منذ أشهر وأنا أعمل مع الزميل الرحالة أمين غبره على كتابة رواية دارت أحداثها في أواخر ستينيات القرن الماضي بين جدة ومصوع وأسمرة بأرتيريا حينما كانت تحت حكم الامبراطورية الإثيوبية. وخلالها أدركت أن لتلك المدينتين عمق تاريخي وأواصر صلة اجتماعية وثقافية وتجارية ببلادنا منذ القدم كان الكثير منها غائباً عني رغم ارتباطها بتاريخنا الإسلامي وتراثنا الثقافي فـ «مصوع» التي عرفت أيضاً باسم «باضع» كانت مهبط أول هجرة في الإسلام وموقع لأول مسجد يبنى فيه.
ففي مثل هذا الشهر الهجري (رجب من العام الخامس للبعثة النبوية – 615م) خرج الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى بلاد الحبشة ولحق بهما 11 رجل و3 نساء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر جدة فالشعيبة ومنها أبحروا إلى اليمن وعبروا إلى جزيرة «دهلك» واخيراً رسوا على شاطئ مصوع ثم السير برا إلى مدينة «كعبر» في بداية اقليم «أمهرة»، وعادوا إلى مكة في شهر شوال من نفس العام. فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «خرج عثمان بن عفان مهاجرًا إلى أرضِ الحبشةِ ومعه رُقيَّةُ بنتُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم واحتَبَس على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خبرُهم فكان يخرُجُ يتوكَّفُ عنهم الخبرَ فجاءَتْه امرأةٌ فأخبَرَتْه فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّ عثمانَ لأوَّلُ مَن هاجَر إلى اللهِ بأهلِه بعدَ لوطٍ».
وفي العام التالي (6 للبعثة – 616م) هاجر إليها مرة أخرى 83 صحابي و19 صحابية بقيادة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه هرباً بدينهم من مشركي قريش. والتقوا بملكها «النجاشي» الذي استضافهم وأكرمهم وأعطاهم الأمان.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم قد بنوا في هجرتهم الأولى أول مسجد في تاريخ الإسلام بـ«رأس مدر» عرف باسم «مسجد الصحابة»، ولا يزال موقعه قائماً حتى يومنا هذا بمنطقة ميناء «مصوع» بمحرابه الأساسي الذي كان باتجاه المسجد الأقصى. ومن حينها تجذر الإسلام في تلك البلاد وانتشر وارتبط أهلها بالعرب والمسلمين بمصاهرة ونسب وتبادل ثقافي وتجاري وأصبحت اللغة العربية من اللغات السائدة إلى جانب اللغات المحلية الأخرى التجرية والتغرينية والعفارية والساهو، والعرب أحد مكونات المجتمع إلى جانب الأعراق الأخرى كالكوناما والتجرينيا. ولا يزال الأهالي يقيمون صلوات الأعياد في مسجد الصحابة تيمناً بالمكان، وتخليداً لأول هجرة في الإسلام.
أما أسمرة التي بناها الإيطاليين في عام 1897م إبان حقبتهم الاستعمارية للبلاد وجعلوها عاصمة بدلاً من مصوع لموقعها الاستراتيجي الجبلي وجوها المعتدل وطبيعتها الخلابة بعدما أولوها عناية فائقة بإنشاء المباني الحديثة ودور العبادة والمستشفيات والطرق والسكة الحديدية والمطار والصرف الصحي الذي لم يكن له نظير في دول المنطقة لتكون بمثابة روما افريقيا. فلم يتخلف المسلمون من أهاليها وأهالي مصوع من الحفاظ على الجذور الإسلامية والثقافة العربية في تلك المدينة، وخير شاهد على ذلك «مسجد الخلفاء الراشدين» الذي بناه المعلم المعماري «عامر الجداوي» من أهالي مصوع في العام 1900م – 1319هـ إبان لجنته الأولى برئاسة كبير التجار «أحمد أفندي الغول» ذو الأصول المصرية، واستمر شامخاً على مر السنين رمزاً وشاهداً على عمق التاريخ الإسلامي والعربي فيها، وعمل المسلمون من الأهالي جيل بعد جيل على المساهمة في توسعته وتطويره ووقف الأوقاف له ووثق ذلك مفتي ارتريا الأول «الشيخ إبراهيم المختار أحمد عمر» – رحمه الله – في كتابه «القُنبرة في تاريخ المركز الإسلامي في أسمرة» وذكر منهم الشيخ حسن عبدالله بامشموش، أنجال سعيد عبدالله العمودي، الحاج حسان عبدالله اليماني، الأخوين عمر وسعيد سالم باعقيل، والحاج إبراهيم محمد حسين وغيرهم. وقال:
إن تفخر أرتريا بما في طيها *** فجامع أسمرة يكفيها فخرا
وقد امتدت تلك الجذور الاسلامية والعربية لعصرنا الحاضر فقد كانت أسمرة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مقصد تجاري وثقافي وسياحي لأهالي جدة لازدهارها في ذلك الوقت خصوصاً في المجال الطبي إذ استقطب مستشفاها الايطالي ENAIL الأشهر والأضخم في المنطقة آنذاك أهالي جدة والمنطقة للعلاج فيه.
