كنت قد نشرت في يوم الأربعاء (2022م/06/08) مقالا بعنوان “جيب القول على الرايق تحفه فنية رياضية كتبها الزمخشري لنادي الوحدة وغنتها هيام يونس لجماهير الكرة العربية“.
وفوجئت بمدى الشعبية التي لا تزال تحظى بها الأغنية. وصاحبتها الفنانة هيام يونس عند جمهورها وعشاق الأغاني الرياضية. وذلك من خلال الإعجاب والتفاعلات والتعليقات التي تلقيتها على حساباتي الالكترونية (تويتر، فيسبوك، واتساب). تعقيبًا على المقال والأغنية.
فوجدتها فرصة مناسبة أن أخصص هذه الدردشة لجمهورها الوفي الذي لا يزال يذكرها وإلى النشء الجديد الذي لم يعرفها من قبل، لتعريفهم بالعلاقة الأبوية والفنية والأدبية التي ربطتها بالأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري -رحمه الله- وقادت لنجاح مسيرتهما الفنية المشتركة خصوصًا أغنية «جيب القول».

فحينما شرعت في العام 2016م في تأليف كتاب عن أغاني بابا طاهر.. ومناسباتها تواصلت معها بصفتها أحد الفنانين اللبنانيين الذين ربطتهم علاقة فنية وأدبية ببابا طاهر منذ ستينيات القرن الميلادي الماضي. إلى جانب شقيقتها نزهة يونس. لجمع معلومات عن تاريخ علاقتها به وتعاونها الفني والأدبي معه. والأغاني التي غنتها له ومناسباتها. وعلاقته بالفنانين اللبنانيين الآخرين الأحياء الذين تعاملوا معه. حيث ربطته علاقات فنية مع عدد من الفنانين اللبنانيين منهم الفنان وديع الصافي، وشقيقته هناء الصافي، والفنانة جاكلين، وعازف الناي جوزيف أيوب.. لتضمين ما ستقدمه لي من معلومات إلى مشروع كتابي الذي لم يرى النور بعد.
وبرغم أنها كانت منشغلة آنذاك بتصوير برنامج ” اسأل قلبك “.. لقناة NBN “. وتصوير كليب في مختلف المناطق اللبنانية. إلا أنها لم تتوان بتخصيص جزء من وقتها للإجابة على تساؤلاتي، بشيء مما رسخ في ذاكرتها عن علاقتها ببابا طاهر بقولها: «كم فرحني بعد طول السنين أن أتواصل مع أحد من أسرة ذلك الجبل الأشمّ بابا طاهر.. خاصة وأنه لم يكن لدي أي وسيلة اتصال بأي أحد منهم خصوصًا ابنته العزيزة ابتسام. فقد كان يعتبرني بمثابة ابنته الثانية بعدها. إذ دوما يناديني: ابنتي هيام..
وإني لأغبطّك على بابا طاهر الشاعر العملاق والإنسان الملاك. وصديق العائلة الابرّ الوفي رحمه الله…

لابدّ لي من بعض الوقت للإجابة على تساؤلاتك لأن ذلك سيكون أمانة في عنقي. ولإنجاز هذا العمل المهم الكبير. يستحسن أخذ الأجوبة المتعلقة بالفنانين الأخرين منهم شخصيًا. حتى لو استغرق ذلك وقتًا طويلًا. لأن ذلك أفضل وأضمن. واسأل الله لك كل التوفيق والعون وأن أكون عند حسن ظنكم…
عرفت بابا طاهر في مطلع ستينات القرن العشرين. في حفل تكريم السفارة السعودية في بيروت للرساّم السعودي المبدع عبد الحليم رضوي. حينها التقيت بشاعرنا الكبير الأستاذ طاهر زمخشري. وكان الفنان الكبير الاستاذ جميل محمود يقدّم وصلة غنائية على عوده الساحر. في نفس الكازينو في عروس المصايف «عاليه». وسرّني أن أدعو شاعرنا بابا طاهر. إلى حفلتي تلك الليلة فلبّى. ومن عظيم تواضعه لبّى أيضا دعوتي له إلى المسرح ليسمعنا بعضا من روائعه. وبعد ذلك. أصبح يتردد على منزلنا. حيث كان ملتقى للعديد من الملحنين والشعراء وأهل الإعلام السعودي الكريم…
وكنتُ أمازحه كلما طالت غيبته عنّا: يا بابا زورونا كلّ سنة مرّة. ولم يكن يزورنا إلا إن كان معه صاحب شركة أسطوانات. حيث نسمع مع أهل الفنّ الموجودين عددًا من الألحان الجميلة فنختار. وفي اليوم التالي نسجّل..
فكلّ فناني المملكة. منذ منتصف الستينات الميلادية. كانوا على علاقة بأسرتنا المحفوفة بالموسيقى والفنّ الغنائي. بشكل عام حتى إن بيتنا كان يسمِّيه البعض بـ «السفارة السعودية». وعندما كانوا يأتون إلى بيروت. للغناء في المصايف أو لتسجيل أغنياتهم يلتقون في منزلنا… وكُنتُ بحسب الفن والمجتمع العربي. الناطقة الرسمية باسم الاغنية السعودية. كما اعتبرت نفسي واحدة من أبناء المملكة. لعلاقتي الوطيدة بها وبتراثها وموسيقاها ونجوم الفنّ والإعلام فيها. وهذا محل فخر بالنسبة لي بلا شك. وأعتزّ جدًا بصداقاتي الأخوية مع زملائي في الساحة الفنّية السعودية…

