Share

بعد انقطاع دام نحو 9 أشهر عن أخبار الزميلة الصحفية مها عواودة (مراسلة إذاعتي الرياض وجدة وصحيفة البلاد السعودية سابقًا). منذ نشري لقصتها في زاوية دردشات الصومعة بعنوان «مها عواودة.. معاناة صحفية في لهيب غزة» بعد أن حالت ظروف الحرب الوصول إلى أي معلومة عنها.

وصلتني منها رسالة يوم الأربعاء 03 أكتوبر برابط على منصة X تنعى فيها والدها بقولها “والدي.. شهيدًا رحمة الله عليك يا حبيبي”.

وفور استلامي لرسالتها تواصلت معها عبر الواتساب ومنصة X لتعزيتها والاطمئنان عليها والوقوف على ما آل إليه حالهم، وبصعوبة فائقة لظروف الحرب تمكنت من الرد على رسائلي على مدى 3 أيام من داخل خيمة من البلاستيك وصفتها بأنها لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء بادئة بشكري على التعزية والسؤال عنها والإجابة على تساؤلاتي بقولها:

بعد تدمير بيتي بفعل القصف الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023م نزحت وعائلتي ١٣ مرة من مكان إلى مكان، وأصبحنا في العراء، والآن أنا وأطفالي ووالدتي نعيش داخل خيمة وسط قطاع غزة لا تتجاوز ٢٠ مترًا من أكياس رقيقة لا تحمي من حر الصيف ولا برد ومطر الشتاء فهي حارة جدًا صيفا باردة جدُا شتاء، وبداخلها الحمام ما يجعلها أشبه بزريبة الحيوانات! وبها حشرات وفئران حتى أنه في إحدى الليالي تعرض أحد أطفالي لعضه فأر.

جانب من الخيمة البلاستيكية التي تسكن فيها الزميلة مها عواودة
جانب من الخيمة البلاستيكية التي تسكن فيها الزميلة مها عواودة

ونسمع الكثير من القصص من خيام لجيران لنا أن أطفالهم تعرضوا للسعات حشرات سببت لهم احمرارًا وحكة، ولا يوجد لهم علاج في المستشفيات. فالمخيمات بجانبها الصرف الصحي والقمائم تراكمت حول الخيام حتى أصبحت كجبل من النفايات ومرتعًا للحشرات والفئران.

صورة تظهر حالة التلوث البيئي للمخيم بسبب مياه الصرف الصحي
صورة تظهر حالة التلوث البيئي للمخيم بسبب مياه الصرف الصحي

وما يحزنني أن أطفالي انقطعوا عن الدراسة تماما منذ بدء العدوان -كبقية طلاب قطاع غزة- ودخل العام الدراسي الجديد ولا يزالون محرومين من الدراسة، وما يؤلمني أكثر هو أنه عندما يمرض أحدهم أجد نفسي عاجزة أمام وجعهم بسبب غياب العلاج في المستشفيات وحتى من الصيدليات. فأبكي في داخلي وتسيل دموعي حزنًا وألمًا.

وما يزيد على ذلك هو أن عجلة يومي تبدأ -كل صباح- مع صراخ الأطفال في الخيام المجاورة وهم يبحثون عن طعام ليأكلوه، بالإضافة إلى رحلة البحث عن المياه المالحة للغسيل والجلي والمياه الحلوة للشرب، وكلا النوعين لا يصلح للاستهلاك الآدمي فقد عملت قوات الاحتلال الإسرائيلي على تدمير معظم آبار المياه وتفجيرها وتلويث ما تبقى منها بفعل القنابل والأسلحة المحرمة دوليًا.

يضاف إلى ذلك رحلة البحث عن شبكات الإنترنت التي تعمد الاحتلال قصفها واستهدافها الأمر الذي حال دون تواصلنا مع الأهل والأقارب والزملاء خارج قطاع غزة، وكذلك حرم أطفالنا من التعليم حتى عبر الإنترنت وحضور دروس تعليمية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وذلك بسياسة ممنهجة اتبعها الاحتلال في عدوانه على غزة وهي تدمير المدارس والجامعات الفلسطينية.

