قضيت أياماً في الطائف للمشاركة في ندوة «طاهر زمخشري.. الشاعر والإنسان» الذي اختير ليكون الشخصية الثقافية لسوق عكاظ الـ 13، كانت أياماً بديعة جمعت كل أنواع المحاسن والجمال زانها حسن الضيافة والاستقبال وريح زهور الكادي والورد الطائفي وأنغام فنان الطائف الراحل الموسيقار طارق عبد الحكيم «جينا من الطائف والطائف رخا»، فتذكرت قول شاعرنا الزمخشري”:
“يــا عكاظاً تجمَّــــع الشَّـرق فيه”
ليــت مـن قالَـهَـــا رَآنَــــا فباهَـى
ليتَـه عــاشَ كــي يَرَانَــا شُمُوساً
النُّهَى صُبْحُهَــا ونــورُ ضُحَاهــا
ويَـــرَانَا قـــد انْطَلَقْنَـا خِفـَـافـــــاً
ولـواءُ البَيــَـــانِ يَطْوِي مَدَاهــــا
الذي يَنْشُـــر البَيـــَـــانَ ضِيَـــاءً
نُخْبَـــةٌ بــــــارَكَ الإلَه سُــــرَاها
نُخْبَةٌ جَدَّدَتْ عكـــاظَ وخَطّــَـــتْ
صَفْحَـةٌ نَــوَّرَ الحَيَــــاةَ سَنَاهَــــا
وبهذه المناسبة أرفع أسمى آيات الشكر والعرفان إلى جامعة الطائف وكافة العاملين والقائمين على البرنامج الثقافي بسوق عكاظ، وضيوفه من داخل وخارج المملكة الذين اتحفونا بما قدموه من فكر وأدب وثقافة أضاف لي الكثير، فقد تضمن البرنامج 14 ندوة شارك فيها نحو 84 أديباً وفناناً ومثقفاً من داخل وخارج المملكة العربية السعودية، واثراها تعليقات ومداخلات الحضور من النخب المثقفة.
وأكدت ندوة الشخصية الثقافية لهذا العام «طاهر زمخشري.. الشاعر والإنسان» المكانة التي يكنها له محبيه من عشاق الأدب والفكر والفنون فقد لاقت أعجاب الحضور بما قدمه المتحدثون من معلومات قيمة كشفت جوانب جديدة عن ابداعات الشاعر وحياته حيث قدم الأستاذ الزائر بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة د. محمد صالح الشنطي الذي ألف أكثر من 35 كتاباً أدبياً منها 8 عن الأدب والأدباء السعوديين، ورقة عمل بعنوان «تجربة الأديب طاهر زمخشري بين الإبداع والإعلام»، بين فيها إن الزمخشري صاحب ثنائيات متآلفة، وسر هذه الثنائيات هي أنه أديب وشاعر في جانب، وإعلامي في الجانب الآخر، وجعلت قصائده تحفل بهذه الثنائيات. وختم بالاستشهاد بقصيدته «لبيك رب العالمين» التي جمعت ثنائية التغطية لموسم الحج والقصيدة الشعرية.
وقدم الناقد الأستاذ حسين علوي بافقيه ورقة عمل بعنوان «زمخشري صانع البهجة» أوجز فيها بأن شعر طاهر زمخشري يغلب عليه الحزن والغربة، ومع إحساس الغربة عن وطنه والألم، كان يعوض بصناعة البهجة، إذ يعد من أكثر الشعراء العرب تناولا لمباهج الحياة، فلم يترك مسألة في إدخال البهجة على نفسة أو القارئ إلا وطرقها”، واستدل في ذلك بأغنية أسمر حليوة لطلال مداح وأسرع من البوينج لهناء الصافي وجيب الجول على الرايق لهيام يونس وغيرهم، وعزى ذلك الى نشأته في مكة المكرمة ومناسباتها الاجتماعية التي كانت تقتضي البهجة والفرح بالغناء والشعر.
