مرض التهاب الشبكية الصباغي الوراثي أو كما يعرف بالعشى الليلي هو أحد أمراض العيون المسببة للإعاقة البصرية. وهناك العديد ممن أصيبوا به استطاعوا التغلب عليه وعلى آثاره، وتكيفوا معه بقوة الإرادة والعزيمة والإصرار. فحولوه إلى نقطة قوة حققوا بموجبها إنجازات ملهمة استحقت التقدير العالمي. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر الكفيفة الألمانية صابري تنبيركين (Sabriye Tenberken) ذات الخمسين ربيعًا التي أبهرت العالم بإنجازاتها. ونالت العديد من الجوائز العالمية منها وسام فارس من ملكة هولندا 2003م. وأعلى وسام ألماني من الرئيس الألماني د.هورست كولر 2005م. فضلًا عن ترشيحها لجائزة نوبل للسلام في نفس العام تقديرًا لإنجازاتها الإنسانية والاجتماعية.
وفي عالمنا العربي أيضا نماذج ممن أصيبوا بهذا المرض وتغلبوا عليه وحققوا إنجازات تستحق تسليط الضوء عليها. منهم الرسامة إيمان إبراهيم عبد الغني السليماني، ابنة مكة المكرمة التي شُخصت في طفولتها بذات المرض. وأدى لضعف بصرها الشديد. ولكنها استطاعت ان تتغلب على الكثير من آثاره، وتحوله إلى نقطة قوة جعلتها ضمن قائمة فناني الرسم السعوديين. وأول معاقة بصريًا تشارك في أول مسابقة رسمية لأدب الأطفال في المملكة العربية السعودية «مسابقة بابا طاهر لأدب الأطفال».
وفي هذه السطور المضيئة. سأسلط الضوء على جانب من قصتها مع الإعاقة البصرية. ورحلتها من عالم فن الرسم بالفحم إلى تأليف قصص الأطفال ضمن سلسلة حلقات. ابدأها بتناول قصة طفولتها منذ اكتشاف الحالة وصولًا إلى حرمانها من مواصلة التحصيل العلمي كبقية اقرانها من الأطفال.
لمحة تاريخية
تقول إيمان.. وُلدت بمكة المكرمة في (1984/02/22م) من أبوين سعوديين أبناء عمومه. وأنا رابع اخوتي وأصغرهم، وكان والدي – رحمه الله- من أشهر صائغي الذهب بمكة المكرمة.
كنت كثيرة الاصطدام بالأشياء والسقوط على الأرض، دون أن أدرك أي سبب لذلك. وكان كل من حولي يعتقدون بأن الأمر طبيعي وذلك لصغر سني وأني ما زلت اتعلم المشي. ولكثرة اصطداماتي والحوادث التي اتعرض لها أصبحت قليلة الحركة وأخاف الجري واللعب كعامة الأطفال.
وحينما بلغت سن المدرسة في العام 1991م أخذتني والدتي إلى الوحدة الصحية المدرسية للفحص الطبي حسب الإجراءات المطلوبة للالتحاق بالمدرسة. فأجلستني الطبيبة على الكرسي لاختبار النظر، واظهر فحصها بأني سليمة وقوة نظري 6/6. فالتحقت بالمدرسة الابتدائية (الرابعة والستون). وفي أول يوم دراسي رافقتني والدتي إلى المدرسة التي كانت بيئتها جديدة وغريبة عليَّ فشعرت بخوف شديد. وما أن تهيأت والدتي للمغادرة، حتى صرخت باكية وتشبثت بها إما أن تبقى معي أو أن أغادر معها.
حاولت والدتي والمعلمة تهدئتي واسكاتي، وارضائي بالجلوس في الفصل مع باقي الأطفال. ولكني استمريت في بكائي وتشبثي بوالدتي مصرة على المغادرة معها. فاضطرت في نهاية الأمر إلى البقاء معي حتى نهاية ذلك اليوم.
