نشرت هذا المقال على صحيفة غرب الإخبارية في 2019/06/23م
تشهد محافظة جدة من 8 يونيو إلى 18 يوليو 2019م نحو 150 فعالية ضمن موسم جدة تحت شعار «بحر وثقافة» في كلا من منطقة جدة التاريخية (البلد)، وحي الحمراء، والواجهة البحرية، وأبحر، ومدينة الملك عبد الله الرياضية، يتخللها عدد من الفعاليات والبطولات والمهرجانات الدولية للكبار والصغار تستضيف من خلالها كوكبة من الشخصيات والمطاعم العربية والعالمية، بهدف توفير أفضل الفعاليات العالمية الترفيهية والسياحية والثقافية المتنوعة لتعزيز إسهام المملكة في مجالات الفنون والثقافة والرياضة والترفيه.
وأكثر ما أثار اهتمامي واعجابي هو إدراج رقصة «المزمار» في برنامج فعاليات جدة التاريخية «البلد» ليلياً من 9م – 11م بعد غيابها عن كثير من المناسبات والفعاليات الرئيسية، رغم أنها من أشهر الفنون والرقصات المتأصلة في الحجاز منذ القدم، على عكس مما يعتقده خطأً البعض من غير محبي هذه الرقصة بانها لا تعني للموروث الثقافي السعودي أو العربي أي شيء وأنها مستوردة من غرب أفريقيا، والصحيح أنها موروث شعبي أصيل اشتهرت في جدة ومكة والمدينة والطائف وينبع والقنفذة والليث كرقصة جماعية جمالية رائعة تمارس في الزواجات والمناسبات السعيدة خصوصاً الأعياد، واعتمدتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو” في الثاني من ديسمبر 2016م في اجتماعهم بإثيوبيا ضمن قائمتها التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي بعدما قدمت وزارة الثقافة والإعلام السعودي في يونيو 2015م ملفاً متكاملاً عنها.
وبرأيي إن إدراج المزمار ضمن فعاليات جدة التاريخية اختيار صائب حيث عرف تاريخياً أن أبناء جدة كانوا يتدربون ويتمرسون على رقصة المزمار وأنغامه وأهازيجه منذ الصغر مع أقرانهم في الحارة فهي تستلزم مهارة الرقص بعصا تسمى «الشون» أو «العود» بلفها مروحياً بين الأصابع مع ضبط حركة القدمين على أنغام وأهازيج وإيقاعات تسمى «الزومال» أثناء الدوران حول نار موقدة في وسط ميدان اللعب، تنتهي بدوران اللاعب حول نفسه مع لف العصا دون إسقاطها بالتزامن مع لاعب آخر يشاركه الأداء بنفس الطريقة.
وحبذا لو تم توسيع نشر الرقصة لتشمل كافة مواقع فعاليات موسم جدة «حي الحمراء، الواجهة البحرية، أبحر، مدينة الملك عبد الله الرياضية» وأن تكون عنصر أساسي في كافة فعاليات المنطقة، لأن رقصة المزمار كانت تقام خلال المناسبات والأعياد بالتزامن في أحياء جدة الرئيسية كمزمار حارة يمن، حارة الشام، المظلوم…الخ، وبتوسع جدة إلى خارج السور استمرت العادة بإقامة المزمار خلال المناسبات والأعياد في الأحياء الجديدة المختلفة مثل الكندرة، القريات، حارة برة…الخ.
وأن تطور لتكون لعبة رقص ترفيهية وتنافسية تنظم بين ممارسيها من أحياء جدة ومدن المنطقة المحيطة بها حيث أن لها قواعد وقوانين تجعلها قابلة لذلك، فلها لباس محدد يتباهى به اللاعبون وهو الثوب والعمامة الحجازية الألفية البرتقالية اللون، والصنف اليماني أو الحلبي الذي يوضع على الكتف، والحزام العريض على الوسط المسمى بالـ «البقشة».
