فجعت المدينة المنورة بوفاة أحد أبنائها العلامة المحدث المدرس بالمسجد النبوي الشريف والمأذون الشرعي وعميد كلية التربية فرع جامعة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة الأسبق فضيلة الشيخ الدكتور عمر بن حسن عثمان فلاته، فجر يوم الجمعة (12 رمضان 1445هـ – 22 مارس 2024م) عن عمر ناهز 80 عامًا بعد معاناة مع المرض، وصلي عليه بعد صلاة الجمعة في المسجد النبوي الشريف، وشُيع من قبل آلاف المشيعين يتقدمهم علماء وأئمة ومؤذنو ومدرسو المسجد النبوي، وأهله وذويه، وزملائه وأصدقائه وتلاميذه، ودفن في بقيع الغرقد فنال -بإذن الله- فضل الموت في المدينة المنورة الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَن استطاعَ أنْ يموتَ بالمدينةِ فليمتْ فيهَا، فإِنِّي أشفعُ لمَن يموتُ بهَا» رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان وصححاه، وابن ماجة، وغيرهم.
وقدم رئيس الشؤون الدينية للمسجد الحرام والمسجد النبوي، الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس، باسمه واسم أئمة ومؤذني وعلماء وخطباء ومُدرسي الحرمين الشريفين تعازيه لأسرة الفقيد وصادق المواساة في وفاته بصفته أحد كبار علماء ومُدرسي المسجد النبوي الشريف.
ورثاه أستاذ الفقه المقارن والدراسات القرآنية في المعهد العالي للأئمة والخطباء بجامعة طيبة د.محمد يحيى غيلان بمرثية مما جاء فيها:
رحم الإله عن الجميع فقيدنا *** وأتاه في القبر النعيم ويَجبُرُ
وجزاه ربي بالحديث مثوبة *** عد الحروف بما يقول ويُخبِرُ
ويصاحب المختار والصحبَ الأولى*** نصروا الإله وثابروا وتصبَّروا
ومن باب اذكروا محاسن موتاكم أستعرض شيئًا مما عرفته عنه وعن مناقبه وأعماله فلقد أفنى -رحمه الله- جل حياته في طلب العلم والتعليم والدعوة والإرشاد والتدريس في الحرمين الشريفين لنحو 50 عامًا، وخلف إرثًا علميًا بلغ أكثر من 4600 درس رفعت في تسجيلات صوتية على بوابة الحرمين الشريفين، تضمنت شروحًا لأمهات الكتب، وعلوم الحديث والعقيدة والشريعة، فضلاً عن مشاركاته في دورات أعدتها رابطة العالم الإسلامي في عدد من الدول العربية والإسلامية، وتقديمه للعديد من الأحاديث والندوات العامة والموسمية في التلفزيون والإذاعة، منها برنامج ندوة الكتاب في إذاعة نداء الإسلام.
علاوة على إصداره عدة مؤلفات منها «الوضع في الحديث» وهو موضوع أطروحته للدكتوراه التي أصبحت مصدرًا مهمًا في بابها، «جامع التحصيل لأحكام المراسيل»، للحافظ العلائي، دراسة وتحقيق (رسالة الماجستير)، الحديث الحسن مُطلقًا ومُقيَّدًا عند الإمام الترمذي، الشرح المُكمَل في نسب الحسَن المُهمَل، لأبي موسى المَديني الأصبهاني (تحقيق)، معلِّمو المسجد النبوي الشريف، بالاشتراك مع عبد الوهَّاب زمان، وعدنان درويش جَلُّون. وله ثبت يجيز به طلابه عنونه بـ (تحفة الحرمين الشريفين بعوالي أسانيد ومرويات وإجازات الشيوخ الراسخين: ثبت الشيخ أبي ميسون عمر الفلاني المدني).
وهو أول طالب تُناقش رسالته للماجستير في المملكة في كلية الشريعة بمكة المكرمة، عن تحقيقه ودراسته لكتاب «جامع التحصيل لأحكام المراسيل» للحافظ العلائي. فكان حدثًا هامًا حظي بتغطية إعلامية واسعة ومتابعة من قبل وزير المعارف آنذاك حسن بن عبد الله آل الشيخ -رحمه الله- الذي حضر المناقشة شخصيًا مع عدد من الوزراء، ولفيف من كبار العلماء والمتخصِّصين والأعيان.
وقد عُرف عنه سعيه للتحلي بأخلاق القرآن ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وحبه للمدينة المنورة وصلته الوثيقة بأهلها وتاريخها ومتابعته لكل ما يكتب وينشر عنها، فاختير ضمن المجلس العلمي لموسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة. واستمر في ذلك إلى آخر حياته.
كما عرف أيضًا بدماثة خُلقه وطيب ولطف معشره، وصلته لرحمه، ودأبه في إصلاح ذات البين، وأنه كان محبًا ومحبوبًا من الجميع بتواضعه، وحُسن تعامله، وحلاوة وطلاوة لسانه، وجمال كلامه.
وعلى الصعيد العملي عُرف بأدبه ورزانته وجودة قيادته وحُسن تصرّفه وتعامله الراقي مع طلابه ولين جانبه معهم، فغرس فيهم حبه. كما عرف بأياديه البيضاء للكثير من الذين عاشرهم طالبًا، ومعلمًا، وموجهًا، ومسؤولًا.
فضلًا عن حبه لأعمال الخير ومساعداته للفقراء، والمساكين، والأرامل، والأيتام، والمرضى. بالإضافة مشاركته في عضوية مجلس إدارة الجمعية الخيرية الاجتماعية بالمدينة المنورة، ومجلس إدارة الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بالمدينة المنورة، وتوليه أمانة مركز حي الحزام.