وعلى ضوء تكرر الأمر. في تالي الأيام طلبت والدتي من الإدارة السماح لها بمرافقتي ريثما اتأقلم مع المدرسة. فوافقت المديرة على ذلك. شريطة أن تبقى والدتي في المصلى أثناء الحصص، وترافقني في الفسحة.. وهكذا كانت بداية مسيرتي التعليمية في المدرسة.
اكتشاف إصابتي بالتهاب الشبكية الصباغي
في تلك الاثناء؛ لاحظت معلمتي كثرة اصطدامي بالأشياء من حولي. وعدم قدرتي على رؤية ما هو مكتوب على السبورة. وتقريب وجهي كثيرًا على كتبي المدرسية. لعدم قدرتي على قراءتها. فأبلغت والدتي بذلك. واتفقت معها على إجلاسي في الصف الأول. لتمكيني من رؤية ما يكتب على السبورة. ولكن تطاير غبار الطباشير سبب لي حساسية في العين. فاضطرت المعلمة لنقلي مرة أخرى إلى مكان بعيد عن السبورة. فقضيت باقي أيام الدراسة دون أن أستطيع رؤية ما يكتب عليها.
في غضون؛ ذلك أخذتني والدتي لعيادة عيون. فشخصني الطبيب بأني مصابة بمرض التهاب الشبكية الصباغي الوراثي، ورأرأة في العين. وأفاد بأنها حالة وراثية غير قابلة للعلاج. ووصف لي نظارة طبية، ونصح بمراجعتي لمستشفى الملك خالد التخصصي للعيون بالرياض، والكشف على باقي اخوتي. ووعد بأنه سيستشير أطباء أصدقاء له في اسبانيا وبريطانيا بشأن حالتي.
وبناء على توصيته راجعنا مستشفى الملك خالد التخصصي للعيون بالرياض في صيف العام 1992م. خلالها خضعت لإجراءات وفحوصات طويلة ومعقدة، من قبل فريق طبي كانت ترأسهم طبيبة أمريكية. تحلقوا حولي وهم يناقشون حالتي.. فأصبت بخوف وذعر شديد. وبصعوبة بالغة تمكنوا من اجراء كافة الفحوصات اللازمة بسبب بكائي وخوفي الشديد. وبنهاية الفحص خلصوا إلى نتيجة مفادها تأكيد إصابتي بالتهاب الشبكية الصباغي، ورأرأة العين. وابلغوا والديَّ بالنتيجة وان الحالة غير قابلة للعلاج. ويتوقع أن أصاب بالعمى في الـ 20 من عمري، واوصوا بالمتابعة الدورية، ووصفوا لي نظارات مكبرة وتلسكوب استلمتهما ولم اتدرب على استخدامهما. صدم والديَّ وسلما بالأمر الواقع، وهم على غير قناعة بأن حالتي غير قابلة للعلاج.
عدنا إلى مكة المكرمة؛ وأفهمت والدتي أخوتي بحالتي، وطلبت منهم عدم التعامل مع حالتي بشفقة أو السخرية منها. وحمايتي من أي مضايقات لفظية أو معنوية قد أتعرض لها من أقراني.
حاولت استخدام النظارة والتلسكوب، لكنهما كانا ثقيلين ومزعجين فتركتهما. ولم أحاول استخدامهما مرة أخرى. وكان على والدتي تحمل ردود فعل أقاربنا التي تباينت ما بين الدعاء لي بالشفاء أو البكاء على حالتي والشفقة عليًّ. واستمرينا في متابعة حالتي بمراجعة دورية لمستشفى الملك خالد التخصصي للعيون بالرياض وعيادة العيون بمكة المكرمة. وأظهرت النتائج بأن الحالة مستقرة، وعليَّ التعايش والتكيف معها.
