Share

تقدمت مؤخرًا للمرة الأولى منذ إصابتي بالإعاقة البصرية بطلب مشهد اثبات إعاقتي من وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، للمشاركة في مسابقة مخصصة لذوي الإعاقة.

وأثار إعجابي تطور آلية الحصول على المشهد الذي أصبح الكترونية بالكامل، ولكن المعضلة التي واجهتني هي اضطراري الاستعانة بصديق للولوج إلى الموقع، والمحاولة لعدة مرات على مدى يومين بسبب مشكلة فنية بظهور رسالة “عذرا، حدث خطأ فني أثناء تنفيذ العملية. يرجى المحاولة في وقت لاحق.”.

وبعد نجاح الولوج إلى الموقع اتبعت الخطوات اللازمة لاستصدار مشهد الإعاقة الذي استلزم تحديث البيانات، وإحضار تقرير طبي حديث لتقييم الإعاقة من إحدى المستشفيات المدرجة على قائمة الوزارة حسب المنطقة التي أتبع لها، وخصصت لمحافظة جدة 7 مستشفيات منها 2 حكومي و5 خاص وهذا تيسير يشكرون عليه، ولاحظت عدم وجود مستشفى العيون بجدة ضمن القائمة.

اخترت منها الأقرب لمنزلي وكان مستشفى خاص، وهي المرة الأولى التي أراجع فيها عيادة عيون بالمملكة منذ أكثر من عشرين عامًا، وصلت المستشفى وأول ما اصطدمت به هو صعوبة الوصول فمواقف السيارات محدودة مقارنة بعدد المراجعين مما اضطرني لإيقاف سيارتي تحت إحدى العمائر القريبة من المستشفى، والمشي برفقة سائقي تارة فوق الرصيف وتارة على الاسفلت بسبب وقوف بعض السيارات عليه، وأحواض الزرع، وأعمدة الإنارة، وكان عليّ الانحراف إلى مسار السيارات تفاديا للاصطدام بحاوية القمامة التي صادفتني في الطريق. وأخيرا وصلت إلى المستشفى الذي كان مدخله بدرج حاد، صعدته ودخلت منطقة الاستقبال وكانت بمثابة ظلام دامس بالنسبة لحالتي البصرية، وكاونتراته مغطاة بموانع زجاجية فلم أستطع الاعتماد على حاسة سمعي لتحديد مكان الموظف والتحدث إليه، الأمر الذي اضطر سائقي إلى توجيهي للفتحة للتحدث معه وبالكاد كنت اسمعه لشدة الضوضاء المحيطة، مما اضطره في معظم الأحيان التحدث مع سائقي لإرشاده فيما علي أن اقوم به من خطوات فتح ملف، دفع أجرة الكشف، الذهاب إلى عيادة العيون في الطابق الرابع، وبعد أن انتهيت من الفحص الذي استغرق عدة دقائق تنقلت بين عدة مكاتب إدارية في طوابق مختلفة لاستيفاء التواقيع اللازمة وإصدار التقرير الذي خلص إلى أن حدة الإبصار بالعين اليمنى لدي هي “عدم رؤية الضوء نتيجة لوجود ضمور تام بالشبكية والعصب البصري نتيجة الالتهاب الصبغي التلوني بشبكية العين اليمنى واليسرى، ووجود مياه بيضاء شديدة بالعينين، ونسبة فقدان النظر هي 100% بالعين اليمنى و100% بالعين اليسرى”.

فوجئت بتلك النتيجة فقد كنت أعتقد أن لدي رؤية محدودة أرى من خلالها بصيص الضوء والظلال والكتل، فأدركت أن كل ما أراه هو عبارة عن ومضات ضوئية وصور من ذاكرتي البصرية.

استلمت التقرير ورفعته على الموقع الإلكتروني للوزارة حسب المطلوب وواجهت نفس المشاكل التي واجهتها في البداية، وبعد أن تم رفع التقرير بنجاح حصلت على تقييم الإعاقة وبموجبه صدر المشهد وأصبحت مؤهلًا للحصول على بعض الخدمات التي توفرها الوزارة للأشخاص ذوي الإعاقة وهي الاعفاء من رسوم التأشيرات، الإعانة المالية للأجهزة الطبية المعينة، الشهادات الرقمية للتسهيلات المرورية، وتخفيض أجور الإركـاب. وعلى الفور أنهيت إصدار شهادة تخفيض أجور الإركاب التي تمنحني تخفيض 50% على وسائل النقل الحكومية إذ كانت أيسرهم، ولا زلت أحاول الحصول على الخدمات الأخرى التي تنطبق شروطها عليّ.

