مع حلول موسم حج كل عام تنتشر قصيدة الأديب طاهر زمخشري «إلى المروتين» وأغنيتها أهيم بروحي على الرابية بين رواد شبكات التواصل الاجتماعي وتروج قصص وحكايات مختلفة حولها جانب الكثير منها الصواب -خصوصًا- تلك التي كان مصدرها مقال الكاتب عبد الله الجعيثن المنشور في صحيفة الرياض بتاريخ 30 ذو القعدة 1438هـ (22 أغسطس 2017م) بعنوان «أهيم بروحي على الرابيه» ملخصها «سمعت في إذاعة جدة لقاءً قديماً معه -رحمه الله-، في برنامج (ذكريات زمان) ومما قال: إنه كان في القاهرة فشاهد الكعبة في التلفاز وفاضت عيناه دموعاً، شوقاً وخشوعاً، وفاض وجدانه بهذه الأبيات الجميلة ارتجالاً..»
وفي موسم حج هذا العام (1446هـ) استبق الصديق الإعلامي القدير عدنان صعيدي (مدير عام إذاعة جدة الأسبق) رواد التواصل الاجتماعي بمنشور على حسابه في فيسبوك بعنوان «القصة الحقيقية» (الثلاثاء 6 مايو 2025 ــ 8 ذو القعدة 1446هـ) ذَكّر فيه بالأغنية والخطأ الشائع الذي يتداول عن قصة كتابتها، وحسم الأمر بإرفاق مقطع فيديو من لقاء إذاعي مع الأديب في برنامج «ضيف الليلة» الذي كان يعده ويقدمه د. بدر كريم -رحمهما الله-. روى فيه الأديب قصة كتابته للقصيدة قائلًا:
“تعرف متى نظمتها؟ لها قصة.. هذه من أجمل وأروع الذكريات الإذاعية كان مدير الاذاعة أخويا وحبيبي وصديقي إبراهيم فوده وكانت مجموعة الاذاعة وعلى البرامج… ما كان عندنا تكتيك معين إنما أنا كنت مدير على البرامج على الأحاديث على الجولات الخارجية كانت كلها شوربة. كنت أنا ماسك حيز كبير من القطاعات المختلفة فجينا نعمل برنامج للحج، وكانت لي، وجهة نظر باعتباري إني أنا مسؤول عن تنفيذ الجولة الخارجية… وأكبر جولة خارجية اللي أنت عايش فيها الان اللي هي جولة الحج عرفة، مزدلفة، منى، أيام التشريق، وتنظيم البرامج والبعثات وما إلى ذلك في حدودنا الضيقة. فكانت لي وجهات نظر وكان لمدير الإذاعة وهيئة الإذاعة وجهة نظر تتعارض مع وجهات نظري. فأنا مش مسالم إنما أحب السفينة تمشي على شان لا نختلف ونكون بسبب اختلافنا يوقف البرنامج نهائيا ونفضل نتعطل. فقلت لهم أنا أترك لكم البرنامج وأسلم عليكم وأنا ماشي بدي آخذ إجازة. كان هذا الكلام قريب ٢٧، ٢٨ ذو القعدة. وأنا بقلك ٢٧، ٢٨ ذو القعدة علشان تعرف متى بدي اترك العمل وامشي، فأخذت إجازة وسافرت رحت مصر، ليلة ٣٠ ذو القعدة وصلت مصر، كنت ضيف عند صديقي الدكتور محمد حياتي، حضروا الغدا، فتحت نشرة الأخبار الساعة ٢ وإذا المذيعة كنت ولا أزال اذكر صوتها (همت مصطفى) تقول ثبت هلال الحج. فلمن قالت المذيعة ثبت هلال الحج، شعرت بالضعف، كيف أترك رسالتي الخطيرة اللي أعطتني القوة وكل الأمجاد الإذاعية وأعتذر وأطلب إجازة واجي!، فبدموعي رحت على حديقة الحيوانات (جنينة الحيوانات كما يسموها) في هناك الغابة وكان معايا ورق ولا أشعر بنفسي إلا وأنا أكتب “أهيم بروحي على الرابية، وعند المطاف وفي الروتين…” وأكمل حديثه “تعرف كانت النتيجة أية؟ كانت النتيجة إني رجعت على الخطوط السعودية ورجعت على مكتبي. وكان معايا الشريف محمد بن شاهين مستغرب يظنني ما سافرت، فمكسوف باعتبار إن واحد طلب إجازة وراح وغاب وكل حاجة، فمكسوف وقلت له قول لإبراهيم إني وصلت. ومسكت العمل ونفذت البرنامج كما يريدوا هم لا كما أريد أنا… في الواقع كان العمل كبير جدًا، فمن تحايا الإذاعة للفن كانت تقدم – وأظن لا يزال التقليد هذا-، كانت تقدم لكل بعثة مجموعة من الأغاني… لا تستغرب إذا قلت لك إني سمعت في ليلة من ليالي عرفات أهيم بروحي على الرابية من ١٧ اذاعة إسلامية”.