معاناتنا المدرسية
في غضون؛ ذلك كانت دراستي بمثابة معاناة كبيرة على مدى عامين. خصوصًا لوالدتي التي كانت تضطر للذهاب إلى المكتبة يوميًا لتصوير صفحات كتبي وتكبيرها حتى أستطيع قراءتها. كذلك مرافقتي إلى المدرسة يوميًا وتحمل جرح مشاعرها من قبل أقراني الأطفال. الذين كانوا لا يتوقفون عن سؤالها “هل بنتك عميا؟”. “ليه ما تشوف الكتابة؟”. “ليه تقرب وجهها من الورقة؟”. “ليه ما تقدر تشوفنا؟”. “ليه عيونها تتحرك يمين ويسار؟”
لقد جعلتني تلك الأسئلة أكرههم وابتعد عنهم. وأكره اللعب معهم. فلم أكن أعلم برأرأة عيناي وأنها تتحرك يمنه ويسرة دون إرادتي. وأن شكلها ملفت للانتباه ومثير لفضول الآخرين. فأصبحت وحيدة ومنعزلة في فصلي. فقط أجالس زميلات شقيقتي التي كانت تكبرني بأربعة سنوات. كان من بينهن صديقة لها أخت صغيرة في فصلي ترتدي نظارة طبية فتقاربنا وأصبحت صديقتي الوحيدة في الفصل. وصارت والدتي تعاملها كابنتها فتحضر لها معي ساندويتشات ومشروبات يوميًا. فأصبح لي صديقة ألعب معها واستمتع بوقتي في المدرسة إلى أن جاء يوم غير كل شيء..
ففي أحد الأيام بينما كنا في الفصل نتابع دروسنا كالمعتاد. وإذا بباب الفصل يفتح بعنف أرعبنا وأصابنا بالذعر. وإذا بها أم صديقتي تدخل الفصل في حاله غضب وهياج. صارخة في وجه معلمتي ومتهجمة عليها بألفاظ غير لائقة قائلة: “كيف تُجلسي بنتي جنب هذه البنت. ما تشوفي عيونها موحشة وضارة ومعدية لبنتي”.
ثم غادرت الفصل وهي على تلك الحالة الجنونية مسارعة خطاها نحو المصلى حيث والدتي تنتظرني كالمعتاد. فصرخت في وجهها قائلة: “ما أبغاك انتِ ولا بنتك تقربوا من بنتي نهائيًا. لأنكم خربتوها عليا، كل يوم تقولي “ليه يا ماما ما تجي المدرسة وتجلسي معايا وتسوي لي سندوتشات زي أم إيمان”.
ثم واصلت في هياجها وغضبها متوجهة إلى فصل شقيقتي. وفتحت الباب دون أي اعتبار للمعلمة والطالبات. وصرخت في وجه شقيقتي قائلة: “لا أشوفك تجلسي مع بناتي نهائيًا”. واستمرت في ذلك الهياج وتوجهت الى مكتب المديرة وفتحت عليها الباب. وقالت لها وهي تصرخ: “سأشتكيكم إلى مكتب الاشراف والتوجيه وإلى كل المسئولين.. عشانها بنت عبد الغني الصايغ خليتوها تضر بنتي وما سويتوا لها شي”.
ثم أخذت ابنتيها وغادرت المدرسة وهي تتوعد بانها ستشتكيهم في كل مكان. كان يومًا عصيبًا لن أنساه، ففيه فقدت صديقتي الوحيدة. وتألمنا جميعًا من فعل أمها التي جرحت مشاعرنا وأرهبت المدرسة وأثارت الخوف بين الأطفال بصراخها.
وبنهاية ذلك العام الدراسي؛ أبلغت المديرة والدتي بضرورة إحالتي للقسم الداخلي في معهد النور للكفيفات بجدة. حيث لم يكن بمكة المكرمة آنذاك أي مرفق تعليمي للكفيفات أو لضعفاء البصر. فرفض والديَّ ذلك الأمر جملة وتفصيلا وقررا مواصلة تعليمي في المنزل مع والدتي. ومن حينها أسدل الستار على استمرارية تحصيلي التعليمي المدرسي كنتيجة مباشرة لحالتي البصرية.