وقد سجّلت من كلمات بابا طاهر للإذاعة السعودية: «حليوه بالجمال فتّان» ألحان الأستاذ غازي علي. «مظلوم من الخَلِّ» ألحان الأستاذ عمر كدرس. قصيدة «من هي..؟» ألحان الأستاذ جميل محمود. بالإضافة إلى أغنيه “جيب القول على الرايق” من ألحانه التي كانت والحقّ يقال قنبلة الملاعب لأعوام عديدة. وقد فازت على أغنية مها صبري (فيها جون) طوال سنين. واعتمدت في بلدان عديدة. الأغنية الرياضية الأولى والأكثر شعبية..
وجاءت الحرب اللبنانية لا أعادها الله. وطبعا غاب عنّا بابا طاهر. القلب الملائكي. ولم يعد يعرف عنّا شيئا ولا نعرف عنه شيئا البتة. حتى دعيتُ إلى تونس لحفل زفاف كبير في أوائل الثمانينات. وكم كانت دهشتي كبيرة وفرحتي أكبر. حين تقدّم مني أستاذنا العملاق بضحكته المُشّعة حنانًا. وعرفتُ منه استقراره في تونس الخضراء «هوى إبداعه الخلاّق».. وعدتُ إلى لبنان والحرب لا تزال على أشدّها. ومرَّت فترة طويلة. ومجددًا لا أجد من أسأله عن بابا طاهر الشاعر الخالد. الذي اعتبرني حقا ابنته. واعتبرته حقا أبي…
وبما أن مقياس الأعمال الجيِدة هو مدى بقاؤها عبر الأجيال، هكذا بقي ما بنيناه بالفنّ بأعوام السهر والكدّ والعرق والدموع. لأن الفنّ بالنسبة إلينا هو رسالة. نحقٌق من خلالها ذواتنا ونرسم للمستقبل طريق العطاء البهيّ».
وبنبرة حزينة ختمت كلامها عن تلك الذكريات بقولها «تنقلت كثيرًا خلال الحرب اللبنانية. وفقدت خلالها “أعزّاء وأرزاق”. بما في ذلك صوري مع بابا طاهر».

ولمن لا يعرف الفنانة هيام يونس فهي مغنية وممثلة سينمائية لبنانية. من مواليد ضيعة «تنورين» بشمال لبنان في 28 يناير 1948م. أظهرت نبوغًا منذ نعومة اظافرها بأدائها الفني وهي في الخامسة من عمرها. أمام أشهر عمالقة الشاشة المصرية آنذاك زكي رستم، كمال الشناوي، أمينة رزق، إلى جانب شقيقتها نزهة يونس في فيلم “قلبي على ولدي”. الذي غنت فيه واحدة من أشهر الأغاني الرمضانية «وحوي يا وحوي» و «أصحي يا نايم». ما دعي الرئيس اللبناني الراحل بشارة الخوري أن يلقبها بـ «الطفلة معجزة القرن العشرين». واحتضنها مع الرئيس الراحل رياض الصلح.
وقد تعلمت أصول الموسيقى والمقامات العربية والعزف على آلة العود على يد الموسيقار سليم الحلو وهي في السابعة من عمرها. واستمرت تصاعديًا في نجوميتها الفنية. التي أبدعت من خلالها وتميزت بالغناء بجميع اللهجات العربية. ما جعل النقاد يلقبونها بـ «الجامعة العربية الفنية». كما لقبت بـ «نجمة الشرق» حين باعت إحدى أغنياتها مليون نسخة. وشكلت مع المغني والملحن الأردني الراحل عبده موسى ثنائيا ناجحًا.
ولها ما يربوا على 700 أغنية. تغنت بها من كلمات شعراء عرب. منهم شفيق المغربي، يحيى توفيق حسن، بدر بن جاسر العياف، إلى جانب الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري. وليس ذلك فحسب، فقد تغنت ايضًا بقصائد شاعر العصر الجاهلي امرؤ القيس وشاعر العصر العباسي جرير. ما جعلها تلقب بـ «مطربة القصائد»، و «المطربة المثقّفة». ولإحساسها المرهف وصفها الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب بـ «صاحبة أخطر إحساس».
تعاونت مع الكثير من الملحنين منهم الموسيقار (طارق عبد الحكيم، غازي علي، جميل محمود، عمر كدرس، محمد سعد عبد الله، أحمد قاسم، جميل العاص، عبد الحميد السيد)..