وبالعودة إلى الرواية التي خلصت منها بمدى العمق التاريخي والثقافي بيننا وبين مصوع وأسمرة بما في ذلك اللباس والأطعمة والكثير من العادات والتقاليد فعلى سبيل المثال نجد أن لباسهم الشعبي الذي يرتدونه في الأفراح والأعياد والجُمع هو الثوب الذي يسمى عرّاقي ويلبس عليه السديري والعمة الحلبية. وأشهر الأكلات الشعبية «أكّلَتْ» المعروفة عندنا بـ «العصيدة» و«المَاَدة/المضبي» و«المشكلة» وهي مجموعة ايدامات تضم «الزقني» و«الكمونية» و «العدس» تؤكل بخبز «الإنجيرة/الكسرة». وحتى فنونهم عرفت في بلادنا منذ العهد النبوي في المدينة المنورة فقد روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري «أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، دَخَلَ عَلَيْهَا، وعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ في أيَّامِ مِنًى تُغَنِّيَانِ، وتُدَفِّفَانِ، وتَضْرِبَانِ، والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَغَشٍّ بثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُما أبو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن وجْهِهِ، فَقالَ: دَعْهُما يا أبَا بَكْرٍ، فإنَّهَا أيَّامُ عِيدٍ. وتِلْكَ الأيَّامُ أيَّامُ مِنًى. وَقالَتْ عَائِشَةُ: رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَسْتُرُنِي، وأَنَا أنْظُرُ إلى الحَبَشَةِ، وهُمْ يَلْعَبُونَ في المَسْجِدِ، فَزَجَرَهُمْ فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: دَعْهُمْ، أمْنًا بَنِي أرْفِدَةَ يَعْنِي مِنَ الأمْنِ».
وبلاد الحبشة المذكورة هي ما يعرف اليوم بدولتي إثيوبيا وارتيريا، وعرفت بهذا الاسم نسبة إلى أحد قبائل حمير من اليمن تدعى «حبشت» هاجرت قبل القرن الخامس قبل الميلاد من اليمن إلى تلك البلاد وأقامت مملكة بها حاضرتها «اكسوم» وهي مدينة تاريخية تقع حالياً شمال إثيوبيا في إقليم التجراي.
وأدعو الكتاب والنخب المثقفة بالتنقيب عن الإرث الأدبي والفكري والثقافي العربي المتجذر في تلك البلاد خصوصاً أسمرة التي اختلطت فيها الثقافة الحبشية والعربية والايطالية، وإثراء ساحتنا الفكرية والأدبية والثقافية بها في ظل حركة التجديد الثقافي التي تعيشها بلادنا حاليًا واختم دردشتي هذه بما قاله الشيخ محمد فاضل التقلاوي في مدينة أسمرة:
على قمة العلياء تزهو وتخــلب *** وفـوق تليد المـجد شماء ترهـب
عروس الربى مجلوة تعشق العـلا *** فيهفـو لـها قلبي مليـا ويطـرب
منمقة حسنـاء تبـدو كأنهـــا على *** الفلك العلياء في الأرض كوكب
حبتها يـد الـزمان للفـن تحـفة *** وصورها عـات خـبير مجــرب
الرابط المختصر لهذا المقال:
كاتب ومؤلف، ومهتم بتدوين سيرة الأديب طاهر زمخشري وأعماله، خبير في مجال خدمات الإعاقة البصرية، أمين عام جمعية إبصار سابقًا، ومدرب مضيفين سابق في الخطوط السعودية.