نشر هذا المقال على صحيفة غرب الإخبارية في 2019/07/12م قبل وفاة الموسيقار غازي علي رحمه الله بعامين
قمت بزيارة رائد الفن السعودي الموسيقار غازي علي في مستشفى الملك فهد بجدة حيث يرقد على السرير الأبيض بعد خضوعه لعملية جراحية لكسور في منطقة الحوض، وعندما هممت بالمغادرة أهديته نسخة من كتابي “الاديب طاهر زمخشري في سطور” فنظر إلى غلافه الذي تضمن صورة الأديب، فاحتضنه ووضعه على قلبه وأغمض عيناه وتنهد قائلاً «هذا حبيبي الذي عشنا سوياً في مصر كأسرة واحدة وفضله لا ينسى»، ورغم آلام المرض إلا أنني التمست منه مشاعر وفاء إنسانية يصعب التعبير عنها هنا، وبحسب علمي ربطتهما علاقة أبوية وفنية وذكريات منذ قدومه من المدينة المنورة لإكمال دراسته المتوسطة في جدة والتحاقه ببرنامج الأطفال «بابا عباس» الذي تعرف من خلاله على «بابا طاهر» إبان إشرافه على الإذاعة.
إذ لفت انتباه بابا طاهر موهبته الفنية فتبناه واهتم به إلى أن سافر إلى مصر في العام 1960م لدراسة الموسيقى في معهد الكونسرفتوار كأول طالب غير مصري يقبل في المعهد على حسابه الخاص لما أظهره من موهبة فنية عالية، وطيلة فترة دراسته كان متفوقاً على كافة زملائه واستطاع أن يضع يده على مفاتيح التراث لينتج في وقت مبكر جدا مجموعة من الروائع الخالدة قبل حصوله على البكالوريوس في العام 1967م بامتياز.
ورأيت أنه من المناسب أن أنقل مقتطفات من أخر لقاء صحفي أجراه الأديب رحمه الله مع أستاذنا علي فقندش وخص فيه الكثير من ذكرياته مع الموسيقار غازي علي قائلاً «غازي علي هو الابن الفنان العصامي الذي احتضنته مطلع مشواره مع الفن، وهو من بنى نفسه بنفسه، وضحى بالكثير من أجل أن يكون هناك (فنان سعودي) قائم ومبني على قاعدتين أساسيتين يمتلكهما غازي آلا وهما الموهبة الحقيقية ثم الدراسة الأكاديمية، وصقل هذه الدراسة بالخبرة والممارسة… ظهر كمطرب وهو طالب في المدرسة، حيث كان يغني لزملائه في المدرسة، ثم بدأ نشاطه في الإذاعة في برنامج الأطفال مع “بابا عباس”، ولم يدرك أيامي في برامج الأطفال بالإذاعة ورافقه في هذه المرحلة عدد من الفنانين اذكر منهم حسن دردير… كنت وأياه مره ففكرنا في أن تكون بدايته كمطرب مع ملحن مصري ليذيعه صوت العرب. وأصبح ثالثنا في هذا الموضوع الموسيقي المصري المعروف عطية شرارة، وكان أيامها بليغ حمدي معروفا كمطرب فقط. وأصبح رابعنا في هذا الموضوع بليغ، فطلبنا منه أن يكون صاحب اللحن أي يقوم بعمل أول لحن في حياته لكلمات كنت قد نظمتها على ان تقدم بصوت غازي علي الطالب في معهد الموسيقى، وتم الاتفاق على مبلغ 300 جنيه – ويعتبر خياليا مقابل لحن يومذاك – المهم في الموضوع ولدت الأغنية بعنوان (حكى لي الطير تغريده) وقد أذيعت هذه الاغنية بعد نجاحها في القاهرة وفي كل الإذاعات العربية» كانت تلك أول أغنية لغازي علي كمطرب من كلمات الأديب طاهر زمخشري التي قادته ليلحن أحد أشهر الأغاني السعودية «أسمر حليوة» التي روى قصتها بابا طاهر «هذا اللحن صحبت ميلاده قصة طويلة بدأت ونحن في رحلة نهرية غازي علي وانا ومجموعة من الأصدقاء في نهاية الستينات الميلادية وعلى فلوكه (قارب نهري)، وحيث أن صحبنا معنا أحدث عمل للموسيقار طارق عبد الحكيم (البعد والحرمان) بصوت المطربة صباح، وهذا اللحن طبعاً أخذ حقه الكبير من الانتشار. فدار حوار بيني وبين غازي علي الذي أبدى استعداده بعمل لحن أجود وأقوى، ومن الممكن أن ينال شهرة عربية أيضاً لو قدم بصوت معروف عربياً، وتحديته وهنا نحن في اليوم الثاني من الرحلة، بدأت أكتب وغازي يلحن (أسمر حليوه.. حليوه مخاصمني) وغازي يدندن إلى أن صور لها لحنا جميلاً. أُعجبنا به جميعا، وفور انتهاء الرحلة سجل غازي لحن الأغنية موسيقيا ورشحت لأدائه الفنانة القديرة سلامة التي أعجبت جدا باللحن، وقد تم وعدنا لها بذلك، إلا أن أمراً ما حدث وهو دخول طلال مداح في الموضوع وإصراره على أن يكون هو صوت هذا اللحن!». وعلى مر السنين استمرت العلاقة الأبوية والفنية بينهما إلى أخر حياة بابا طاهر وكان أخر عمل فني بينهما تلحينه أغنية «نفسي يا جدة أشوفك» للفنانة عايدة خريص كلمات الشاعر يوسف رجب بناء على طلب من «بابا طاهر».
لقد التمست من تلك اللحظات التي احتضن فيها موسيقارنا الكبير غازي علي وهو على سريره الأبيض صورة بابا طاهر مدى الحب والوفاء الذي لا يزال يكنه له رغم مرور نحو مرور أكثر من 3 عقود على وفاته.
وأغتنم هذه الفرصة لمناشدة الأسرة الفنية ممثلة في الجمعية السعودية للثقافة والفنون بتكريم ابن المدينة المنور الموسيقار “غازي علي” تكريماً يليق بمكانته الفنية والأدبية فهو الفنان الاستثنائي الذي جمع بين الغناء والشعر وعلم الأصوات إذ قدم أبحاث في الموسيقى والغناء عن طريق اليوجا وما فيها من طرق التنفس السليم للعازف أو المغني، وهو أحد فرسان الأغنية السعودية وله الفضل الكبير في تطوير الموسيقى والألحان السعودية الشعبية والارتقاء بمستواها إلى أعلى مراتب الفن، خاصة بلحنه الخالد لأغنية (بين ذراعيها) من كلمات أباه الروحي الأديب الراحل طاهر زمخشري، ومن خلال مسيرته الفنية قد أكثر من خمسين أغنية ومؤلفات موسيقية مثلت نقلة نوعية للفن السعودي من اشهرها «شربة من زمزم، ربوع المدينة، روابي قباء، الليلة يام العروسة». كما لحن لكبار الفنانين العرب منهم وديع الصافي، عفاف راضي، فايزة أحمد، هناء الصافي، عايدة بوخريص، هيام يونس، طلا مداح، محمد عبده، ابتسام لطفي وغيرهم.
رابط المقال على صحيفة غرب الإخبارية
الرابط المختصر لهذا المقال:
فلتتغشاهم رحمة الله وليغفر لهم ويحسن إليهم .
عاشوا في هذه الدنيا كألطف النسمات وتركوا لنا
أحلى ذكريات