Share

يعرف الأدب بأنه أحد أنواع التعبير الإنساني الذي يعبر من خلاله الإنسان عن عواطفه وأفكاره وخواطره بأرقى الأساليب الكتابية سواء كانت نثرًا أو شعرًا. وقد اتخذ في عصرنا الحديث أشكالًا متعددة تجاوزت المئة والعشرين منها القصص والروايات والمسرحيات السير الذاتية والرحلات بما في ذلك موضوعنا (أدب العميان) وهو كل ما كُتب من قصص في العمى والعميان وتراجمهم وما قيل شعرًا. كرائعة حبر الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
إنْ يأخُذِ اللَّهُ من عينيَّ نُورَهُما * ففِي لِسانِي وقلبي مِنْهُما نورُ
قلبي ذَكيٌّ وعَقلي غَيْرُ ذي دَخلٍ * وفي فمِي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ
ويعتبر أدب العميان أو أُولِي الضَّرَرِ كما سماهم القرآن الكريم نوع من أنواع الأدب الذي أهتم به العرب والمسلمون منذ فجر الإسلام، وعامة الكتاب والأدباء على مر العصور لما حظوا به من مكانة بنزول سورة «عبس» وما تبعها من آيات وأحكام وقصص.
فعلى سبيل المثال سورة يوسف التي قال تعالى فيها ﴿نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾.. آية (3). والقَصص (بفتح القاف) معناها الحكايات والروايات الواقعية الحقة، أو الأخبار أو الأحاديث المقصوصة، هي بمثابة الرواية الواقعية في عصرنا الحديث.. حيث تناولت السورة قصة فقدان سيدنا يعقوب عليه السلام لبصره وما ترتب عليه من أثر حتى استعادته. كلك قصص الصحابي الكفيف ابن ام مكتوم التي وردت في ثلاثة سور (عبس، والنساء، والحج).
والمتبع لذلك يجد أن الأولين اهتموا بتدوين سير وتراجم العميان وقصصهم بدًء بكتاب «المعارف» للعلامة ابن قتيبة المتوفي سنة (276هـ) الذي خصص فيه فصلا لأصحاب العاهات وذكر منهم عددًا من أشراف المكافيف، مرورًا بكتاب «نَكْتُ الِهيمْانِ في نُكَتِ العُمْيَاِن» لصلاح الدين خليل بن آيبك الصفدي في القرن الثامن الهجري. عدا مئات من صنوف الكتب التي تناولت تراجم العميان واشعارهم وكل ما ارتبط بهم من آداب وفكر كشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم (حسان بن ثابت) رضي الله عنه، وشاعر العصر الأموي والعباسي «بشار بن برد»، والفيلسوف الأديب «أبو العلاء المعري».
وصولا إلى كتاب «الأيام» المنشور في 1929م لعميد الأدب الكفيف «طه حسين» الذي قال في مقدمته «أنا أتمنى أن يجد الأصدقاء المكفوفين في قراءة هذا الحديث تسلية لهم عن أثقال الحياة، كما وجدت في إملائه، وأن يجدوا فيه بعد ذلك تشجيعًا لهم على أن يستقبلوا الحياة مبتسمين لها، كما تبتسم لهم ولغيرهم من الناس».
وقد أدركت أهمية هذا النوع من الأدب حينما أصبت بالإعاقة البصرية في العام 1992م ووقوع كتاب «نَكْتُ الهِمْيان في نُكَتِ العُمْيان» بين يدي واطلاعي عليه وتأثري بما تضمنه من توجيه ديني وتربوي وتحفيز معنوي للتكيف مع العمى.
فبدأت البحث عن مزيد من الكتب المماثلة والمقاربة لعصرنا فلاحظت شح المكتبة العربية من الكتب والمؤلفات التي تقدم تجارب واقعية وملهمة لذوي الإعاقة البصرية بما يتناسب مع احتياجاتهم في عصرنا الحديث، باستثناء كتاب «الأيام» الذي وجدته كتب بأسلوب أدبي عالي يحتاج إلى قدر معين من الثقافة لاستيعابه والانتفاع به في التكيف مع العمى، كما أنه حاكى ظروف ومشاكل المكفوفين في مصر في الفترة التي عاشها المؤلف «طه حسين».
وفي المقابل نجد وفرة لما كتبه العديد من الكتاب والأدباء والفلاسفة الغربيون من المكفوفين وإثرائهم للساحة الأدبية بكتابة سيرهم الذاتية وتجاربهم مع فقدان البصر بزوايا مختلفة ساهمت في تنمية وتطوير خدمات المكفوفين في الغرب كالسيدة «هيلين كيلر» الكفيفة الصماء الملقبة بـ «معجزة الإنسانية» بمؤلفاتها «العالم الذي أعيش فيه»، «الخروج من الظلام»، «هيلن كيلر في اسكتلندا»، «أضواء في ظلامي»، «قصة حياتي» وغيرها، والأديب العالمي «خورخي لويس بورخيس» الذي فقد بصره في منتصف العمر وألف العديد من الكتب منها «سيرته الذاتيّة»، «المرايا والمتاهات»، «الصانع»، والمؤلّف الفرنسي «جاك لوسيران» الذي فقد بصره في سن السابعة حين أصيبت عيناه خلال الحرب العالمية الثانية، وأمضى سنة في معسكرات الاعتقال لينجو من التجربة ويؤلّف عدّة كتب منها «ومن ثمة هناك ضوء» عن تجاربه منذ طفولته المبكّرة إلى حين تحرره من معسكر الاعتقال، والمؤلف «توم سوليفان» الذي سرد سيرة حياته ومنجزاته في كتابه «لو كان بإمكانك رؤية ما أسمع»، والمؤلّف «ستيفن كوسيستو» الذي ألف كتاب «كوكب العميان» ومذكراته «التنصّت: حياة بالأذن». والمحاضر الجامعي «جون هول» الذي ألف كتاب عن تجربته مع العمى «لمس الصخور: تجربة في العمى»، وغيرهم الكثير.
