انشغلت وسائل الإعلام العالمية مؤخرا بقضية الإساءات العنصرية التي تعرض لها لاعبي منتخب إنجلترا السود (جادون سانشو، ماركوس راشفورد، بوكايو ساكا) على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب إهدارهم ضربات الجزاء وخسارة المنتخب الإنجليزي لبطولة اليورو 2020م أمام منتخب إيطاليا. وأدان رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، والاتحاد الإنجليزي لكرة القدم تلك الإساءات العنصرية، واعتقلت الشرطة الإنجليزية عشرات من المسيئين والتحقيق معهم وإحالتهم للمحاكمة، وقامت منصات التواصل الاجتماعي بحذف مئات الرسائل المسيئة وحظر حسابات أصحابها.
والحقيقة إن العنصرية ظاهرة اجتماعية سلبية عانت منها البشرية منذ الأزل فهي تقوم على الإقصاء والتهميش والتمييز بين البشر على أساس اللون أو الانتماء القومي أو العرقي، ويترتب عليها إثارة النعرات وانتشار الكراهية وسفك الكثير من الدماء وتدهور اقتصاديات المجتمعات المتفشية فيها.
وقد عالج الإسلام هذا الظاهرة منذ فجره عندما أوجب العدل والمساواة فيما بين البشر وشرع فريضة الحج لتوحيد البشرية والمساواة فيما بينهم وتوجيههم لعبادة رب العباد كأمة واحدة فقال تعالى (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) الحج: 27
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مخاطبًا الحجيج (يا أيها الناس ألا إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلاّ بالتقوى، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه أحمد
وفي هذا السياق استحضر قصة الداعية الأمريكي الأفريقي مالكوم اكس الذي كان للحج دورا بارزا في تصحيح عقيدته ونشر دعوته في محاربة العنصرية بين السود والبيض في أمريكا
حيث اعتنق الإسلام في العشرينيات من عمره على يد دعاة من حركة أمة الإسلام حينما كان يقضي حكمًا بالسجن بمدينة نيويورك بتهمة السطو والسرقة، وهي جماعة إسلامية منحرفة تؤمن بتفوق العرق الأسود على الأبيض وأن الشيطان أبيض والملائكة سود وغير ذلك من انحرافات كثيرة.
وخلال سجنه قرأ آلاف الكتب وبدأ طريق الاستقامة حتى أطلق سراحه في عام 1952م فانضم إلى الجماعة ليصبح أحد أهم منظريها وأئمتها وعلى إثر خلافات فكرية انفصل عنها في عام 1963م وكون جماعة من مؤيديه وبدأ مرحلة جديدة من حياته بقراءة كتاب مترجم عن الإسلام وفريضة الحج فقام برحلة لأدائها في العام 1964م، مرورا بالقاهرة التي مكث فيها بعض من الوقت والتقى بعدد من علمائها، وعندما غادر من القاهرة إلى جدة رأى في الطائرة أعراق مختلفة من الحجيج، فأدرك أن الإسلام لكل البشرية وليس للسود فقط
ومكث في مكة 12 يوم رأى فيها الإسلام الصحيح عن كثب وتعرف على حقيقته، وتعلم الصلاة الصحيحة التي كان يجهلها تمامًا، وتأثر تأثراً شديداً بمشهد الكعبة وأصوات التلبية وكيف أن المسلمين من مختلف الاعراق بيض وسود وشديدي البياض زرق العيون جميعهم متساوون أمام الله بعيداً عن سرطان العنصرية، فأدرك ضلال المذهب العنصري الذي كان يعتنقه ويدعو إليه حينها قال «في حياتي لم أشهد أصدق من هذا الإخاء بين أناس من جميع الألوان والأجناس، إن أمريكا في حاجة إلى فهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يملك حل مشكلة العنصرية فيها»
وبعد انتهائه من فريضة الحج وعودته إلى أمريكا تخلى عن معتقداته القديمة بأن البيض شياطين، وأسس منظمة أسماها مؤسسة المسجد الإسلامي ونذر نفسه للدعوة إلى الإسلام الحقيقي وحاول تصحيح مفاهيم جماعة أمة الإسلام الضالة، فقوبل بالعداء والكراهية منهم وبدئوا بمضايقته وتهديده وطردوه من منزله على اساس أنه ملك للمنظمة.
