Share

تابعت آراء مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي بشأن قرار معالي وزير الشؤون الإسلامية الشيخ الدكتور عبد اللطيف بن عبد العزيز آل الشيخ (11/10/1442هـ) بقصر استعمال مكبرات الصوت الخارجية على رفع الأذان والإقامة فقط، وألا يتجاوز مستوى ارتفاع الصوت في الأجهزة عن ثلث درجة جهاز مكبر الصوت، وذلك لما تحدثه هذه المكبرات من ضرر على المرضى وكبار السن والأطفال في البيوت المجاورة للمساجد، إضافة إلى تداخل أصوات الأئمة وما يترتب على ذلك من تشويش على المصلين في المساجد والبيوت.

والواقع إن هذه مشكلة عامة قد تنساق على العديد من الدول العربية والإسلامية واضيف إليها ما تحدثه من شوشرة للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية أثناء مشيهم في محيط المساجد أو داخلها فتعيق حركتهم باستقلالية، فأنا من ذوي الإعاقة البصرية المجاورين لمسجد وارتفاع مكبرات الصوت يشتت تركيزي في المشي، وحتى سماع من يريد مساعدتي وإرشادي مهما قربت مسافته مني.

وأعتقد أن استخدام مكبرات الصوت في المساجد بتلك الطريقة المبالغ فيها حرمت المحيطين بالمساجد من الاستماع إلى القرآن الكريم والانتفاع بما فيه من فوائد وأثر روحاني. بموجب ذلك القرار. فالطريقة التي اعتادت عليها غالبية مساجدنا منذ زمن بعيد في استخدام مكبرات الصوت هي المشكلة وليس صوت القراءة في الصلوات الجهرية بحد ذاتها، فهم اعتادوا على رفع الصوت بشكل مبالغ فيه وهذا منافي لتعاليم ديننا لقوله تعالى ﴿وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ لقمان (19) وهذه الآية مطلقة الدلالة بوجوب خفض الصوت والأخذ بالوسطية والاعتدال فيه أمر ضروري خصوصاً في الصلاة لقوله تعالى ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا﴾ الإسراء (110). والاستماع لصوت القراءة في الصلوات أمر محمود، فقد روى أبو داود بسند صحيح عن عبدالله بن زمعة رضي الله عنه قال «لما استُعِزَّ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأنا عندَه في نفرٍ مِن المسلمين، دعاه بلالٌ إلى الصلاةِ، فقال: مروا مَن يصلي للناسِ، فخرج عبدُ اللهِ بنُ زَمْعَةَ، فإذا عمرُ في الناسِ، وكان أبو بكر غائبًا، فقلتُ: يا عمرُ، قمْ فصلِّ بالناسِ، فتقدَّمَ فكبَّرَ، فلما سَمِعَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صوتَه، وكان عمرُ رجلًا مُجْهِرًا؛ قال: فأين أبو بكرٍ؟ يأبى اللهُ ذلك والمسلمون! يأبى اللهُ ذلك والمسلمون! فبعثَ إلى أبي بكرٍ، فجاء بعدَ أن صلى عمرُ تلك الصلاةَ فصلَّى بالناسِ». واستنبط من ذلك إن صوت القراءة كان يصل إلى حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتأذ منه رغم مرضه الشديد إنما عارض صلاة عمر بالناس بدلاً من أبي بكر.

والحقيقة إن سماع القراءة أثناء الصلاة لها وقعها وأثرها على النفس البشرية حتى لغير المسلمين، خصوصاً عندما يقرأ بصوت جيد واستخدام صوتيات بجودة عالية ومتقنة الاستخدام. فأذكر أنه إبان عملي في جمعية إبصار الخيرية، استضفنا هيئة علمية من الولايات المتحدة الأمريكية كان من بينهم دكتورة غير مسلمة متخصصة في الفلسفة وعلم النفس، اعتادت الاستيقاظ مبكرًا لممارسة التأمل، فأخبرتني بأنه لفت انتباهها وجذبها أصوات جميلة للصلوات المبكرة من المساجد، وأن لها شعور روحاني لم تستطع تفسيره. فشرحت لها أنها صلاة الفجر وتؤدى في مثل هذا الوقت من كل يوم، فأصبحت تحرص على ممارسة تأملاتها في هدوء وسكينة الفجر على أصوات المساجد.

كما كان لي تجربة أخرى في تسعينيات القرن الماضي أثناء إحدى رحلاتي إلى نيويورك إبان عملي في الخطوط السعودية حيث ذهبت إلى جامع المركز الثقافي الإسلامي بمنهاتن – نيويورك لأداء صلاة الجمعة برفقة صديق أمريكي كان حديث عهد بالإسلام، وأول ما لفت انتباهنا وأثار إعجاب صديقي الأمريكي هو جودة ونقاوة صوت الأذان والخطيب وقراءة القرآن من مكبرات الصوت الموزعة داخل وخارج المسجد وفي أعلى المأذنة، خصوصاً وأن صديقي كان من مؤديي فن الأوبرا، فقد كان الصوت موزعاً بإتقان واحترافية بحيث أينما تكون في المسجد يصلك صوت الإمام وكأنه بجانبك وبدرجة نقية جدًا خالية من الشوائب الهوائية وترددات الصوت. أما من الخارج فالصوت كان يصل في محيط المربع الخاص بالمسجد بصورة تعتقد وكأن الإمام يقف إلى جانبك. وحينها أدركت أن مساجدنا بحاجة إلى تطوير تشغيل واستخدام مكبرات الصوت بطريقة احترافية تجعلك تسمع قراءة القرآن بصورة نقية ومؤثرة على النفس.

