نشرت منذ عدة أشهر على الفيسبوك أبيات شعرية من قصيدة «في الطائرة» للأديب طاهر زمخشري التي تضمنت غزلاً عفيفًا في مضيفة فلبينية على طائرة الخطوط السعودية. وذلك من باب المداعبة والمشاركة الأدبية لزملائي من موظفي الخطوط السعودية.
فقادني ذلك المنشور للوصول إلى رباعية مخطوطة بيد الأديب مهداة إلى إحدى موظفات الخطوط السعودية بتونس ولا زالت تحتفظ بها إلى يومنا هذا. في الأثناء التي كنت أراجع فيها كتاب «مواجهات» للدكتور محمد العوين الذي تضمن نص لحديث إذاعي سجله مع الأديب قبل وفاته بسنتين تطرق فيه إلى قصة مبايعة الوزير الشاعر د.غازي القصيبي له أميرًا للشعر. وديوانه الذي كان بصدد إصداره بعنوان «رباعيات الخضراء» الذي ضم تلك الرباعية.
فوجدتها فرصة مناسبة أن أسلط الضوء في هذه السطور المضيئة على قصة تلك الرباعية ومبايعة القصيبي للزمخشري بإمارة الشعر. التي عكست مدى المكانة التي حظي بها الزمخشري بين أدباء وشعراء المملكة وتونس ومدى حب وتقدير موظفي الخطوط السعودية بتونس له.
وتبدأ القصة عندما نشرت في 2021/09/09م منشورًا على صفحتي في الفيسبوك شاركته مع مجموعتي متقاعدي الخطوط السعودية وملاحي الكابينة تضمن الرسالة التالية: “إلى الزملاء والزميلات المضيفين والمضيفات الذين افتقدت من عملت معهم. وإلى الذين لم يحالفني الحظ في الالتقاء بهم لمغادرتي العمل بالخطوط في العام 1992م.
أهديكم هذه القصيدة «في الطائرة» من ديوان «عبير الذكريات 1980م/1400هـ». التي نظمها رائد الأدب والشعر السعودي الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري – رحمه الله – في إحدى رحلاته إلى تونس.. على متن طائرة الخطوط السعودية (جدة -بيروت – طرابلس – تونس) في سبعينيات القرن الميلادي الماضي عندما أصيبت المضيفة التي كانت تخدمهم بدوار فأسعفها صديقه الطبيب فما كان منه إلا أن حيا الطائرة وطاقمها بهذه القصيدة وخص المضيفة بقوله
عاشت يمينك يا آسي مضيفتنا *** إن الدواء الذي قدمتَ عطَّارُ
لما تهادت أفاضت من بشاشتها *** ما كان يرجوه ركاب وطيار
في جوف طير بلا ساق ولا قدم *** ولكنه في مدار النجم سيار
قالو «فلبينية» للشرق نسبتها *** وليس بدعا فكم في الشرق أقمار
مخارج الحروف فيها لكنة عجب *** في حلو منطقها نور ونوار”
وأرفقت مع المنشور صورة القصيدة كاملة. فحظيت بعشرات الإعجابات والتعليقات كان من بينها تعليق من إحدى متقاعدات الخطوط السعودية أثنت فيه على بابا طاهر ومدحته، وأنها تعرفه جيدًا وقد أهداها قصيدة كتبها فيها بخط يده لازالت تحتفظ بها.
وعلى الفور تواصلت معها وعرفتها بنفسي وعلاقتي بابا طاهر واهتمامي بتتبع أثره وجمع سيرته واستأذنتها في الحصول على صورة من القصيدة وإجراء لقاء معها بشأنها. فرحبت بذلك إيما ترحيب معرفة بنفسها بأنها “نجوى محمد منصور، تونسية الجنسية، موظفة سابقة بالخطوط الجوية العربية السعودية بتونس.
وقالت لقد عرفت بابا طاهر وأنا في العاشرة من عمري. حيث كان يتردد على جيراننا في البناية التي كنت أسكنها بحي المنزه. وبمعيته الفنان لطفي زيني المعروف بـ “تحفه” والفنان حسن دردير “مشقاص” والفنان التونسي محمد علي “سي الحطاب” – رحمهم الله جميعًا – حيث كانوا يصورون المسلسل التلفزيوني الشهير «فندق المفاجئات». وعندما كبرت شاءت الصدف أن التقي به ثانية في مطار قرطاج الدولي بعدما التحقت بالعمل في الخطوط السعودية في 19/11/1980م. تحت إدارة مدير المحطة الأستاذ عمر أشرم. الذي كان راقيًا وقمة في الأخلاق الحسنة، وشخصية لا تنسى على الإطلاق. وهو أفضل مدير عملت معه طيلة مسيرة عملي مع الخطوط التي امتدت لـ 40 عام. وله الفضل في تعريفي عن قرب ببابا طاهر، فقد كان مقربًا منه ومحبًا له جدًا، وهو من أكثر الملمين بأحداثه وحياته في تونس آنذاك. حيث كان بابا طاهر كثير التردد على تونس.