ولكنه لم يبالِ بهم واستمر في دعوته إلى الإسلام اللاعنصري – كما أسماه – ونادى بأخوة بني الإنسان بغض النظر عن اللون ودعا إلى التعايش بين البيض والسود وحجبت كافة وسائل الإعلام الأمريكية دعوته وآراءه متهمة إياه بتحريض السود على العصيان فرد قائلاً: «عندما تكون عوامل الانفجار الاجتماعي موجودة لا تحتاج الجماهير لمن يحرضها، وإن عبادة الإله الواحد ستقرب الناس من السلام الذي يتكلم الناس عنه ولا يفعلون شيئاً لتحقيقه»
وتنامت الخلافات بينه وبين منظمة أمة الإسلام فدعت إلى قتله فتعرض إلى محاولة اغتيال فاشلة في 14 فبراير 1965م أعقبها محاولة أخرى في 21 من نفس الشهر بقاعة مؤتمرات مدينة نيويورك عندما كان يلقي محاضرة عن الإسلام ونبذ العنصرية فباغته 3 رجال من منظمة أمة الإسلام أثناء خطبته فأردوه قتيلاً بست عشرة رصاصة استقرت في صدره، وألقي القبض عليهم وحكم عليهم بالسجن.
وعلى إثر اغتياله انتشرت دعوته والتحق بها العديد من اتباع منظمة أمة الإسلام وغيرهم من غير المسلمين في أمريكا، وتغيرت أفكار الجماعة خصوصا بعد وفاة رئيسها إليجا محمد وتولي ابنه “والاس محمد” الذي غير اسمها إلى البلاليين نسبة إلى الصحابي بلال بن رباح، وجعل ابتاعها أقرب ما يكونوا إلى تيار الإسلام الوسطي.
وبعد شهر واحد من اغتيال مالكوم إكس أقر الرئيس الأمريكي جونسون مرسوماً قانونياً ينص على حقوق التصويت للسود وأنهى الاستخدام الرسمي لكلمة نجرو التي كانت تطلق على السود في أمريكا من باب الازدراء والإهانة.
وتخليدا لذكراه أنتج فليم سينائي عالمي في العام 1992م صورت مشاهده في الولايات المتحدة الأمريكية ومصر وجنوب أفريقيا والمملكة العربية السعودية من إخراج المخرج العالمي سبايك لي وبطولة النجم الأمريكي دينزل واشطن الذي لعب دور مالكوم اكس، ورشح الفيل في عام 1993م لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثل في دور رئيسي وعن فئة تصميم الأزياء (روث كارتر)، كما رشيح لجوائز الجولدن جلوب عن فئة أفضل ممثل في فيلم درامي.
ويجدر بالذكر أن أشهر من اعتنق الاسلام على يده هو البطل المسلم الراحل محمد علي كلاي في العام 1964م، واستفاد من قصته اسطورة كرة السلة الأمريكية كريم عبد الجبار.
وأخيرًا أدعو إلى توظيف مشاهد الحج للتوعية بمفاهيم العدل والمساواة بين البشر مهما اختلفت أجناسهم وأعراقهم وحماية مجتمعاتنا من ظاهرة العنصرية، وأختم دردشتي هذه بأبيات للأديب الراحل طاهر زمخشري على لسان اللاعب الإنجليزي بوكايو ساكا
لا يعيب السواد صفحةَ وجـــه
هي بالمـــاءِ ذلــة لا تجــــود
لا ولا يرفع البياض ذليلاً
إنما المــــرء ما بنـــــــى أو يشيـد
فإذا كـــان في السواد عيوبي
في صميم الفؤاد بيضاء ورود
الرابط المختصر لهذا المقال:
كاتب ومؤلف، ومهتم بتدوين سيرة الأديب طاهر زمخشري وأعماله، خبير في مجال خدمات الإعاقة البصرية، أمين عام جمعية إبصار سابقًا، ومدرب مضيفين سابق في الخطوط السعودية.