وقوانينها تقوم على اصطفاف لاعبين قد يصلون الى 100 رجل يتحلقون حول نار موقدة في وسط ميدان اللعب ويقف على الصف شيخ الحارة أو أحد كبارها لضبط اللعب تفادياً لحدوث أي مواجهات بين اللاعبين، ويبدأ قائد اللعب بترديد أهازيج «الزومال» ويرد عليه أفراد الصف بالجواب على أنغام إيقاعات «العدة» وهي «النقرزان: مزهر مغطى بالجلد يدق عليها بعصوان صغيرتان بإيقاع معين لا يقبل التغيير، العلبة: إطار خشبي دائري مغطى بالجلد يضرب عليه المعلب على طرفه بيديه بأكثر من أيقاع تسمى بالتشاكيل، المرواس أو المرد: مثل البرميل الصغير مغطى بالجلد من الجهتين يضرب عليه باليدين ووظيفته الرد على النقرزان، المرجف: شبيه بالعلبة في الشكل إلا أنه أكبر حجماً وصوته أرخم من العلبة»، وعلى وقع تلك الإيقاعات والأنغام، يتفاعل اللاعبون المصطفون من الفريقين بترديد أهازيجهم التي تعبر عن واقع الحال أثناء اللعب مثل الترحيب، التفاخر، البطولة، …الخ، وتتوالى الأهازيج واحدة تلو الأخرى، ومن المهم أن يكون أدائها بطريقة إيقاعية مميزة وممتعة للاعبين والحضور، ويبدأ «الجوش» وهو عبارة عن نزول لاعب من كل صف يدوران حول النار يظهر كل منهما مهارته في الرقص بالعصا وتدويرها بين أصابعه ويده وحماية نفسه بحركات رجولية بديعة لفترة محددة ثم يفسحان المجال للاعبين أخرين بطريقة منظمة.
وهذه القواعد تجعل من السهل وضع قوانين منهجية تجعل من الرقصة لعبة تنافسية مقننة تمكن لجنة تحيكم من خبراء في فنون وقواعد اللعبة بتسجيل نقاط للفرق المتنافسة وتقييم الأفضل منهم في جمال وتكامل الزي، مهارة الرقص والدوران مع لف العصاء على الإيقاع، تناغم الإيقاعات وجودة كلمات وأداء الزومال والمرددين، مع الأخذ في الاعتبار تطوير صناعة عصي اللعب لتكون أمنة على اللاعبين، والعدة لتناسب الآلات الإيقاعية الحديثة.
وعلى ما أعتقد إن نشر هذه الرقصة بهذا الطرح الجديد سيعطيها زخماً يواكب تطلعات ورغبات محبي وعشاق لعبة المزمار بكافة فئاتهم العمرية والأجيال الصاعدة التي لم تعرف المزمار من قبل، كما سيجعلها رقصة شعبية قابلة للتدريب بمنهجية والانتشار عالمياً كغناء الراب ورقص الهيب هوب الذي انتشر إلى العالمية من الأحياء الشعبية الأمريكية في سبعينيات القرن العشرين الميلادية.
وعلى أي حال إن فكرة تطوير رقصة المزمار هي امتداد لما قام به رواد الفن السعودي الحديث حينما ألف الفنان الراحل لطفي زيني أشهر وأقوى زومال «يا سارية خبريني» لحنه وأداه الموسيقار الراحل عمر كدرس في مسرح التلفزيون مصحوباً بعرض لرقصة المزمار لأول مرة على شاشة التلفزيون، وأعادها في العام 1984م مع فرقة الفنون الشعبية السعودية التي أسسها الموسيقار الراحل طارق عبد الحكيم ومن خلالها طور عرض رقصة المزمار والفنون الشعبية الأخرى وقدمها في العديد من المهرجانات العربية والعالمية.
رابط المقال على صحيفة غرب الإخبارية
الرابط المختصر لهذا المقال:
كاتب ومؤلف، ومهتم بتدوين سيرة الأديب طاهر زمخشري وأعماله، خبير في مجال خدمات الإعاقة البصرية، أمين عام جمعية إبصار سابقًا، ومدرب مضيفين سابق في الخطوط السعودية.