وكانت مشاركتي عبارة عن استعراض لأهم المحطات الإنسانية في حياة الشاعر التي كانت بمثابة نقاط تحول في حياته ولها أثر مباشر على ابداعاته الشعرية والفنية، مع تسليط الضوء على بعض الشخصيات الذين لعبوا دوراً في حياته الإنسانية وتكوين شخصيته الأدبية، واستهليتها بالإشارة إلى توافق مناسبة سوق عكاظ مع الموضوع حيث أن الأديب أعد نفسه محيي المدرسة الحجازية الربيعية نسبة للشاعر عمر بن أبي ربيعة واختتمتها باسترجاع لكلمته أمام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز – رحمه الله – في حفل تكريمه بجائزة الدولة التقديرية 1405/1985 التي استهلها بقوله: …أنا طاهر زمخشري المعروف كما قيل عني، كومة من الفحم سوداء، تلبس ثيابًا بيضاء، تقول شعرًا قصائده حمراء وخضراء وصفراء، ومن قصائدي البيضاء أن أغني للحب وأن أغني للوفاء كما عشت أغني للحب والوفاء في مشواري الطويل…
يا أعذب الحُبِّ أمالي قد ابتسمت
في محفـل رقصت في جوِّه النِّعـمُ
وقـد بسطــتُ بهــا فيئًا يُظللنــــــا
والخيـر ما زال فيَّاضًـا بـه الكرمُ
ومـن مكارمـــه الإنمــاء مُزدهــر
بـه ارتوت أنفس واخْضَلَّتْ الديـمُ
وأخصبت بعد أن أعطت كنائزها
وقد تحقق من فيض الندى الحلــمُ
وختم محاور الندوة الاستاذ معيض عطية القرني الذي أعد بحثاً بعنوان «تجليات المرأة في شعر طاهر زمخشري – المؤثرات والأنماط والتجلي» لخص فيه تعددت أنماط ظهور المرأة في شعر الزمخشري حيث احتلت المرأة منزلة مهمة في روحه فأصبحت “الأم والرفيقة والحبيبة” واستدل على ذلك بقول الشاعر عن زوجته “نعم هي زوجتي وشريكة حياتي وأليفة روحي، لقد كانت تسير معي في أول الطريق وقطعت هي الشوط فنامت في مقرها الأخير راضية مرضية، وأما أنا فما زلت أسيرُ، وإنها لدموع أذرفها وسيذرفها معي كل من فقد عزيزاً”، وخلُص القرني، في ختام الندوة إلى أن الشاعر طاهر زمخشري استجاب في حياته لدوافع الحزن للمرأة، الأمر الذي جعله يرثي بعض الشخصيات العامة، والفنانات العربيات، وأيضاً المناضلات في البلاد العربية.
وأدارت الندوة الدكتورة زهور القرشي عضو هيئة التدريس بجامعة الطائف التي استهلتها بتقديم ترجمة مختصرة عن الأديب الشاعر وإدارة التعليقات والمداخلات في أخر الندوة ومن أروع تلك المداخلات التي سمعتها تعقيب الدكتور بديع فتح الله عليوة أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأزهر الشريف حول كيفية قدرة الأديب الشاعر على الجمع ما بين المتناقضين “الحزن والفرح” في قوله:
أبكي وأضحك والحالات واحـدة
أطوي عليهــــا فؤادًا شفّه الألــم
فإن رأيت دموعي وهي ضاحكة
فالدمع من زحمة الآلام يبتســــم
وكان للقاءات الجانبية على هامش البرنامج الثقافي دور كبير في إثراء المناقشات الفنية والفكرية حيث التقيت بالمخرج التلفزيوني القدير عبد الخالق الغانم، تحدثت معه عن تجربة نجاحه مع المسلسل الشهير «طاش ماطاش»، والإعلامية والفنانة القديرة مريم الغامدي التي أثرتنا بتجربتها مع دخول عالم الإذاعة والاعلام منذ الصغر في برنامج «بابا عباس»، وتبادلت معها الحديث عن علاقتها بالأديب طاهر زمخشري، وذكرتها بالطرفة التلفزيونية التي سببتها شهرتها في الثمانينات عندما طُرح سؤال على أحد المتسابقين في برنامج المسابقات «بنك المعلومات» عن اسم رئيسة وزراء الهند؟ فلم يعرف وبدء الجمهور يلقنه الجواب «انديرا غاندي» ومن شدة حماسه وضيق الوقت اندفع مجيباً «مريم الغامدي» فضحك الجميع ومن حينها أصبحت طرفة رائجة، كما تحدثت أيضاً إلى الفنان القدير محمد بخش عن غياب الدراما الوثائقية في عالمنا وأهميتها مستشهداً بتجربتي مع الفلم الوثائقي «رحلتي في الظلام الأبيض» التي كان لها مردود اجتماعي كبير ترتب عليه إنشاء «جمعية إبصار» وإفادة مئات من ذوي الإعاقة البصرية وأسرهم، فأكد على أهمية الدراما الوثائقية وأنها تواجه تحديات كبيرة بسبب ضعف الإمكانيات والدعم المتاح لها، وتعرفت على الممثلة السينمائية فاطمة البنوي التي حكت عن تجربتها والتحديات التي واجتها كأحد أوائل الممثلات السعوديات اللاتي يخضن تجربة التمثيل السينمائي في فيلم «بركة يقابل بركة».
