً عني رغم ارتباطها بتاريخنا الإسلامي وتراثنا الثقافي. فمصوع كانت مهبط أول هجرة في الإسلام وموقع لأول مسجد يبنى فيه.

ففي شهر رجب من العام الخامس للبعثة النبوية – 615م. خرج الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه. وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى بلاد الحبشة. ولحق بهما 11 رجل و3 نساء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر جدة فالشعيبة. ومنها أبحروا إلى اليمن وعبروا إلى جزيرة «دهلك» وأخيرًا رسوا على شاطئ مصوع. ثم السير برا إلى مدينة «كعبر» في بداية اقليم «أمهرة». وعادوا إلى مكة في شهر شوال من نفس العام. فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: “خرج عثمان بن عفان مهاجرًا إلى أرضِ الحبشةِ ومعه رُقيَّةُ بنتُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم واحتَبَس على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خبرُهم فكان يخرُجُ يتوكَّفُ عنهم الخبرَ فجاءَتْه امرأةٌ فأخبَرَتْه فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّ عثمانَ لأوَّلُ مَن هاجَر إلى اللهِ بأهلِه بعدَ لوطٍ”.

وفي العام التالي (6 للبعثة – 616م) هاجر إليها مرة أخرى 83 صحابي و19 صحابية. بقيادة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه. هربًا بدينهم من مشركي قريش. والتقوا بملكها «النجاشي» الذي استضافهم وأكرمهم وأعطاهم الأمان.

وكان الصحابة رضوان الله عليهم قد بنوا في هجرتهم الأولى أول مسجد في تاريخ الإسلام بـ «رأس مدر». عرف باسم «مسجد الصحابة». ولا يزال موقعه قائمًا حتى يومنا هذا بمنطقة ميناء «مصوع» بمحرابه الأساسي الذي كان باتجاه المسجد الأقصى.

ومن حينها تجذر الإسلام في تلك البلاد وانتشر. وارتبط أهلها بالعرب والمسلمين بمصاهرة ونسب وتبادل ثقافي وتجاري. وأصبحت اللغة العربية من اللغات السائدة إلى جانب اللغات المحلية الأخرى التجرية والتغرينية والعفارية والساهو. والعرب أحد مكونات المجتمع إلى جانب الأعراق الأخرى كالكوناما والتجرينيا. ولا يزال الأهالي يقيمون صلوات الأعياد في مسجد الصحابة تيمنًا بالمكان، وتخليدًا لأول هجرة في الإسلام.

أما عن علاقة جِدَّة بأسمرة التي بناها الإيطاليين في عام 1897م. إبان حقبتهم الاستعمارية للبلاد وجعلوها عاصمة بدلاً من مصوع لموقعها الاستراتيجي الجبلي وجوها المعتدل وطبيعتها الخلابة. بعدما أولوها عناية فائقة بإنشاء المباني الحديثة ودور العبادة والمستشفيات والطرق والسكة الحديدية والمطار والصرف الصحي. الذي لم يكن له نظير في دول المنطقة لتكون بمثابة روما افريقيا. وقد تغنى الشيخ محمد فاضل التقلاوي بجمالها قائلًا:

على قمة العلياء تزهو وتخــلب *** وفـوق تليد المـجد شماء ترهـب

عروس الربى مجلوة تعشق العـلا *** فيهفـو لـها قلبي مليـا ويطـرب

منمقة حسنـاء تبـدو كأنهـــا على *** الفلك العلياء في الأرض كوكب

حبتها يـد الـزمان للفـن تحـفة *** وصورها عـات خـبير مجــرب

ولم يتخلف المسلمون من أهلها من الحفاظ على الجذور الإسلامية والثقافة العربية فيها. وخير شاهد على ذلك «مسجد الخلفاء الراشدين». الذي بناه المعلم المعماري «عامر الجداوي» من أهالي مصوع في العام 1900م – 1319هـ. إبان لجنته الأولى برئاسة كبير التجار «أحمد أفندي الغول» ذو الأصول المصرية. واستمر شامخًا على مر السنين رمزًا وشاهدًا على عمق التاريخ الإسلامي والعربي فيها. وعمل المسلمون من الأهالي جيل بعد جيل على المساهمة في توسعته وتطويره ووقف الأوقاف له. ووثق ذلك مفتي ارتريا الأول «الشيخ إبراهيم المختار أحمد عمر» -رحمه الله- في كتابه «القُنبرة في تاريخ المركز الإسلامي في أسمرة». وذكر منهم الشيخ حسن عبد الله بامشموش. أنجال سعيد عبدالله العمودي، الحاج حسان عبدالله اليماني، الأخوين عمر وسعيد سالم باعقيل، والحاج إبراهيم محمد حسين وغيرهم. وقال:

إن تفخر أرتريا بما في طيها *** فجامع أسمرة يكفيها فخرا

وقد امتدت تلك الجذور الاسلامية والعربية لعصرنا الحاضر. فقد كانت أسمرة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مقصد تجاري وثقافي وسياحي لأهالي جِدَّة. لازدهارها في ذلك الوقت خصوصًا في المجال الطبي. إذ استقطب مستشفاها الايطالي ENAIL الأشهر والأضخم في المنطقة آنذاك أهالي جِدَّة والمنطقة للعلاج فيه.

وما يؤكد على مدى العمق التاريخي والثقافي بين جِدَّة ومصوع وأسمرة التشابه الكبير في العادات والتقاليد. بما في ذلك اللباس والأطعمة.