ومن أشهر أغانيها «تعلق قلبي طَفلَة عربية، سافر يا حبيبي وارجع، جيب القول على الرايق، حليوة بالجمال فتّان، دق أبواب الناس، جديلي يا أم الجدايل، سمراء. بالإضافة إلى أغنيتها الشهيرة (يا من يسلم لي على الغالي) التي استخدمها الإعلامي الراحل بدر كريّم مقدمه لبرنامجه (تحية وسلام). كما أنها تمتلك موهبة التلحين إذ لحنت لنفسها «دق ابواب الناس، عيناه لبن على سكر، يا سبحان الله». وإلى جانب إنجازاتها الغنائية قدمت عشرات الأعمال التلفزيونية الغنائية لمحطات لبنانية، وسورية، وأردنية، وخليجية.
وكانت الفنانة هيام يونس قد صرحت لصحيفة “صوت الأمة” المصرية في 07 أبريل 2022م بإنها اعتكفت عن الغناء لبعض الوقت خلال الحرب اللبنانية بسبب الحالة الأمنية المتردية والخطرة وأيضا تردي حالة الفن وهبوطه.
وعقب ظهورها في عام 1999م على شاشة قناة المستقبل اللبنانية ضمن برنامجها الشهير (خليك في البيت) تلقت عشرات الاتصالات الهاتفية من مختلف البلدان العربية طالبة عودتها للساحة الفنية. ودعيت إلى تونس الخضراء حيث تم تكريميها. وفي العام 2000 أصدرت ألبوم غنائي جديد بعنوان «راجعة»،
واستمرت في تلبية دعوات معظم المهرجانات العربية التي كرمت من خلالها في صنعاء باليمن عام 2004، وفي الجزائر والأردن والسعودية التي جددت خلالها ذكرياتها مع الفن السعودي ورواده وعلى رأسهم الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري الذي أحيت مسيرتها الفنية معه بتجديدها لأغنية «جيب القول على الرايق» على نفقة الإعلامي القدير فريد مخلص وسجلتها في استديو عادل الصالح بجدة، وحينها قالت «ما زلت أتذكر ذلك المساء البيروتي الجميل الذي سجلت فيه الأغنية.. أول مرة. وها أنا أعيشه مجددًا في ستوديو عادل الصالح في جدة».

وعلى أي حال رحل بابا طاهر عن عالمنا في العام 1987م تاركًا لنا ولهيام يونس وللأجيال أثرًا أدبيًا جميلًا وذكريات خالدة معها وثقها في قصيدته «تغريدة الحَسُونْ» التي نظمها من 30 بيت شعر ونشرها في ديوانه «الأُفُق الأخضر 1970م/1390هـ» ومهرها بقوله “مهداة إلى الفنانة العربية الكبيرة الآنسة هيام يونس بمناسبة زيارتها لتونس لأول مرة حاملة أغاريد بلادي”. وأختم دردشتي هذه بأبيات من تلك القصيدة..
زُغْرِدَي يَا مُنىً فقد طَاب عيِدِي بعد أَن طَاف بِي الْهَوى من بَعيدِ
فَوْقَ هَامِ الْأَثِيرِ، يَضْحَكُ فِي التَّيَّارِ صَوْتٌ مُسْتَعْذَبُ التَّرْديِدِ
عَطَّلَ الشَّعْرَ رجعُه بالَّذي يَحْمِلُ من رِقَّةٍ ، وَرَنَّةِ عُودِ
عَبْقَرِيُّ الْأَدَاءِ يَستَنْزِفُ الآهَةَ من خَافِقٍ طَرُوبِ النَّشِيدِ
وَانْبَرَى يُلْهِبُ الْمَشَاعِرَ بِالْحُبِّ، وَيُذْكِي الْهُيَامَ بِالتَّغْرِيدِ
عِنْدَ خُضْرِ الرُّبَى، وفِي غَابَةِ الزَّيْتُونِ ، فِي فَيْءِ ظِلِّهَا الْمَمْدُودِ
كُلُّهَا بِالْفُتُونِ تَسْتَقْبِلُ الْحَسُّونَ غَنَّى بِمَبْسَمٍ غِرِّيدِ
وَالرِّوَاءُ الْبِنَفْسَجِيُّ الْأَزَاهِيرِ بِأَكْمَامِهِ خِيَامُ الْوُفُودِ

عدد المشاهدات 429