كما كان عابدًا وزاهدًا وورعًا ومن مقيمي الصلاة والذاكرين الله كثيرًا إلى آخر لحظات حياته فقد روى قريبه الأستاذ محمد بن جبريل فلاته أنه في ليلة وفاته كان مصرًا على الخروج من المستشفى للذهاب إلى المسجد النبوي لأداء صلاة العشاء والتراويح، لكن صحته لم تكن تسمح بذلك، فصلى في غرفته يؤمه صهره بكري السنوسي، ولم تمض ساعات حتى فاضت روحه إلى بارئها.
وكان -رحمه الله- قد دون متفرقات من سيرته في لقاءات تلفزيونية وصحفية ذكر فيها إنه ولد في العام 1364هـ (1945م) بحارة الأغوات بالمدينة المنورة.
وأنه بدأ مسيرته التعليمية وهو في السادسة من عمره (1370هـ/1951م) لتعلم القرآن الكريم بمكتب الشيخ عبد الحميد هيكل بالمسجد النبوي الشريف، وفي كُتَّاب الشيخ جعفر فقيه.
وفي العام 1371هـ (1953م) التحق بالمدرسة الناصرية التي كانت تقع شمال شرق المسجد النبوي، ثم انتقل إلى المدرسة الفيصلية في العام 1373هـ (1954م) ونال منها شهادته الابتدائية في العام 1376هـ (1957م).
ثم التحق بالمعهد العلمي السعودي في العام 1377هـ (1958م) وأكمل فيه دراسته المتوسطة والثانوية وتخرج منه بتفوق في العام 1382هـ (1962م).
ولشغفه بالعلم الشرعي انتقل إلى مكة المكرمة ليلتحق بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية التي أصبحت لاحقًا جامعة أم القرى، وحصل منها على شهادة (البكالوريوس) في العام 1386هـ (1966م). وكان من بين زملائه الدكتور راشد الراجح الذي أصبح أول مدير لجامعة أم القرى.
وعقب تخرجه عاد إلى المدينة المنورة وبدأ حياته العملية كمعلم في المرحلة المتوسطة بمدرسة أبو بكر الصديق بمنطقة الجنان في باب المجيدي، وبعدها بعامين انتقل إلى مدرسة عثمان بن عفان بقباء.
وعندما فُتحت برامج الدراسات العليا في كلية الشريعة بمكة المكرمة تقدم لها فقُبل واستمر فيها أربع سنوات نال فيها الماجستير عام 1392هـ (1972م).
كذلك تتلمذ على يد جلة من كبار العلماء في الحرمين الشريفين من أبرزهم (حسن محمد مشَّاط، وعبد الله بن محمد بن حميد، والسيد علوي بن عباس المالكي، ومحمد أمين المصري، ومحمد أمين كُتبي، ومحمد نور سيف)، في مكة المكرمة و(حماد بن محمد الأنصاري، وعبد الحميد هيكل، وعبد العزيز بن باز، وعمر محمد فلاتة، ومحمد الأمين الشنقيطي، ومحمد المختار مزيد الشنقيطي) في المدينة المنورة، وحصل على إجازات علمية من بعضهم.
وابتُعث إلى جامعة الأزهر بالقاهرة التي نال منها شهادة (الدكتوراه) من قسم السنَّة والحديث، في كلية أصول الدين عام 1397هـ (1977م)، عن أطروحته «الوضع في الحديث»، بإشراف الدكتور مصطفى أمين التازي.
وبعد عودته عُين عضوًا في هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز (شطر مكة)، ثم تم تكليفه برئاسة قسم الشريعة حتى أواخر العام 1399هـ، ثم انتقل إلى المدينة المنورة وانضم للعمل في قسم الشريعة بكلية التربية فرع جامعة الملك عبد العزيز بالمدينة، ثم قسم الدراسات الإسلامية ثم وكيلاً للكلية، وفي العام 1403هـ أصبح عميدًا لها، خلالها شارك في مناقشة العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه في جامعات المملكة المختلفة، وعضوية اللجنة الدائمة للمناهج بجامعة الملك عبد العزيز.
وعندما أحيل إلى التقاعد في العام 1414هـ (2005م) عمل عميدًا للمعهد العالي للأئمة والخطباء، وأستاذًا غير متفرغًا.
وعن تدريسه في الحرمين الشريفين روى -رحمه الله- أنه بعد عودته من القاهرة احتاجت الرئاسة العامة لتدريس بعض المشايخ في المسجد الحرام، فرُشح من كلية الشريعة بمكة المكرمة، وبدأ التدريس في الحديث بكتاب «سبل السلام»، وبحكم انتقال عمله إلى المدينة المنورة في العام 1401هـ أصبح مدرسًا في المسجد النبوي الشريف بعد موافقة لجنة المسجد النبوي (الشيخ عبد الله الزاحم، الشيخ عبد الله الخربوش الشيخ عطية، والشيخ حماد، والشيخ عمر محمد فلاته، والشيخ محمد ثاني) وفي العام 1411هـ صدر الأمر السامي بتثبيته في التدريس واستمر فيه حتى أخر حياته.
وأجد من المناسب أن أدعو العارفين ممن عايشوه من أهل الاختصاص بتدوين وتوثيق سيرته ونشرها للانتفاع بها، والأخذ باقتراح الكاتب والمؤرخ والجغرافي د.تنيضب الفايدي في نعيه للفقيد بأن تخصص الجامعات في المدينة المنورة كراسي علمية تعتني بسيرته وما قدم لهذه المدينة المباركة.
سائلًا الله العلي القدير أن يجعل كل ما قدمه في ميزان حسناته وأن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته.

رابط المقال على مجلة اليمامة

عدد المشاهدات 129