وكما هو متوقع ما أن حل يوم عرفة في موسم حج هذا العام إلا وانتشر منشور على شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة تضمن ملخصًا للقصة التي كنت قد نشرتها سابقًا نقلًا عن خالتي «ابتسام زمخشري» رحمها الله وكلمات الأغنية.
والواقع إنني بعد استماعي للقصة من الأديب -رحمه الله- عبر الفيديو أدركت أن القصة التي روتها لي خالتي قد تداخلت عليها أحداث رحلتين مختلفتين إلى القاهرة مرتبطة بالقصيدة. الأولى التي كتبت فيها القصيدة والثانية التي تمت فيها طباعة الديوان الذي نشرت فيه القصيدة فقد روت لي في موسم حج العام 1439هـ (2018م) «في هذه الأيام الفضيلة وعند سماعي إلي أهيم بروحي على الرابية تذكرته، أذكر القصة كيف نزل عليه الهام القصيدة، حيث روى لي “كنت في مصر لطباعة أحد دواويني، وكنت في دعوة لتناول الغداء عند المذيعة همت مصطفي، وعند بداية المأدبة، قالت همت، يا جماعة كل سنة وأنتم طيبين لقد أعلن في السعودية اليوم غرة شهر ذي الحجة. في تلك الحظة شعرت بغصة وألم، استأذنت وخرجت مهرولا إلى الشارع أمشي في الطرقات ولا أدري إلى أين، أنا تعودت أن أكون في الجبال المقدسة بمكة المكرمة، ولم أشعر إلا وأنا في حديقة الحيوانات، أذرف الدمع السخين، وكتبت يا ابنتي تلك القصيدة بدموع ساخنة وحرقة لأنني بعيد عن مكة، ولارتباطي مع المطبعة لم أستطع السفر”».
وكنت قد نقلت هذه القصة لأول مرة في لقائي مع صحيفة الوطن الذي نشر في 14 ذو الحجة 1439هـ (25 أغسطس 2018م) بعنوان «سبط الزمخشري يكشف زخم الحج في شعر جده». وقد يعود سبب ذلك التداخل إلى بعد الزمن ما بين سماعها للقصة من الأديب وتاريخ روايتها لي.
وعلى أي حال للتوثيق التاريخي للقصيدة والأغنية يجب الاستناد إلى القصة التي رواها الأديب بنفسه في لقائه الإذاعي المذكور.
