Share

«اخترت الصحافة كي أكون قريبة من الإنسان. ليس سهلا ربما أن أغير الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم». هذه المقولة التي بثتها قناة الجزيرة في أكتوبر 2021 بمناسبة الاحتفال بذكرى تأسيسها الـ 25. لصاحبة القصص الإخبارية الإنسانية المتميزة «شيرين أبو عاقلة»، مراسلتها بفلسطين والأراضي المحتلة.

وبالفعل جسدت «شيرين» ذلك المعنى. بإيصالها لصوت أحد المهجّرين من قرية الرويس بمنطقة الأغوار المحتلة عام 1948م إلى العالم رغم وفاتها. عبر تقرير مصور أعدته قبل وفاتها بيومين. ليبث بالتزامن مع ذكرى النكبة (15 مايو 1948م). التي طرد فيها الشعب الفلسطيني من بيته وأرضه وخسر وطنه، لصالح إقامة الدولة اليهودية «إسرائيل». واندلاع حرب 48 بين جيوش الدول العربية والمليشيات الصهيونية التي انتهت بهزيمة الجيوش العربية.

وقد ظهرت «شيرين» في ذلك التقرير وهي ترافق ذلك المهجر المسن في رحلة عاد فيها بذاكرته لـ 74 عامًا. منذ أن كان في الحادية عشرة من عمره. رسم من خلالها صورة لوضع قريته وظروف تهجير أهلها. ورغم أن عمره الذي اقترب حاليًا من التسعين فإن الذاكرة لم تخنه وذكر تفاصيل المكان وما كان.

وكان من المفترض أن تتابع «شيرين» تقريرها يوم بثه على الشاشة كما يفعل عامة المراسلين الصحفيين. ولكن اغتيالها من قبل أحد الجنود الإسرائيليين برصاصة غادرة بدم بارد بهدف إسكات صوتها حرمها من ذلك. بيد أن صوتها وما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة دوى عاليًا فوصل إلى كافة أرجاء العالم. على عكس ما كانت تبتغيه القوة الغادرة المنفذة لجريمة الاغتيال. فأصبحت رمزًا وصورة ناطقة للإعلام الحر المدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني. وعطل المخططات التي كانت تزمع قوات الاحتلال القيام بها في مخيم جنين.

ففي تمام الساعة 6:43 من فجر يوم الأربعاء 11 مايو 2022م. انتقلت «شيرين» مع زملائها من طاقم عمل قناة الجزيرة إلى مخيم جنين. مرتدين السترات والخوذات الواقية حسب دليل السلامة للصحفيين في المناطق الخطرة بهدف تغطية عزم قوات الاحتلال الإسرائيلي اقتحام المخيم. فأخذت موقعها مع فريق العمل وعدد من الصحفيين الاخرين عند شجرة تعرف بـ (شجرة الصحافة). نسبة لاعتياد الصحفيين بالتجمع عندها كلما أرادوا تغطية أي أحداث أو اشتباكات تدور بين سكان المخيم والجنود الإسرائيليين.

وما أن تهيأت للبث المباشر. حتى سمعت طلقات نارية وفجعت بإصابة زميلها المنتج الإخباري «علي سمودي». فصرخت بلهجتها العامية المقدسية «علي اتصوب». ثم فجع زملائها بسقوطها ارضًا على وجهها غارقة في دمائها إثر إصابتها بطلق ناري. فدب الذعر بينهم وأصيبوا بالذهول والصدمة من هول المشهد. إذ استمر إطلاق النار صوبهم لنحو 3 دقائق وفق رواية شهود العيان. من بينهم زميلتها الصحفيّة شذا حنايشة التي كانت تجلس بجوارها.

وحاول زملائها جاهدين إنقاذها بنقلها إلى مستشفى ابن سينا التخصّصي حيث أُعلن عن وفاتها نتيجة إصابتها برصاصة متفجرة اخترقت رأسها. وتبين لاحقا أن مطلقي النار هم وحدة الاغتيالات الإسرائيلية «دوفدفان».

ومن حينها انشغل العالم والرأي العام العالمي بتلك الجريمة بعد أن نقلت قناة الجزيرة ووسائل الاعلام الإقليمية والعالمية خبر اغتيالها. الذي صُدم به عموم الصحفيين والمراسلين بوكالات الانباء العالمية. الذين نقلوا وتابعوا مجريات الحدث عبر تغطية مباشرة مفتوحة تراجعت على إثرها أخبار مجريات الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا.

