يعتبر أدب العميان أو أُولِي الضَّرَرِ كما سماهم القرآن الكريم من أنواع الأدب الذي أهتم به العديد من الكتاب والأدباء على مر العصور وهو كل ما كُتب من نصوص نثرية أو شعرية أو قصص عن العمى أو تراجم لمشاهير العميان.
وقد أهتم به العرب منذ فجر الإسلام للمكانة التي حظي بها العميان بنزول سورة «عبس» وما تبعها من آيات أحكام وقصص، فألفت مئات الكتب والأشعار عن العمى وفضل العميان من العلماء والأدباء وتراجمهم وأدبهم وأشعارهم، ومن روائع ما قيل شعراً قول حبر الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حينما أصيب بالعمى:
إنْ يأخُذِ اللَّهُ من عينيَّ نُورَهُما ففِي لِسانِي وقلبي مِنْهُما نورُ
قلبي ذَكيٌّ وعَقلي غَيْرُ ذي دَخلٍ وفي فمِي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ
وفي عصرنا الحديث شهدت أعداد العميان تزايداً لأسباب مختلفة واستدعت الحاجة إلى توسع مجال أدب العميان ليشمل السير الذاتية لمشاهير العميان من الأدباء والمفكرين ليستفيد منها أقرانهم من المكفوفين وعامة المجتمع في الوقت الذي تراجع فيه اهتمام الكتاب والأدباء العرب بهذا المجال، وبروز عديد من الكتاب والأدباء والفلاسفة الغربيون من المكفوفين وإثرائهم للساحة الأدبية بكتابة سيرهم الذاتية وتجاربهم مع فقدان البصر بزوايا مختلفة ساهمت في تنمية وتطوير خدمات المكفوفين في الغرب مثل «هيلين كيلر» الكفيفة الصماء الملقبة بـ «معجزة الإنسانية» بمؤلفاتها «العالم الذي أعيش فيه»، «الخروج من الظلام»، «هيلن كيلر في اسكتلندا»، «أضواء في ظلامي»، «قصة حياتي» وغيرها، والأديب العالمي «خورخي لويس بورخيس» الذي فقد بصره في منتصف العمر وألف العديد من الكتب منها «سيرته الذاتيّة»، «المرايا والمتاهات»، «الصانع»، والمؤلّف الفرنسي «جاك لوسيران» الذي فقد بصره في سن السابعة حين أصيبت عيناه خلال الحرب العالمية الثانية، وأمضى سنة في معسكرات الاعتقال لينجو من التجربة ويؤلّف عدّة كتب منها «ومن ثمة هناك ضوء» عن تجاربه منذ طفولته المبكّرة إلى حين تحرره من معسكر الاعتقال، والمؤلف «توم سوليفان» الذي سرد سيرة حياته ومنجزاته في كتابه «لو كان بإمكانك رؤية ما أسمع». المؤلّف «ستيفن كوسيستو» الذي ألف كتاب «كوكب العميان» ومذكراته «التنصّت: حياة بالأذن». والمحاضر الجامعي «جون هول» الذي ألف كتاب عن تجربته مع العمى «لمس الصخور: تجربة في العمى»، وغيرهم كثير.
وفي المقابل طبع كتاب «نَكْتُ الهِمْيان في نُكَتِ العُمْيان» لـ صلاح الدين بن آيبك الصفدي «764هـ» بأمر من خديوي مصر في العام (1329هـ -1911م) للمشاركة به في “المؤتمر الدولي الرابع بفرنسا لتحسين حالة العميان”، للتعريف بدور الإسلام والمسلمين الأوائل في أدب العميان والتعامل مع العمى ورعاية المكفوفين، وقام عميد الأدب الكفيف «طه حسين» بتأليف كتابه «الأيام» الذي أصدره في العام «1929م» وقال عنه «أنا أتمنى أن يجد الأصدقاء المكفوفين في قراءة هذا الحديث تسلية لهم عن أثقال الحياة، كما وجدت في إملاءه، وأن يجدوا فيه بعد ذلك تشجيعاً لهم على أن يستقبلوا الحياة مبتسمين لها، كما تبتسم لهم ولغيرهم من الناس»، عدا ذلك لم يرد ذكر مؤلفات أو كتب عربية حديثة مرتبطة بسير ذاتية للمكفوفين المعاصرين حظيت بمكانة محلية أو عالمية.