وأما عن قصة تلحينها وغنائها من قبل الموسيقار طارق عبد الحكيم فقد روى الأديب -رحمه الله- أنه عندما كان يشغل وظيفة مراقب فني استوديوهات ومدير عام مساعد للبرامج في الإذاعة كان يعمل مع الموسيقار طارق عبد الحكيم على عمل فواصل موسيقى صامتة للإذاعة كبديل عن الموسيقات الغربية المستخدمة آنذاك، بحكم أنه كان موسيقارًا سعوديًا معروفًا ويرأس مدرسة موسيقات الجيش السعودي، وبينما كنا يناقشان هذا الأمر في مكتبه بالإذاعة وقعت عيني طارق عبد الحكيم على ديوانه الجديد «أغاريد الصحراء 1378هـ/1958م» فأخذ يتصفحه ولفتت انتباهه قصيدة «إلى المروتين» فأعجب بها واستأذن الأديب بأن يلحنها ويغنيها فوافقه على ذلك فاختار عبد الحكيم 12 بيتاً ولحنها على الدانة الحجازية وغناها بإحساس عالٍ رقيق عكس من خلاله مشاعر شوق وحنين طاهر زمخشري لمكة وشجونه لبعده عنها -خصوصًا- في موسم الحج. وأرخت أرشفة الأغنية في إذاعة جدة بتاريخ (20/02/1388هـ – 06/05/1968م)، وإن كان بعض النقاد يعتقد أن لحنها يعود في الأساس إلى فنان الحجاز الشريف هاشم العبدلي قبل نحو مئة عام.

أهيِمُ بروحي على الرَّابِيَهْ *** وعند «المطافِ»، وفي «المروتَيْن»
وأهفو إلى ذِكَرٍ غاليهْ *** لدى «البَيْتِ» «والِخيفِ» والأخْشَبَيْن
فأُهدرُ دمعِي بآماقيهْ *** ويَجْري لظاه على الوجنَتْين
ويصرخ شوقي بأَعْماقيهْ *** فأرسِل من مُقْلتي دمعتَيْن
أهيِم وفي خاطري التَّائِه *** رُؤَى بلدِ مشرقِ الجانبيْن
يطوف خيالي بأنحائه *** ليقطع فيه ولو خطوتين
أُمَرِّغُ خدِّي ببطحائه *** وأَلمسُ منه الثَّرَى باليدين
وأُلقي الرِّحَال بأفيائه *** وأَطْبَع في أرضه قُبلتين
أهيِم، وللطير في غُصْنهِ *** نواح يُزغرد في المسمَعيْن
فيشدو الفؤادُ على لَحْنهِ *** ورَجْعُ الصدَى يملأ الخافقين
فتجري البوادرُ من مُزْنِهِ *** وتُبْقي على طَرْفِه عَبْرَتَين
تُعيدُ النشيدَ إلى أُذْنهِ *** حنينًا وشوقًا إلى «المروتين»
وردًا على سؤال وصلني عما هي المروتين لأنه لا يوجد إلا مروة واحدة فما هي المرة الثانية؟ والجواب المراد بالمروتين (الصفا والمروة) وقد وردت بهذا اللفظ في عدد من القصائد العربية القديمة ومنها لامية أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:
أَشواطِ بَينَ المَرْوَتَينِ إلى الصَّفا *** وما فيهما من صورةٍ وتَماثِلِ
ويعرف ذلك في اللغة العربية بالمُثنّى التغليبي بتغليب الأخف نطقًا كما في قولهم العُمرين وهما: (أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب) رضي الله عنهما، أو الوالدين الأبوان والمقصود هنا: الأب والأم، فالمتغلب هنا هو الأب، أو القمرين، والمقصود بهما: الشمس والقمر، أو المروتين وهنا تغليب الأنثى في التّثنية والمقصود جبلي (الصفا والمروة).
وأما (الرابية) فقد عرفها الصديق (الصعيدي) بأنها غرفة أو سكن لبابا طاهر في مكة المكرمة كان يخلو فيها بنفسه وقد أطلق عليها اسم الرابية لأنها تطل من موقعها في جبل هندي بمكة المكرمة على المسجد الحرام لذلك حنت نفسه للرابية التي منها يرى المطاف والمروتين فكان مطلع القصيدة (أهيم بروحي على الرابية). فمن المعروف أن الأديب -رحمه الله- عاش جزء من حياته في مكة المكرمة في بيت عدس الذي تعود تسميته نسبة لمالكيه (آل عدس) بحي الشامية بجبل هندي المطل على الحرم.