فعلى سبيل المثال نجد أن لباسهم الشعبي الذي يرتدونه في الأفراح والأعياد والجُمع. هو الثوب الذي يسمى عرّاقي ويلبس عليه السديري والعمة الحلبية. وأشهر الأكلات الشعبية «أكّلَتْ» المعروفة عندنا بـ «العصيدة» و«المَاَدة/المضبي» و«المشكلة» وهي مجموعة ايدامات تضم «الزقني» و«الكمونية» و «العدس». تؤكل بخبز «الإنجيرة/الكسرة».

وحتى فنونهم عرفت في بلادنا منذ العهد النبوي في المدينة المنورة. فقد روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. في صحيح البخاري «أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه. دَخَلَ عَلَيْهَا. وعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ في أيَّامِ مِنًى تُغَنِّيَانِ. وتُدَفِّفَانِ. وتَضْرِبَانِ. والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَغَشٍّ بثَوْبِهِ. فَانْتَهَرَهُما أبو بَكْرٍ. فَكَشَفَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن وجْهِهِ. فَقالَ: دَعْهُما يا أبَا بَكْرٍ، فإنَّهَا أيَّامُ عِيدٍ. وتِلْكَ الأيَّامُ أيَّامُ مِنًى. وَقالَتْ عَائِشَةُ: رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَسْتُرُنِي. وأَنَا أنْظُرُ إلى الحَبَشَةِ. وهُمْ يَلْعَبُونَ في المَسْجِدِ. فَزَجَرَهُمْ فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: دَعْهُمْ، أمْنًا بَنِي أرْفِدَةَ يَعْنِي مِنَ الأمْنِ».

واستحضرت وأنا أسطر هذا المقال جانبًا من ذكريات طفولتي. حينما كُنت أمشي يوميًا في شارع الكيال بحارتي التي نشأت فيها «البغدادية». وأمر بجانب مبنى «السفارة الإيطالية» التي سكن في محيطها بعض العوائل الحبشية. بحكم عمل بعض آبائهم في السفارة فأتبادل التحايا واللعب أحيانا مع أبنًائهم. كذلك زملائي في المرحلة الابتدائية أذكر منهم عمران، محمد سعيد، إدريس وغيرهم وكنا نضيف إلى أسمائهم لقب الحبشي.

كما أعتقد أن معظم من عاش في جِدَّة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. سيتذكر ذلك المصوراتي الحبشي ابن أسمرة. الذي أشتهر بأناقته وبزته الافرنجية «باعقيل العباسي» مالك استديو باعقيل. أحد أشهر أستوديوهات التصوير الفوتوغرافي بجِدَّة آنذاك بشارع قابل بجوار مسجد عكاش والفاروقي للبُن. الذي تخصص في تصوير مناسبات وحفلات الإدارات الرسمية ووجهاء البلد.

والواقع إن ما أثار اهتمامي ولفت انتباهي. لذلك العمق التاريخي وأواصر الصلة الاجتماعية والثقافية والتجارية بين مدينة جِدَّة ومصوع وأسمرة منذ القدم. هو مراجعتي وتحقيقي لرواية بعنوان «الحب المفقود في بلاد الحبشة» ألفها زميلي الرحالة السعودي أمين محمد علي غبره. صدرت عن سطور للنشر بجِدَّة عام 2021م. وهي قصة واقعية دارت أحداثها بين جِدَّة ومصوع وأسمرة في صيف عام 1969م. حينما كانت تحت حكم الإمبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي آخر أباطرة إثيوبيا (1928م إلى 1974م).

روى من خلالها المؤلف قصة رحلته مع عائلته إلى الحبشة عبر البحر. لعلاج والدته في المستشفى الإيطالي بأسمرة وما دار فيها من أحداث مثيرة وذكريات. مع التطرق إلى طريقة السفر منها وإليها عبر البحر وما يترتب عليه من معاناة ومخاطر. بالإضافة إلى إبراز جانب من ملامح الحياة الاجتماعية في مدينة جِدَّة وعادات وتقاليد مجتمعها. والجوانب الثقافية للمجتمع الحبشي، والإيطالي في تلك الفترة ومدى ارتباطها بالمجتمع الجِدَّاوي.

ولا بأس من ان أختم هذه السطور بنبذة عن بلاد الحبشة المذكورة. حسبما استنتجته من بحثي ودراستي عنها خلال مراجعتي وتحقيقي للرواية. فبلاد الحبشة هي ما يعرف اليوم بدولتي إثيوبيا وارتيريا. وعرفت بهذا الاسم نسبة إلى أحد قبائل حمير من اليمن تدعى «حبشت». هاجرت حسب ما رجح المؤرخون بين القرنين السابع والعاشر قبل الميلاد من اليمن إلى تلك البلاد. وأقامت مملكة بها حاضرتها «اكسوم» وهي مدينة تاريخية تقع حاليًا شمالي إثيوبيا في إقليم التجراي.

وأجدها فرصة أن أدعو الباحثين والمهتمين. للتنقيب عن المزيد من الإرث الأدبي والفكري والثقافي العربي المتجذر في تلك البلاد. التي اختلطت فيها الثقافة الحبشية والعربية والايطالية. واثراء ساحتنا الفكرية والأدبية والثقافية به، في ظل التقارب الثقافي الذي تعيشه الشعوب، وأصبح فيه العالم كقرية صغيرة.

رابط المقال في مجلة نوافذ

الرابط المختصر لهذا المقال:

عدد المشاهدات 238
Share