وبإصابتي بالإعاقة البصرية في العام 1992م وما واكبها من آثار سلبية، وقراءتي لكتاب «نَكْتُ الهِمْيان في نُكَتِ العُمْيان» أدركت أهمية أدب العميان لما له من توجيه ديني وتربوي وتحفيز معنوي للتكيف مع الحالة، ولاحظت شح المكتبة العربية من الكتب والمؤلفات التي تؤدي ذلك الغرض، فكتاب «الأيام» لطه حسين على قدر ما له من قيمة أدبية عالية يحتاج إلى قدر معين من الثقافة لاستيعابه كما أنه حاكى ظروف ومشاكل المكفوفين في مصر في مطلع القرن العشرين، ومن حينه والمكتبة العربية شاغرة من كتب السير الذاتية التي تقدم تجارب واقعية وملهمة لذوي الإعاقة البصرية بما يتناسب مع احتياجاتهم في عصرنا الحديث.
فبادرت بكتابة تجربتي مع فقدان البصر أثناء عملي كمضيف جوي، وأثر ذلك على حياتي الأسرية والمهنية، وسرد تفاصيل برنامج إعادة التأهيل الذي حصلت عليه في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1996م واثره على إنجازاتي وحياتي اليومية، وقصص المكفوفين الذين قابلتهم خلال البرنامج وذلك في كتاب اصدرته في العام 1423هـ – 2002م بعنوان «حصاد الظلام» كأول تجربة لي مع التأليف بهدف استحداث مجال جديد في أدب العميان يمزج ما بين السيرة الذاتية وأدب الرحلات والطرق والأساليب الحديثة للتعامل مع الإعاقة البصرية، ونقل التجارب الملهمة للمكفوفين، حيث تناولت فيه قصة التحاقي بالخطوط السعودية والصراع والمعاناة مع الظَّلام مع بدء فقداني للبصر والآثار المترتبة عليه ومُحاولاتي المتعددة للهروب من ذلك الواقع المرير والمثير، وما واكبه من إبداع في العمل أدى إلى نيلي لقب أفضل مدرب خدمة جوية وتقديم فكرة «وجبة الراكب الكفيف» إلى أن شاء القدر واسدل الستار على عملي مع الخطوط السعودية بإحالتي إلى التقاعُد المبكر، وما تسببه لي ذلك القرار من صدمة نفسية كادت تقضي على طموحاتي، وبإعلان فوز فكرة وجبة الراكب الكفيف بعدة جوائز عالمية أشتعل حماسي للانطلاق من جديد لمُقاومة اليأس والإحباط، فتابعتُ سيري في الظَّلام الذي كان يتفاقم يومًا بعد يوم حتى أصبح أشبه بليل لا يدرك صُبحه، ومع ذلك تمسَّكتُ بخيط الأمل برحلات إلى الولايات المتحدة الأمريكية والالتحاق ببرامج تدريب وإعادة تأهيل غيَّرت مجرى حياتي وأصبحت أُمارس حياتي اليوميَّة بصورة طبيعيَّة وتوصلت إلى رؤية وفلسفة للنهوض بمُستوى خدمات الإعاقة البصرية وتطوير البرامج التَّأهيلية للمختصين.
والآن وبعد مضي نحو 17 عام على تأليف الكتاب لا تزال مشكلة شح الإنتاج الأدبي والفكري الذي يلبي احتياجات ذوي الإعاقة البصرية ويقدم قصص وتجارب ملهمة تحفزهم للتكيف مع حالتهم البصرية والاندماج في المجتمع بصورة طبيعية، قمت مؤخراً بإعادة إصدار كتابي «حصاد الظلام» في طبعة حديثة عن دار سيبويه للنشر مع تحديث الإحصائيات والأرقام وبعض المعطيات وفق الوضع الراهن كإشراقة فكرية وأدبية لذوي الإعاقة البصرية وأسرهم والمختصين في المجال ومحبي السير الذاتية وأدب الرحلات، وأهيب بالكتاب والنقاد والأدباء أن يولوا هذا النوع من الأدب اهتمام وعناية خاصة بإحيائه ونشره لاستعادة المكانة الأدبية التي أوجدها العرب والمسلمون في هذا المجال، وأحث أقراني من ذوي الإعاقة البصرية أن يثروا الساحة الأدبية بكتابة ونشر قصص تجاربهم الملهمة لإضاءة شموع في طريق الظلام لما لها من أثر فعال على نفوس ذوي الإعاقة البصرية الذين يتوقع أن عددهم قد يتضاعف بحلول العام 2050م.
الرابط المختصر لهذا المقال:
كاتب ومؤلف، ومهتم بتدوين سيرة الأديب طاهر زمخشري وأعماله، خبير في مجال خدمات الإعاقة البصرية، أمين عام جمعية إبصار سابقًا، ومدرب مضيفين سابق في الخطوط السعودية.