وكل ما أراه من حولي هو الجيران والنازحون القريبون من خيمتنا وقد بدت عليهم علامات التعب والشحوب والإرهاق والكلل والممل والخوف مما هو آت..

والآن بعد مرور عام من بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أصبح جميع سكان القطاع يعيشون أزمات إنسانية وبيئية غير مسبوقة، حيث أسفر العدوان عن تدمير واسع للبنية التحتية، ما تسبب في الاكتظاظ السكاني في خيام ومراكز النزوح، وتراكم القمامة بجوارها، وشح كبير في المياه والمواد الغذائية حيث أصبحت الخضار والفواكه نادرة وأن وجدت أسعارها مضاعفة ١٠ أضعاف وأكثر عن السعر الأصلي في أيام قبل الحرب، أما اللحوم فشبه منعدمة وإن توفرت فهي تكون باهظة الثمن، هذا عدا التلوث الكبير في الأغذية وفسادها.

أضف إلى ذلك النقص الحاد في مواد التنظيف والمعقمات حيث تمنع قوات الاحتلال دخولها فأصبحت الكثير من الأسر تكتفي بغسل ملابسها بالمياه فقط بسبب عدم توفرها أو ارتفاع أسعارها بشكل جنوني.. مما دفع بعض الشباب إلى صنع صابون محلي (رديء جدًا) للغسيل أو استخدامه كشامبو كما يقول المثل (ريحة البُر ولا عدمه).

أما عن النظافة الشخصية فقد لجأ الكثير من النازحين إلى حلاقة شعورهم للحد من انتشار القمل بين الأطفال والكبار (رجال ونساء). وتفشي الأمراض والأوبئة بينهم.

والملابس والأحذية فهي غير متوفرة في الأسواق وان توفرت فأسعارها أيضًا ١٠ أضعاف السعر الأصلي. فأصبحنا عراة حفاة.

والأدهى والأمر هو انقطاع الكهرباء -بشكل كامل- منذ بدء العدوان الإسرائيلي بعد أن تم قصف محطة توليد الكهرباء بشكل متعمد في ظل عدم وجود أي مصدر بديل للكهرباء في القطاع والمستشفيات تعتمد على المولدات الخاصة التي تعمل بالوقود الذي يدخل من المعابر بكميات محدودة ما يضطرهم إلى إيقاف بعض الأقسام لتوفير الطاقة مما يتسبب في خطورة على الأطفال والمرضى والجرحى الموجودين في العناية المركزة.

والأسوأ من ذلك كله هو الفوضى العارمة والانفلات الأمني اللذان أصبحا يهددان أمن المجتمع في قطاع غزة بصفة عامة، فقد انتشر المجرمون الذين كانوا داخل السجون بتهم جنائية، فأصبحت سرقة السيارات والجوالات والمحافظ تحت تهديد السلاح منتشرة في الشوارع، والقتل وسط الأسواق وبين الخيام في ارتفاع وبصور بشعة.. 

فبتنا نخاف على أنفسنا وأطفالنا من هذه الشرذمة الضالة وجرائمها البشعة أكثر من خوفنا من الحرب والقصف والغارات والاستهداف لتجمعات الفلسطينيين والمارة في الطرقات..

لقد مضى عام كامل من المعاناة وألم الفقد، بداية بفقد البيت مروراً بفقد الأحبة والأقارب، وعلى رأسهم والدي محمود أحمد العواودة -رحمه الله- وأسكنه فسيح جناته، الذي أصيب في الـ ٢٠ من يوليو الماضي بشظية في الظهر وجروح باليد اليمنى في قصف مدفعي إسرائيلي استهدف مخيم البريج وسط القطاع، وللأسف الشديد بسبب سوء الأوضاع الصحية داخل المستشفيات وغياب الكوادر الطبية، تدهورت حالته حتى أصيب بحمى أدخلته في غيبوبة في الـ 6 من سبتمبر، إلى أن وافته المنية فجر يوم الثلاثاء ٢٤ سبتمبر. ولكن لا أقول في مصابي الأليم هذا، إلا ما يرضي الله (إنا لله وإنا إليه راجعون) وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرحم أبي ويغفر له ويسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا..