والحقيقة أنني لم أفكر في إصدار بطاقة الإركاب من قبل لمنظور عاطفي، فقد كنت أحصل وأنا موظف بالخطوط السعودية على تصريح إركاب مفتوح على الدرجة السياحية، و4 تذاكر سفر مجانية سنوية لي ولأسرتي، وتخفيض أجور على جميع شركات الطيران تصل الى 90%، فكيف لي أن أطلب بطاقة تخفيض 50% على النقل الحكومي فقط. بعد أن فقدت تلك المزايا بسبب إحالتي إلى التقاعد المبكر.

وخلال استطلاعي للخدمات المتوفرة على الموقع استوقفني غياب المعلومات والإرشادات التي تقود إلى مراكز التدريب وإعادة التأهيل وهي الأهم من بين الخدمات لذوي الإعاقة لما فيها من مردود نفعي على المعاق واستقلاليته واكتفاؤه الذاتي. فعلى سبيل المثال تجربتي مع الإعاقة البصرية والتحاقي ببرنامج الاستقلال الذاتي المتكامل بمعهد الجمعية الوطنية للمكفوفين بمينابولس بولاية منيسوتا الأمريكية في العام 1996م لمدة شهر بـ 3000 دولار سمح لي بتسديدها بعد العودة إلى المملكة متى ما توفر المبلغ معي دون أي ضمانات باستثناء مبلغ 600 دولار قيمة السكن.

فتمكنت من تطوير مهاراتي الذاتية واستعادة قدراتي الوظيفية وتوظيف خبراتي العملية في إعداد فكرة مشروع لإعادة تأهيل وتدريب ذوي الإعاقة البصرية على الاستقلال الذاتي كي لا يضطروا إلى السفر لأمريكا أو أوروبا لتحقيق ذلك، وأُسس المشروع في العام 2003م باسم جمعية إبصار الخيرية كأول جمعية سعودية وعربية متخصصة في مجال خدمات الإعاقة البصرية وإعادة التأهيل، وعينت مديرًا لها، وهكذا تمكنت من العودة للعمل بدلًا من التقاعد. وفي نفس العام رشحت من قبل منظمة اللايت هاوس الدولية بنيويورك ضمن 25 خبير دولي لإعداد ورقة عمل للحد من المؤثرات الناجمة عن ضعف البصر في العالم، عرضت في مؤتمر البصر 2005م بلندن، وأصبحت عضوًا في الرابطة الدولية لأبحاث ضعف البصر وإعادة التأهيل. بالإضافة إلى قيامي بالعديد من الأنشطة والأعمال المرتبطة بالمجال.

وختمت هذه التجربة في العام 2015م بالخروج بحلم لمعالجة مشكلة بطالة ذوي الإعاقة البصرية ونقص الخدمات في عالمنا العربي أسعى لتحقيقه من خلال الصحافة والتأليف في ظل الوضع العام الذي تعيشه خدمات الإعاقة البصرية وإعادة التأهيل في عالمنا، أو أقوم في نهاية المطاف بما قام به الأديب الراحل طه حسين بكتابة مؤلفه «الأيام» الذي قال في مقدمته “أنا أتمنى أن يجد الأصدقاء المكفوفين في قراءة هذا الحديث تسلية لهم عن أثقال الحياة، كما وجدت في إملائه، وأن يجدوا فيه بعد ذلك تشجيعًا لهم على أن يستقبلوا الحياة مبتسمين لها، كما تبتسم لهم ولغيرهم من الناس”. واختم دردشتي بقول الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حينما ذهب بصره

إن يأخذ الله من عينيّ نورهما … ففي لساني وقلبي منهما نور

قلبي ذكيّ وعقلي غير ذي دخل … وفي فمي صارم كالسّيف مأثور

الرابط المختصر لهذا المقال:

عدد المشاهدات 476
Share