وأمام هذا الواقع بادرت بكتابة تجربتي مع فقدان البصر في كتاب أصدرته في العام 2002م بعنوان «حصاد الظلام» بهدف استحداث مجال جديد في أدب العميان يمزج ما بين السيرة الذاتية وأدب الرحلات والطرق والأساليب الحديثة للتعامل مع الإعاقة البصرية، ونقل التجارب الملهمة للمكفوفين، كإشراقة فكرية وأدبية لذوي الإعاقة البصرية وأسرهم والمختصين في المجال ومحبي السير الذاتية وأدب الرحلات.
حيث قدمت فيه لمحة مختصرة عن ولادتي ونشأتي في أحضان الأديب طاهر زمخشري جدي لأمي بعد وفاة والدي، وقصة التحاقي بالخطوط السعودية كمضيف جوي، وبدء الصراع والمعاناة مع فقداني للبصر التدريجي أثناء عملي، وما ترتب عليه من آثار دفعتني لمحاولة الهروب من ذلك الواقع المرير بالإبداع في العمل أدى إلى نيلي لقب أفضل مدرب خدمة جوية وتقديمي لفكرة «وجبة الراكب الكفيف» إلى أن أسدل الستار على عملي مع الخطوط السعودية بإحالتي إلى التقاعُد المبكر في 1992/10/15م، وعرجت على ما واكب ذلك من أحداث مأسوية أثرت على حياتي الأسرية والمهنية، انعكست عليَّ بصدمة نفسية كادت تقضي على طموحاتي، لولا إعلان فوز فكرة «وجبة الراكب الكفيف» بعدة جوائز عالمية الأمر الذي أشعل حماسي للانطلاق من جديد لمُقاومة اليأس والإحباط الذي أصابني، وكيف تابعتُ سيري في الظَّلام الذي كان يتفاقم يومًا بعد يوم حتى أصبح أشبه بليل لا يدرك صُبحه، وتمسَّكي بخيط الأمل برحلات إلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1994م و 1996م الذي التحقت فيه ببرنامج تدريب وإعادة تأهيل كان منعطفًا غيَّر مجرى حياتي فأصبحت أُمارس حياتي اليوميَّة بصورة طبيعيَّة فسردُت تفاصيل ذلك البرنامج وأثره عليَّ، واستعرضت مجموعة من قصص المكفوفين الذين قابلتهم خلال البرنامج.
وختمتُ الكتاب بطرح ما توصلت إليه من رؤية وفلسفة للنهوض بمُستوى خدمات الإعاقة البصرية وتطوير البرامج التَّأهيلية للمختصين.
وبعد مضي 17 عام من إصداره والتقائي بمئات من ذوي الإعاقة البصرية بحكم عملي في مجال خدمات الإعاقة البصرية وإعادة التأهيل لاحظت استمرارية شح الإنتاج الأدبي والفكري الذي يلبي احتياجات ذوي الإعاقة البصرية ويقدم قصص وتجارب ملهمة تحفزهم للتكيف مع حالتهم البصرية والاندماج في المجتمع بصورة طبيعية، مقارنة بوفرة كتب تجارب المكفوفين الغربيين الملهمة ككتاب «Blind Courage» للكفيف الأمريكي «بيل ايروين – Bill Irwin» الذي ألفه في العام 1991م بالتعاون مع الكاتب (ديفيد مكاسلاند – David McCasland). عن رحلته كأول كفيف يجتاز مسار الأبلاش قاطعًا مسافة 3380 كيلومتر بين الجبال والأودية مشيًا على الأقدام بمعية كلبه من ولاية جورجيا إلى ولاية مين، وحولت قصته في العام 2014م إلى فيلم عالمي بذات العنوان. كذلك كتاب قصة حياة الإعلامي الأمريكي الكفيف «إيد لوكس Ed Lucas» «Seeing Home: The Ed Lucas Story» الذي صدر في العام 2015م وبيعت منه ملايين النسخ.
فبادرت ثانية بإعادة إصدار مؤلفي «حصاد الظلام» في طبعة ثانية في العام 2019م مع تحديث الإحصائيات والأرقام وبعض المعطيات وفق المستجدات الملحة. لكنه لم يحظ بالرواج الكافي كما ينبغي، ولعل ذلك يعود إلى ما قاله د. صالح الشحري في مقاله المنشور في مجلة اليمامة بتاريخ 2022/12/29م بعنوان «في حصاد الظلام.. تجربة انسان مع مرض العشى الليلي» بأنه “تجربة ثرية ملهمة ولو أتيح للكتاب بعض اللمسات الأدبية لكان أكثر جاذبية وبريقاً”.
وعلى أي حال فإني أهيب بالكتاب والنقاد والأدباء أن يولوا هذا النوع من الأدب اهتمام وعناية خاصة بإحيائه ونشره لاستعادة المكانة الأدبية التي أوجدها العرب والمسلمون في هذا المجال، وأحث أقراني من ذوي الإعاقة البصرية أن يثروا الساحة الأدبية بكتابة ونشر قصص تجاربهم الملهمة لإضاءة شموع في طريق الظلام لما لها من أثر فعال على نفوس ذوي الإعاقة البصرية الذين يتوقع أن عددهم قد يتضاعف بحلول العام 2050م.

نشر هذا المقال على مجلة اليمامة في 2023/10/15م

الرابط المختصر لهذا المقال:

عدد المشاهدات 143
Share