لقد تأثرت كثيرًا وأنا أقرأ رسائل الزميلة مها عواودة التي نقلت جانبًا من المعاناة الإنسانية العميقة التي يعيشها أهالي غزة في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر، حيث لا مأوى آمن، ولا تعليم، ولا علاج، وسط تردي الأوضاع الإنسانية وتفاقم الأزمات البيئية والصحية.

وفي هذا السياق أذكر زميلاتنا مها عواودة بقوله تعالى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} وأسأل الله لها ولأسرتها ولجميع أهالي غزة النجاة والسلامة وأن يفرج عنهم هذا الكرب العظيم وينصرهم على أعدائهم من الظالمين..

ولا أجد أفضل من أن أختم به دردشتي هذه إلا إعادة نشر أبيات من قصيدة «في الخيام» للأديب طاهر زمخشري -رحمه الله- التي نظمها في أعقاب نكبة (1948م).

الجوعُ يصرُخ فــي البطـونْ        والجَرح ينــزف في العيــونْ

واليتــم حاضَنــــــه البنـــــونْ          والبؤس يقتحم الحصــــونْ

والناس تُشـــوى فــي أتونْ          وبكـــــــل أرض لاجئــــــونْ

فالطفل يصرُخ أين أمي..؟!      والأم تهتــــــــــــف يا لَهَميِّ

***

فوق الدروبِ ، وفي الصحارى ، في مغاراتِ السفوحْ

ثَكلــــــــى يمزِّقهــــــا المخــــاض ، ولا تَئِنُّ ولا تبـــــــوحْ

وبكفهـا طفــــلٌ رضيــــــــعٌ ، والثُّديُّ بهـــــــا قُـــــــروح

يبغــي الغِــــذاء ولا غـذاءَ ســـــوى نَفَـــــايات الجـــروح

وأمامهــــا الصبيـــــــــانُ ضَمَتْ من هياكلهم ضُـروح

أغوارُه شُعــــــــل اللهيب ونَفْـثُ هاجــــرهٍ تنــــــــوح

***

لــــم يبـق من زادٍ يُقـــــــات به الأرامــــــل والعــــــيال

وهــمُ عُــــراةٌ يزحفـــــــون من التوجُّــــــع والكَـــــــلال

أجسادهم قِطَـــعٌ لأشــــــلاء تفيــــض بهـــا الرمــال

وعلى شفاههُم اصفــرارُ المـــوت خلَّفــــه السُّــلال

ويتمتمون بِبَحَّةِ المخنــــوق يأمــــل فـــــــي النــــــوال

***

حتـــى المـــروجُ الخضر أجدبَ عُشبُها الزاهي النظيرْ

وتواثبتْ فيهــــا الأفاعـــــي الزاحفــــاتُ مع الهجيـــر

والأُفعوان الفحـــل فـــي شَدِقَيْه زَمْجَـــرةُ السعيــر

فتراكض الرعيــــانُ عن مرعَـــى المواشي ، والغــدير

وتسابقـــــوا والغانيـــــــاتُ لحيثُ يلقـــون المصـــــير

حيث الخيـــــــــامُ الباليــــــــــاتُ وللبــــــــــلاء بها هــدير

***

وَرصـــــاصُ أفَّاكين يهطـــل فوق أدمغةِ العـــذارَى

قــد أطلقــــــوا بالغــــــــدر وَابِلَـــــه، وظنُّـــــوه انتصارا

لم ينسفـــــــــوا بأتونــــــــه إلا الحرَائِـــــر والصغـــــــــارا

والكهـــــــلَ تحملــــه عصـــاه وقد تقوَّس حين سارا

والمرضعـــــاتِ الآمنـــــاتِ مــــع العشيِّ لَـــزِمْنَ دارا

الرابط المختصر لهذا المقال:

عدد المشاهدات 112
Share