ولاحظت غياب أي ندوة عن أدب الإعاقة في البرنامج الثقافي رغم إنه أدب موجود في تراثنا منذ القدم بدء بالنبي يعقوب عليه السلام ثم ابن ام مكتوم، وحسان بن ثابت رضي الله عنهما، مروراً بجميع عصور الحضارة الإسلامية وصولاً إلى طه حسين وكتابه الأيام، والشاعر البردوني، والفنان والملحن سيد مكاوي، والملحن عمار الشريعي .. وغيرهم. مع التنويه إن البرنامج الثقافي اُفتتح بندوة عن «فيلسوف الشعراء … أبو العلاء المعري» بصفته الشخصية الثقافية التاريخية لهذا العام، وتناولت أدبه وفلسفته، وإن كانت الدكتور كاميليا عبد الفتاح أستاذة الأدب العربي تطرقت في ورقتها إلى حالة العمى وأثرها على إبداعات وأدب المعري.
وأقترح أن يضاف إلى برنامج العام القادم ندوة عن أدب الإعاقة من حيث تناول السيرة الذاتية للمعاقين، الإعاقة وأثرها الإبداعي على الفنان، رواد الأدب والشعراء المكفوفين، الإعاقة في السينما العربية والعالمية، المكفوفون من رواد الغناء والفن عبر العصور.. وغير ذلك الكثير من المواضيع التي تستلزم إعداد ودراسة من قبل كبار الباحثين والمثقفين لتلائم المستوى الثقافي لسوق عكاظ، وندوة أخرى عن أداب وفنون مدينة الطائف حيث أنها أخذت حيزاً في الأدب والشعر القديم والحديث، وانطلاقة رواد الفن السعودي منها كالموسيقار طارق عبد الحكيم، طلال مداح، عمر كدرس، المايسترو عبده مزيد، الفنانة ابتسام لطفي، والراحلة عتاب وغيرهم.
ولما يمثله سوق عكاظ من أسم وسمعة كبيرة فلا بد من تفخيم لقب الشخصية الثقافية التي تختارها اللجنة سنوياً عبر جدولتها في اليوم الأخير من البرنامج وزيادة وقتها، وتكريم الشخصية بهدية ترمز للثقافة وسوق عكاظ واسم الشخصية ومنجزها، وتعليق لوح تذكاري عنها وأهم منجزاتها في مرافق جامعة الطائف وسوق عكاظ طيلة العام، وحث وسائل الإعلام المرئية والمسموعة على تكثيف تغطيتها للبرنامج الثقافي وشخصيته الثقافية.
وبرأيي أن أهم ما حققته مشاركتي في سوق عكاظ هي التأكيد على إمكانية اندماج ذوي الإعاقة في المجتمع بصورة طبيعية بعيداً عن الشفقة والإنبهاريه، وأن المعاق بصرياً بإمكانه أن يكون منتجاً ومشاركاً في النشاط المجتمعي إذا أتيحت له الفرصة وفق مؤهلاته وخبراته اسوة بالأخرين.
نشر هذه المقال على على صحيفة غرب الإخبارية في 2019/08/30م
الرابط المختصر لهذا المقال:
كاتب ومؤلف، ومهتم بتدوين سيرة الأديب طاهر زمخشري وأعماله، خبير في مجال خدمات الإعاقة البصرية، أمين عام جمعية إبصار سابقًا، ومدرب مضيفين سابق في الخطوط السعودية.