وقد أدانت معظم الدول والمنظمات الدولية حادثة الاغتيال باشد العبارات. بما في ذلك هيئة الصحفيين السعوديين. التي أكدت على أن تلك الجريمة تأتي امتدادا لاستهداف قوات الاحتلال للإعلاميين الذين ينقلون الأحداث الواقعية على الأرض الفلسطينية. للحيلولة دون إيصال الحقائق للرأي العام. وطالبت الهيئة المنظمات الإعلامية الدولية بمناصرة ومساندة الشعب الفلسطيني. وإصدار بيانات إدانة بهذه الجريمة والضغط على الإسرائيليين لمنعهم من الاستهداف الممنهج للأبرياء في فلسطين. ونقلت تعازيها إلى أسرة شيرين أبو عاقلة وجميع الإعلاميين الفلسطينيين.

وقالت المتحدثة باسم اليونيسيف في الشرق الأوسط «جولييت توما». في تغريدة لها: «وداعاً صديقتي. وداعا يا صوت فلسطين وشكراً جزيلاً على الشجاعة والموضوعية والمهنية الصحفية سوف نفتقدك جداً ارقدي بسلام. الراحة الأبدية لك».

كما طالبت العديد من الحكومات والمنظمات الدولية بإجراء تحقيق مستقل ومعاقبة المسؤولين عن الحادثة. واستنكرت التعامل الإسرائيلي الوحشي مع المشيعين يوم دفن الجثمان الجمعة 13 مايو 2022م. حيث دفنت بمدينةِ القدس المحتلة مسقط رأسها إلى جانبِ والديها بمقبرة جبل صهيون. وذلك بعد تشييع جثمانها في موكب رسمي استمر على مدى ثلاثة أيام. بحضور أرفع المستويات ومشاركة جموع غفيرة في كافة الأراضي الفلسطينية بجميع طوائفهم ومذاهبهم الدينية وقرعَت الكنائس أجراسها بالتزامن مع التشييع.

يذكر أن شيرين أنطوان نصري أبو عاقلة هي صحفيّة فلسطينيّة تحمل الجنسية الأمريكية. من مواليد القدس عام 1971م. درست الهندسة المعمارية في جامعة العلوم والتكنولوجيا بالأردن. ثم انتقلت إلى جامعة اليرموك تخصص الصحافة والإعلام – فرع العلوم السياسية. وبعد حصولها على درجة البكالوريوس عام 1991م عادت إلى فلسطين. وعملت في وكالة الأونروا. وإذاعة صوت فلسطين. وقناة عمان الفضائية. ثم مؤسسة مفتاح وإذاعة مونت كارلو. وأخيرًا انتقلت للعمل كمراسلة صحفية بقناة الجزيرة الإخبارية في العام 1997م. واستمرت فيها حتى وفاتها في 11 مايو 2022م.

والواقع إن جريمة الاغتيال تلك. قد أوقعت الحكومات الغربية في حرج شديد خصوصًا الدول التي دأبت على الدفاع عن إسرائيل والتغطية على جرائمها بمعايير مزدوجة. فواجهت انتقادات وضغوط من داخلها. ومن ذلك إدانة عضو البرلمان الأيرلندي وناشط السلام ريتشارد بويد باريت لمقتل الصحافيّة شيرين أبو عاقلة. ومطالبته بالتحقيق في الحادثة. منتقدًا ازدواجيّة المعايير التي تتعامل بها حكومات العالم الغربي مع الغزو الروسي لأوكرانيا والاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينيّة.

ولعله سيكون لهذه الجريمة ما بعدها من تبعات ستدون في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتأخذه إلى منعطف جديد.

وبعيدًا عن تلك الجريمة النكراء. أجد نفسي منساقًا للربط ما بين الإعلامية شرين أبو عاقلة وقصة هدهد سليمان. ليس من حيث إنهما من نفس المكان “القدس”. بل للأسلوب الإعلامي الذي انتهجته في نقلها للأحداث. فوافق ما علمنا به القرآن الكريم من أسس النقل الإعلامي. وذلك في قوله تعالى «فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22). إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23). وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24). أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25). اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۩(26)». حيث تضمن نقل النبأ في الآيات استخدام المقدمة المشوقة. التناسب. التدرج وبراعة انتقاء الأحداث وتصويرها والتنوع في طريقة عرضها. وحسن اختيار الألفاظ. والإيجاز. وهذا ما سيلاحظه أي مطلع على تقارير وقصص شيرين الإخبارية.
وأختم دردشتي هذه بأبيات من رثاء الشاعر المصري سلطان إبراهيم في شيرين:
بكى الزيتون وارتفع الأنينُ ** وفاض الدمع واستعرت شجونُ
على “شيرين” تنتحب الروابي ** ونوح الطير تُرجعه الغصونُ
وداعا صوتها المملوء صدقا ** ينافح عن قضيتها… يبينُ
يُجلِّي الحق يكشف عن مآسٍ ** ونيران يؤججها الخئون
فتنطلق الرصاصة صوب صدر** فتمتزج الأماني والمنونُ
هنا أضحت حكايتها نشيدا ** ويصدح باسمها الوطن الحزين

الرابط المختصر لهذا المقال:

عدد المشاهدات 194
Share