ولعل في هذين المثالين دلالة على الأثر النفسي الذي يحدثه صوت القراءة عبر مكبرات الصوت في المساجد عندما يكون بجودة متقنة حتى وإن كان المستمعين من غير المسلمين أو المرضى أو كبار السن. وقد أدركت السلطات الألمانية ذلك حينما سمحت في ابريل 2020م لأول مرة في تاريخها، برفع الآذان بمكبرات الصوت خارج المساجد في نحو 80 مدينة بهدف نشر الطمأنينة، والتخفيف من “فوبيا كورونا” بين الناس الذين فُرض عليهم الحجر الصحي، فضلاً عن إن سماع قراءة القرآن في الصلوات عبر المآذن تعطي سمة متميزة للمجتمعات الإسلامية والجهر بها محمود لقوله تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل 4).

وأرى أنه من الأوفق تهذيب استخدام مكبرات الصوت في المساجد للتخلص من الضوضاء والضجيج التي تحدثها، والسماح باستخدامها أثناء الصلوات فقط دون الدروس والحلقات الخاصة التي تعقد أعقاب الصلوات وذلك من خلال:

  • وضع قوانين تحدد المدى الأقصى لانتقال ووصول الصوت من المساجد إلى المحيط الخارجي عبر مكبرات الصوت، بمسافة تستهدف المحيطين بالمسجد دون تداخلها مع أصوات المساجد الأخرى. وأن تنساق تلك القوانين على عامة المرافق التي تستخدم مكبرات صوت أو سماعات كبيرة كالأسواق والمطاعم والملاهي.. الخ.
  • التأكد من أن تجهيزات مكبرات الصوت في المساجد حديثة ومزودة بالمؤثرات الصوتية ذات القدرة على التحكم في الترددات وصدى الصوت والحدة وامتصاص الهواء والمغنطة من الميكرفونات. مع ضبط درجة تضخيم الصوت (البيز والتريبل) حسب صوت المؤذن/الإمام/الخطيب، وأن يكون الحد الأقصى لدرجة ارتفاع الصوت ما بين 50-70%.
  • التأكد من أن عدد السماعات الداخلية مناسب لحجم المسجد وموزعة بطريقة صحيحة، واتجاهها من الأمام إلى الخلف عكس المحراب بزاوية انحرافيه، مع وضع سماعة أو سماعتين داخل المحراب موجهة إلى الأمام مباشرة بتحكم مستقل عن باقي السماعات. ووضع مكبرات الصوت الخارجية في أعلى نقطة من المنارة مع توجيهها إلى الأعلى 70 درجة تفاديًا لاصطدام الصوت بالمباني الخرسانية الذي يتسبب في الصدى والضجيج.
  • تأهيل وتوظيف كوادر وطنية في مجالات الهندسة الصوتية لمتابعة وتطوير وتشغيل الصوتيات لعامة المساجد. مع تقديم دورات تدريبية في مهارة استخدام مكبرات الصوت والصوتيات في المساجد للأئمة والمؤذنين والقائمين على تشغيلها.
  • متابعة تنمية وتطوير التجهيزات الصوتية للمساجد بصورة دورية. واستخدام هندسة تقنية الصوتيات المستخدمة في الحرمين كمرجع يقتدى به في عامة المساجد.

وعلى أية حال إن صوت قراءة القرآن من المآذن سمة تميز المدن الإسلامية ولها وقعها وأثرها الروحاني على النفوس، كما لأجراس الكنائس من سمة للمدن المسيحيةـ وأختم دردشتي بما قاله الدكتور عبد الحميد أبو سعده في قصيدته «القرآن.. يا أمة القرآن»:

يَا أُمَّةَ القُرْآنِ إِنَّ كِتَابَكُمْ          لَهُوَ الشِّفَاءُ وَصِحَّةُ الأَبْدَانِ

وَهُوَ الدَّوَاءُ لِكُلِّ جُرْحٍ غَائِرٍ       وَهُوَ المُحَارِبُ نَزْغَةَ الشَّيْطَانِ

وَهُوَ البَلاَغَةُ وَالفَصَاحَةُ كُلُّهَا      وَهُوَ الحَضَارَةُ فِي عُلُوِّ مَكَانِ

فَهُوَ الخِطَابُ لِكُلِّ عَقْلٍ نَابِهٍ      وَهُوَ الضِّيَاءُ بِنُورِهِ الرَّبَّانِي

يَهْدِي إِلَى الخَيْرِ العَمِيمِ وَإِنَّهُ      أَمْنُ القُلُوبِ وَرَاحَةُ الأَبْدَانِ

الرابط المختصر لهذا المقال:

عدد المشاهدات 29
Share