نشر هذا المقال على صحيفة غرب الإخبارية في 2019/08/07م

تذكرت في هذه الأيام المباركة الكاتب الأستاذ عبد الله عمر خياط – رحمه الله – فقد كتبت منشوراً عن أغنية “المروتين” بمناسبة حلول موسم الحج في العام الماضي «1439هـ»، وبعثت به إليه، فقرأه وأعجب به وأثنى عليه وقال إنه ذكره بصديقه الأديب الراحل طاهر زمخشري، الذي ربطتهما علاقة صداقة وطيدة، وكتب في عاموده مع الفجر مقالاً بعنوان «أغاني الشوق للديار المقدسة» (05/12/1439هـ) تحدث فيه عن الشوق عند الشعراء للديار المقدسة من أهل مكة وذكر منهم طاهر زمخشري وجزء من قصيدته “أهيم بروحي” «المروتين» التي غناها الموسيقار الراحل طارق عبد الحكيم – رحمهم الله جميعاً-.

ووجدت من المناسب أن أعرج على بعض الذكريات التي جمعتهما في مثل هذه الأيام إذ روى الخياط رحمه الله «في أحد الأعوام من تسعة عشر عاماً مضت جاءني إلى منزلي يوم الحج، يوم عرفة، وقد قفلت الجريدة أبوابها كغيرها من المرافق، وطلب مني مبلغاً من المال لو أعطيته إياه لما بقي في حوزتي شيء فقلت له: ألا يكفي النصف؟ فإن المبلغ الذي تطلبه هو كل ما عندي! قال: هاته وتعال معي بسيارتك. وفعلاً ذهبت معه إلى أحد المستشفيات الأهلية حيث سددنا فاتورة المستشفى عن مريضة توفاها الله، ثم قال سلفني مائتي ريال لنعطيها لأهلها كي يخرجوا بها فإنها فقيرة».

وفي ذكرى أخرى عن بابا طاهر قال رحمه الله: «مما أذكره أنه كان لا يأتي لإدارة جريدة عكاظ إلا ليتسلم مكافأة ما ينشر له من شعر ثم يغيب حيناً من الوقت ويعود قائلاً الحمد لله، الحمد لله ولم أكن أعرف سر ذلك حتى صادف يوماً كنت خارجاً من الجريدة وتسلم مكافأته وخرج قبلي إلى الشارع ووقف في انتظار سيارة تاكسي فكان أن حملته معي.

ولما قلت له إلى أين؟ قال بشرط ألا تذكر ما سوف تراه لأحد! قلت له لك ما تريد. قال اذهب إلى … وبعدها اذهب إلى … وبعهدها اذهب إلى… وكل الثلاثة بيوت التي ذهبنا لها كانت لعوائل فقيرة وزع مكافأته عليها. رحم الله بابا طاهر، فقد كان قلبه لا يتحمل أن يرى فقيراً لا يساعده، رغم ما عليه من العدم. لا يعرف الحقد بمقدار ما كان رحمه الله يبذل الحب للآخرين فإنه أيضاً يتقبل إساءة الآخرين بصدر رحب وقلب ودود، أذكر مرة أن صديقاً من خيرة أصدقاءه ضايقه في العمل لمجرد أن اقترح اقتراحات يرى فيها الخير والتقدم لسير العمل المشترك الذي يقومان به، ولم يكتف ذلك الصديق بالمضايقة بل انتهز أول فرصة وأصدر قراراً بإيقاف بعض ألوان النشاط الذي كان يقوم به بابا طاهر، ولقيته مصادفة إثر صدور ذلك القرار الذي استغرب له ومنه الجميع، فبادرني قائلاً:

أريد حياته ويريد قتلي على أني النبيل بما أريد

ولقد عاتب صديقاً له بقوله:
أيها الجائر الذي غالب الحقد رويداً فلن نُساء ببخسك
نحن أنقى من الضياء صفاء لا نبالي بما يلوب برأسك
والنفوس الكبار لا تعرف الإثم لماذا تقيس كلاً بنفسك
فاتق الله اتهام البريئين وقل لي ماذا ادخرت لرمسك

وفي رباعية أخرى بعنوان “لا أبالي” يقول:
لا أبالي بما يحوك الأعادي إن رب العباد بالمرصاد
فمتى راش لي حقود سهاماً لذت بالله، من شرور العوادي
وتضرعت أن يكون غياثي وملاذي ومنقذي وسنادي
وتمنطقت بالفضيلة درعاً وتركت السفال للأوغادي
أي نعم لقد عاش في العلالي وترك السفال للأوغادي»
.