لقد سلطت قصة إيمان الضوء على قضية تعليم الأطفال ضعفاء البصر وحرمان بعضهم منه. والحمد لله؛ إنه في أيامنا هذه قد انتشرت معاهد وفصول النور في شتى مدن عالمنا العربي. وحدت من حرمان الأطفال ذوي الإعاقة البصرية من فرص التعلم. بعد ان شكل التحصيل الدراسي لذوي الإعاقة البصرية تحدٍ كبير في العديد من المجتمعات النامية في السنوات الماضية. الذي كانت الكفيفة الألمانية صابري تنبيركين. التي ذكرتها في مقدمة قصتنا من أوائل من تصدى لهذه القضية بمنظمتها «برايل بلا حدود». حينما كانت أول من أسس مدارس للأطفال المكفوفين في بلاد التبت.
وقد كنت من المحظوظين الذين انظموا معها في الحملة العالمية التي انطلقت رسميًا في 16 يوليو 2006م. من كوالالمبور بماليزيا لإيصال التعليم إلى 4 مليون طفل معوق بصريًا حول العالم كانوا محرومين منه. ضمن حملة دولية بقيادة المجلس الدولي لتهيئة فرص التعليم لذوي الإعاقة البصرية (ICEVI) مع الاتحاد الدولي للمكفوفين. من مبدأ تحقيق تكافؤ الفرص للجميع. بعنوان (توفير فرص التعليم للمعوقين بصريًا من الأطفال ذكورًا واناثًا في الدول النامية).
ورجائي ألا يكون في أيامنا هذه طفل من ذوي الإعاقة البصرية. في إي مكان في العالم ليس لديه فرصة الوصول للتعليم بسبب إعاقته البصرية. وألا تتكرر تجربة حرمان إيمان من التعليم مع أي طفل معاق بصريًا..
وعلى أي حال؛ سأتابع في الجزء التالي قصة إيمان مع التعليم المنزلي. وأهم التحديات والصعوبات التي واجهتها مع التهاب الشبكية الصباغي. وكيف استطاعت مع والدتها التغلب عليه.
الرابط المختصر لهذا المقال:
أحبائي….
أبنائي وبناتي….
كل التحية والتقدير للكاتب الكبير…
وتحية لابنتنا صاحبة الإرادة القوية واليد الحرير….
نحن نعيش في هذه الدنيا القصيرة مرحلة اختبار الضمير…..
الذين يعملون الصالحات والخيرات سيفوزون بجنة الله القدير….
أحبائي….
دعوة محبة…..
أدعو سيادتكم إلى حسن التعليق وآدابه….واحترام البعض للبعض….
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض…..
نشر هذه الثقافة بين كافة البشر هو على الأسوياء الأنقياء واجب وفرض…..
جمال بركات…..رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة
بارك الله في عمرك حبيبتي ايمان وعوضك الله
خيرا وجعل تعبك وجهدك في تفوقك وموهبتك
في ميزان حسناتك وحسنات والديك الكرام
واخواتك الفضليات وربي يسعدك ويسعد قلبك
الطيب الحنون
قصة كفاح جميله وإصرار على النجاح أجمل بعزيمة قوية لا تنبع إلا من قلب قوي وشجاع وإصرار لإثبات الذات مع كل العراقيل وهذا يقودني إلى اقتراح لأستاذنا توفيق بلو بعمل مسابقة لأصحاب الهمم العالية و ذوي الاحتياجات لإخراج الكنوز والجواهر من داخلهم ومساعدتهم لإثبات نفسهم ونجاحهم وله مني جزيل الشكر و العرفان ويا حبذا أن تكون باسم وتاريخ بابا طاهر الفني بما أنه رمز لفن وأدب الأطفال
أرجو من الله ألا يحرمك الأجر وينير بصرك وبصيرتك
ويسخر لك الطيبين من البشر كأمثال الأستاذ محمد بلو
جزاه الله خير الجزاء ?