وفي أحد أيام بدايات عملي كلفني باستقباله عند باب الطائرة، وإنهاء إجراءات وصوله فأعجبت بشخصيتيه ومرحه، ومن حينها أصبحت استقبله واودعه بنفسي أنا وزميلي المرحوم رمزي راغب الطيلوني الذي كان قريب منه ومحببًا إليه ايضًا، وبمرور الوقت زادت معرفتي به بصورة أكبر، خصوصًا وأنه كان يتردد على صالة المطار كثيرًا لاستقبال الأمراء وكبار الشخصيات السعودية، وأصدقاءه ممن يأتون في زيارة لتونس أو لزيارته شخصيًا. وأصبحت أرافقه في الاستقبالات وهو سعيد بي، وممن أتذكر استقبالاتهم معالي الشيخ أبا الخيل، سعادة السفير السعودي بتونس الشيخ عبد الرحمن عمران -رحمهما الله- الذي عمل سفيرًا للمملكة العربية السعودية في تونس نحو عشرين عامًا، وكان صديقًا مقربًا جدًا لبابا طاهر.
كان بابا طاهر رجلًا خلوقًا، ومؤدبًا، وطريفًا، ومبتسمًا، وإنسانًا كريمًا جدًا وحنونًا وطيبًا للغاية، وقد أصبح محبًا لي ومعجبًا بأدائي واجتهادي واخلاصي في عملي. وكنت موظفة المطار المدللة لديه، في الوقت الذي كان كل زملائي من الموظفين الذين أذكر منهم السيد كمال زايلة، والاخوين بن طارة رحمهما الله، السيد حمادي الجزيري، السيد فتحي الدريدي، السيد عبد السلام خليف، يتحركون ويتسابقون لاستقباله وخدمته كل ما جاء أو وصل إلى صالة المطار.
رباعية «نجوى»
تقول نجوى في إحدى رحلات بابا طاهر إلى تونس (1981/06/07م) قادمًا من جدة، كنت أركض لاستقباله والابتسامة مرسومة على وجهي. وكان كل من حولي ينظرون إلىَّ وأنا راكضة نحوه ويدايّ مزدحمتان بأوراق ومستندات الرحلة التي كادت تتساقط بسبب ركوضي، فحركة ذلك المشهد وابتسم قائلًا: “أعطني واحدة من هذه الأوراق التي بين يديك”. فتعجبت من طلبه، واعطيته ورقة مذكرة فارغة، فأخذها وانهمك يكتب بتلقائيه، وأنا أنظر إليه دون أن أعرف ماذا كان يكتب. وتابعت حركة نزول الركاب من الطائرة، وبعد مضي عدة دقائق ناولني الورقة وقال: “لقد كتبت فيك هذه الرباعية قصيدة «نجوى» احتفظي بها هدية مني لكِ”.
ومنذ ذلك الحين وأنا أحتفظ بها لنفسي حتى يومنا هذا. واستمر تواصلي وعلاقتي به طيلة اقامته في تونس وحتى وفاته -رحمه الله- في العام 1987م، رغم انتقال عملي إلى مكتب الحجز والتذاكر.
لقد كانت تلك الرباعية المخطوطة بيده والتي مهرها بـ “مهداة إلى الغالية نجوى حبيبة الجميع” وقال في مطلعها أيا نجوى المصفق في الحنايا *** وأحلى الفاتنات من الصبايا. أغلى هدية وأفضل تكريم حظيت به خلال مسيرة عملي مع الخطوط السعودية. التي غادرتها دون أي اعتبار أو تكريم. وأعتقد أن بابا طاهر لم يحظ بتكريم كافي يتناسب مع شخصه واشعاره ومواقفه في تونس، فقد كان عاشقًا لها، ويعتبرها بلده الثاني، وتمنى الموت والدفن فيها. وربطته علاقة جيدة بالكثير من ملاحي الخطوط السعودية التونسيين الذين عملوا على الرحلات أتذكر منهم السيدة شريفة بن عبد الله، آمال بوزيان، جليلة مراد، والمرحومة حياة كشك. وايضًا ربطته علاقة طيبة بالفنانة عايدة بو خريص التي كان يعتبرها بمثابة أبنته، وقد كتب ولحن لها عدة أغاني.
القصيبي وعودة الزمخشري للشعر وإمارته
كانت رباعية «نجوى» التي نظمها بابا طاهر في العام 1981م بمثابة عودته للشعر بعد إصداره 19 ديوانًا واعلانه بعدها اعتزاله وتحريمه الشعر على نفسه.