وفي ذكرى أخرى روى الخياط رحمه الله «قبل عشرين عاماً أو تكاد – كنت وإياه في السيارة نقطع الطريق إلى الطائف للقاء مسئول هناك.. وبعد أن توقف الحديث قليلاً رحت أدندن بهذه الأبيات الشعرية
مر في تيهه وعز السلام *** وتنهدت لا اطيق الكلامَ
ورماني بلحظه ثم أغضى *** حين عاتبته فزدت هياما
قلت يا ناعس الجفون أمانا *** من تجنيك إذا أطلت الجهام
أما ترى الورد في خدودك بساما *** على موجة من النور عاما
ضاحكا كالصباح في بهجة العيد *** طروبا كأغنيات الندامى
لك روحي وفي يديك حياتي *** فارم باللحظ لست أخشى السهام

ورغم أن صوتي لا يصلح للغناء.. فقد اصطبر علي ولما انتهيت قال لي أتعرف أن أول من غنى لي من شعري هو المرحوم سعيد أبو خشبة قصيدة «رباه»، قلت لقد سمعت أبو خشبه وهو ينشد هذه الأبيات ولكني لم أكن أعرف أنك قائلها، قال هي من شعري.. وكمان أعرف أغنيها، أسمع ثم صدح بصوته:

ربَّاه كفارتي عن كل معصية *** أني أتيتُ وملء النفس إيمان

وهكذا مضى إلى أخر القصيدة.. وهو يغني بلحن ضارع أدركت من خلاله أنه يتقن اللحن بإجادة.. كما هو شاعر متفوق.. فسألته عن ذلك فقال أنا ملحن واسأل الفنان محمد عبده فلقد عرفته من أول الطريق.. ويشهد لي بأنني ملحن بارع وممتاز كمان …».

هذه ومضات من بعض الذكريات الجميلة التي جمعت بين الراحلين الأديب طاهر زمخشري والكاتب عبد الله عمر خياط رحمهما الله في فترات متفاوتة من موسم الحج واستمرت حية في ذاكرة الخياط طيلة السنوات بعد وفاة بابا طاهر.

وهذا ما التمسته منه حينما التقيت به عن قرب للمرة الأولى في أحد اجتماعات الجمعية العمومية لجمعية إبصار الخيرية التي دأب على حضورها. وعرفته بنفسي بأنني سبط بابا طاهر فرحب بي كل الترحيب ومن حينها ارتبطنا بعلاقة صداقة إنسانية وأدبية.

وخصني – رحمه الله – بعدد من المقالات في عاموده مع الفجر كان أخرها “رحلتي عبر السنين” الذي استهله بـقوله «.. هذا كتاب من تأليف الدكتور محمد توفيق بلو وقد أهداني نسخة منه بحكم معرفته بصداقتي لجده الشاعر الفذ طاهر زمخشري، أو بابا طاهر– رحمه الله – كما كنا نسميه؛ لأنه أول من قدم برنامج الأطفال عند بدايات افتتاح الإذاعة بالمملكة».

وختم مقاله «محمد توفيق بلو، ومن خلال هذه القراءة الممتعة لسيرة حياته في جزئها الأول، يحمل أولا وقبل أي شيء لقب إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معاني السمو والنبل والإحساس المفرط بالألم والفرح والحزن والرضا، والإصرار على التميز والنجاح مهما عظمت التحديات وتعثرت مسيرة الإنجاز، مع سلسلة الفقد الذي طالت حلقاته خلال تلك المسيرة الشاقة، بدءاً من فقدان والده، وجده (بابا طاهر)، وحتى فقدانه عمله مرتين عبر صدمتين موجعتين، مروراً بفقدانه بصره. لكن ظلت الابتسامة بالرغم من هذه السلسلة المؤلمة – لا تفارق محياه – ويكفي محمد توفيق بلو فخراً، أنه مؤسس جمعية (إبصار) التي تعتبر منجزاً وطنياً وإنسانياً وحضارياً بامتياز.

رحلة محمد توفيق بلو مازالت تبحر في البحر الأحمر الذي يعشقه، ولابد أن يسطر المزيد من الصفحات المضيئة في مسيرة حياته المثمرة إن شاء الله».

فرحم الله الفقيدين استاذنا عبد الله عمر خياط وصديقه الأديب طاهر زمخشري رحمه واسعه.

رابط المقال على صحيفة غرب الإخبارية

عدد المشاهدات 27