Share

وصلتني رسالة على جوالي من مجموعة «إحنا نقدر التطوعية» نصها «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،، اعذروني سأغادر القروب، لان حالتي المرضية التي اصابتني فجأة لا تسمح باستخدام الجوال، وأطلب منكم السماح… لإني ساجري عملية مستعجله لأن حالتي لا تتحمل التأخير لأن الخلايا السرطانية انتشرت فجأة، دعواتكم لي بالشفاء في هذا الشهر الفضيل. دعواتكم .. دعواتكم .. دعواتكم.. اختكم ام عبد الله وعلاء»
صاحبة هذه الرسالة مواطنة من نجوم «حديقة الإرادة لذوي الإعاقة بجدة» وبمثابة أم لجميع روادها، اضطرت للانسحاب والتوقف عن نشاطاتها بعد إصابتها بسرطان البنكرياس وانتشاره في جسمها، فهي أم لشابين مصابين منذ الولادة بإعاقة حركية مصحوبة بإعاقة ذهنية وبكم، أكبرهم عبد الله 34 عام وعمره الذهني 3 سنوات، وعلاء 30 عام وعمره الذهني 5 سنوات، وكان لها ابنه «عهد» مصابة بنفس الحالة توفيت في قصة مأسوية قبل 17 عاماً وهي في السادسة عشرة من عمرها حينما كانت تلعب وإخوتها كالمعتاد مع والدهم حول المسبح المنزلي الذي صمم خصيصاً لحالتهم فأذن الظهر وقام الأب ليتوضأ في الحوض المجاور للمسبح، وفي لمح البصر تحركت «عهد» بكرسيها المتحرك نحو المسبح فوقعت فيه ولم تعرف هي وإخوتها كيف يتصرفون بحكم حالتهم الذهنية والحركية، فهرع الأب محاولاً إنقاذ ابنته إلا أن القدر كان أسرع منه فماتت غرقاً، وأصيب الأب بصدمة نفسية من هول ذلك الموقف على اثره مرض وتوفي قهراً بعد ثمانية أشهر من الحادث، تاركاً خلفه أم عبد الله وولديها التي استطاعت بعون الله ومساعدة خادمتها وسائقها الخاص مواصلة رعايتهم بعزيمة وإصرار، وسخرت كل وقتها وجهدها لرعايتهم على أكمل وجه وإظهارهم في أبهى صورة، مهتمة بأدق التفاصيل مثل أخذهم للحلاق وقص وتصفيف شعرهم، شراء أفضل وأحدث الملابس والعطور لهم وأخذهم معها في المناسبات، حتى أنه في أحد الأيام وهي مغادرة معهم من صلاة العيد شاهدها أحد المصلين فسألها عنهم؟ قالت هؤلاء أولادي وهم مصابين بإعاقة حركية وذهنية ولا يتكلمون احضرتهم معي للاحتفال بالعيد، فبكى الرجل وقال لها والله لدي ابن بإعاقة حركية فقط ولم أخرج به يوماً من البيت…
ومع افتتاح أمانة جدة لأول حديقة مهيأة ومصممة لذوي الإعاقة كانت وابنيها من أوائل روادها وكان رواد الحديقة من ذوي الإعاقة وأسرهم يدهشون ويعجبون بقوتها وعزيمتها وافتخارها بولديها وبمرور الأيام أصبحت صديقة الجميع والأم الملهمة لهم ونجمة الحديقة التي تكون فيها فريق رياضي لكرة السلة لذوي الإعاقة الحركية، وبينما كان الفريق يلعب في أحد الأيام كان علاء يجلس إلى جانب والدته ويحدق النظر في الكرة بطريقة لفتت انتباه رئيس الفريق الأستاذ «حسين عقيلي» فسأل لماذا لا يلعب معهم فأجابه المدرب أن حالته صعبة ولا أعرف كيف أتعامل معه، فما كان من عقيلي إلا أن أشترى في اليوم التالي برج سلة للأطفال وكرة صغيرة وأحضرها إلى الحديقة وطلب من المدرب تدريب علاء على مسكها ورميها في البرج، وبمرور الأيام تمكن علاء من مسك الكرة ورميها تجاه البرج حتى أصاب الهدف فصفق له الحضور فابتهج وابتسم لهم لأول مرة منذ ارتياده للحديقة فأصبح الجميع ينادونه بالكابتن علاء فيبادلهم بالابتسامة والابتهاج، وقامت والدته في اليوم التالي بإحضار ذبيحة والاحتفال مع الحضور بإنجاز علاء، وأعجب الجميع بهذه الأمومة إذ روت صديقتها المقربة الأستاذة «هابة شاوش» «تعلمت هذا الدرس العظيم من ماما حسناء أم عبدالله وعلاء. فقد عرفتها قبل 4سنوات عند تأسيس فريقنا لحديقة الإرادة لذوي الإعاقة… لجذب النساء والأمهات من ذوي الإعاقة وأبنائهن.. وبتوفيق الله تأسس الفريق رغم ما واجهنا من الصعوبات ومحاولة تفكيك الفريق، وكانت هي أكثرنا صموداً إلى أن من الله علينا وزاد العدد وأصبحنا أسرة واحدة.. وقد علمتنا هي وأبنائها دروس كثيرة في الحياة بفخرها بهم والمشاركة في كثير من المناسبات وممارسة حياتهم كأسرة لا ينقصها شيء.. ولم أعرفها إلا حامدة شاكرة صابره ولم تشتكي أبدا من ظروفها.. سألتها مره أنت مختلفة لا أراك تخشين الموت قبل أبناءك مثل البعض من الأمهات يردن أن يموت أبنائهم من ذوي الإعاقة قبلهم بحجة من يرعاهم؟ ردت باطمئنان عجيب “كن مع الله ولا تبالي.. لي ولهم الله، وما يكتبه الله راضية به، وهو خير، وهو مقدر لي ولأبنائي، هذه هي الحياة..”».
هذا ملخص قصة أم عبد الله التي اعتبرها أقوى قصة إنسانية مررت بها خلال الشهر الكريم وتستحق منا أن نلبي طلبها الوحيد بالدعاء لها بالشفاء فلك أن تتخيل حجم المسئولية التي تحملتها على مدى أكثر من 30 عاماً من إطعام وإلباس ورعاية صحية لأبنائها…الخ وما استجد عليها من آلام مرض السرطان، فأدعو الله لها في هذه الليالي المباركات بالشفاء العاجل وأن ينعم عليها بالصحة والعافية لتواصل رعاية ابنيها ومشاركة أسرة حديقة الإرادة وفريق إحنا نقدر في مسئولياتهم نحو المجتمع، وأذكر من يواجه مصاعب أو مشاكل في حياته بأن يقيسها على قصة «أم عبد الله» فإن كانت مماثلة أو أشد فليأخذ بقولها «كن مع الله ولا تبالي» وإن كانت أقل فليحمد الله على ما هو فيه ويعمل ما بوسعه لتجاوز المشكلة.
وأدعو هيئة رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة أن تأخذ في عين الاعتبار حالات الإعاقات الشديدة المركبة كأولوية عاجلة للتعامل معها ضمن خططهم وبرامجهم، فغالبية الأسر من أصحاب الحالات المشابهة هم من المتعففين الذي لا يسألون الناس إلحافا.

نشر هذا المقال على صحيفة غرب الإخبارية في 2019/05/28م

الرابط المختصر لهذا المقال:

عدد المشاهدات 25
Share