فقد روى رحمه الله عن ذلك في حديث مسجل للإذاعة السعودية أجراه معه الدكتور محمد العوين في بيته بتونس بحضور الأستاذ عبد الرحمن بن معمر وابنه د. فواد طاهر زمخشري -رحمه الله- (ذي الحجة 1402ه/۱۹۸۲م) بأنه أعلن قبل عام تحريم الشعر على نفسه وانتهى منه، وقضى نحو عام دون أن يمسك بقلم ليكتب الشعر فضلًا عن قوله، وتناقلت الصحف السعودية والتونسية بأن طاهر زمخشري قد ترك الشعر وطلقه وحرمه على نفسه. ودخل في تحدي كبير مع نفسه بأنه يستطيع ذلك أو لا يستطيع.
وقال إنه في تلك الفترة كانت تدور معركة أدبية في السعودية بشأن إمارة الشعر، بين الدكتور غازي القصيبي ومجموعة من الشباب الأدباء. وأخذوا رأيه بهذا الخصوص. ولم يكن بابا طاهر يعلم حينها أن تلك المعركة كانت دائرة حول الدكتور غازي القصيبي، والهجوم عليه بشأن رأيه الصريح بإمارة الشعر. وعندما جاء د. القصيبي في زيارة رسمية إلى تونس كان بابا طاهر في استقباله في المطار بمعية رئيس الحكومة التونسية الدكتور محمد مزالي، ووزراء آخرون، وبعد وصوله وسلامه عليه قال بابا طاهر للقصيبي “إنني بايعت الشاعر محمد حسن فقي بإمارة الشعر”، فما كان من القصيبي إلا أن التفت للمستقبلين من الوزراء وقال: ” يا أخ رشيد.. يا أخ مزالي.. يا… أقدم لكم أمير شعراء المملكة العربية السعودية طاهر زمخشري” فدهش وقال له:” أنا أطلب إنك تبايع السيد محمد حسن فقي تيجي تبايعني أنا”، فأصر القصيبي على رأيه. ومن حينها كل ما سُئل بابا طاهر عن إمارته للشعر قال: “إن الدكتور غازي القصيبي هو الذي بايعني على إمارة الشعر”، وعلى إثر ذلك وجد نفسه عائدًا للشعر بكتابة رباعية في كل يوم. بما فيها رباعية “نجوى” وقرر جمع تلك الرباعيات في ديوان بعنوان «رباعيات الخضراء» إضافة إلى بعض الرباعيات كان قد احتفظ بها سابقًا. وكانت أخر رباعية كتبها للديوان في إبنة صديقه وزميله السيد هاشم زواوي -رحمه الله – د. عبلة الزواوي (رئيسة قسم الولادة بمستشفى الولادة آنذاك) التي أخذت على عاتقها علاج ابنته ابتسام والاهتمام بها فقال فيها:
السنا الراقص الأهلة فيها *** صاغ منها في عالم الحسن عبلة
في طب الفؤاد والبلسم الشافي *** يطيب.. الكل يعرف نبله
وهي فرع زكي الأصل *** نبيل بارك الله بالشمائل نسل
منبع الطب في يديها *** شهيد أنها بالنبوغ أكرم نجله
وقد توفي رحمه الله قبل أن يصدر ذلك الديوان ((رباعيات الخضراء)).
يجدر بالذكر أن الأديب قضى نحو 25 عامًا من حياته متنقلًا ما بين جدة وتونس التي أصدر منها 6 دواوين شعرية أعاد إصدارها في العام 1402-1982م في مجموعة سمها “المجموعة الخضراء”. وكرمته الحكومة التونسية بوسامين (وسام الاستقلال من الدرجة الثالثة عام 1966م، ووسام الجمهورية الثقافي من الصنف الثاني عام 1974م). وأطلقت اسمه على عدة شوارع في مدن مختلفة من تونس باسم “نهج الزمخشري” منها العاصمة تونس، صفاقس، أريانة، سوسة، نابل. فضلًا عن الشعبية الواسعة التي حظي بها بين كافة شرائح المجتمع التونسي بمختلف طبقاته. وقضى فيها أخر أيام حياته إبان مرضه الأخير فأُصيب بغيبوبة نقل على أثرها إلى مستشفى الشاطئ بجدة في منتصف شهر شعبان عام 1407هـ/1987م، وبقي فيها إلى أن وافته المنيَّة -رحمه الله- ظُهر يوم الجمعة الثاني من شهر شوال عام 1407هـ /29 مايو عام 1987م، وصُلِّي عليه عقب صلاة المغرب في المسجد الحرام، ودُفِن في مقبرة المعلاة بمكة المكرمة عن عُمر ناهز خمسةً وسبعين عامًا.
الرابط المختصر لهذا المقال:
شكراً
على هذه المقالة وفيها كم من المعلومات الفيمة
عرفت مما ذكرت من موظفي السعودية في
تونس الأستاذ عمر أشرم والفاضلة الجليلة مراد
والأستاذة نجوى وغيرهم كانت تونس تعيش أوج
إزدهارها وتمت نقل الجامعة العربية هناك
نعم رجل يستاهل وكان له دور فى تطوير الاعلام السعودي بجانب قدرته الأدبية