والواقع إن القصيدة تعد إحدى أهم الظواهر الإبداعية في شعر طاهر زمخشري حتى أن الأديب أ.د عبد الله باقازي (عضو هيئة التدريس السابق بقسم الأدب في جامعة أم القرى) -رحمه الله- قال عنها: «اعتمدت قصيدة: «إلى المروتين» أنموذجاً شعرياً تحققت من خلاله كل المظاهر الشعرية في شعره.. كانت قصيدة «إلى المروتين» –في رأيي– هي قصيدة الاغتراب ومحاولة الوصول إلى «التوازن النفسي» في رحلة الاغتراب المرضية.. كانت الدلالات الثنائية التي تفوقت على الدلالات المفردة تومئ إلى محاولة «التوازن» التي كان الزمخشري يقوم بها..».
وأما عن مكانة القصيدة وشاعرها كان الإعلامي الصعيدي قد نقل في منشوره «وللحديث بقية..(50)» تعليقا للإعلامي المصري المعروف إبراهيم خلف قال فيه: «لم أسمع أن بابا طاهر غنّى أو لحن.. بل الذي أعرفه أنه شاعر وأديب وقصّاص من الدرجة الأولى في زمن الاتجاه نحو الكمال وتطور الموسيقى في المملكة، لكن يكفيه فخر شهادات المعاصرين له من العيار الثقيل مثل عبد الله السليمان ومحمد سرور صبان، لكن طارق الحكيم رحمة الله عليه ربما هو الذي تلقفه بما يليق بمقام واحد مثل الزمخشري في ستينيات المملكة بقصيدته الجبلية (المروتين) وكانا شابين، وكانت قصيدة ثقيلة الوزن والمقام بأبعادها المكانية والزمانية .. (المروتين) عبارة عن لقاء السحاب الذي سجل فيها الزمخشري والحكيم عذابات الغربة وأنين الفراق، والذي أعلمه أن ناجي والعقاد وطه حسين أشادوا بهذه القصيدة على حد علمي..».
وبرأيي إن الإبداع الأدبي والفني في القصيدة وغنائها جعلها تعيش إلى عصرنا الحديث كرائعة أدبية وفنية متجددة حتى أن فرقة الكورال الوطني السعودي اختارتها ضمن «روائع الموسيقى السعودية» التي قدمتها في المحافل العالمية من بينها حفل هيئة الموسيقى السعودية وهيئة المسرح والفنون الأدائية الذي أقيم على المسرح الوطني بعاصمة المكسيك «مدينة مكسيكو» في يونيو 2023م برعاية الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة، كما تغنت بها الفنانة الصاعدة أروى السعودية في مهرجان الغناء بالفصحى لعام ٢٠٢٣م الذي تنظمه وزارة الثقافة سنويًا. كما أنتجت الوزارة أيضًا بمناسبة موسم حج عام 1444هـ (2023م) مقطع فيديو تضمن مشهدًا تمثيليًا حاكا قصة كتابة الأديب للقصيدة وإلقاء أبيات منها ومن قصيدة «لبيك رب العالمين» ونشرت المقطع على حسابها الرسمي في 08/12/1444هـ وحصد المقطع حتى تاريخه 17.4 مليون مشاهدة.
والأمر الذي يجدر ذكره هو أن قصيدة «إلى المروتين» ليست هي الوحيدة التي نظمها الأديب للحج وتغنى بها عدد من الفنانين العرب، بل هناك قصائد أخرى من بينها «فضل الله» التي نظمها بمناسبة الاحتفال بتركيب باب الكعبة الجديد (15 ذي الحجة 1366هـ – 31 أكتوبر 1947م) ولحنها وغناها الموسيقار غازي علي، و«لبيك 1381هـ-1961م» لحنها وغناها الموسيقار طارق عبد الحكيم، وتغنت بأبيات مختلفة منها الفنانة السورية مها الجابري بألحان الملحن اللبناني حسن يحيى غندور. ولكن تظل «المروتين» الأكثر شهرة وانتشارًا في أرجاء الوطن العربي حتى الآن.
وحبذا لو اختير بعضًا من أبياتها وعلقت في أحد أهم مداخل مكة الرئيسة المؤدية إلى الحرم، وإدراج القصيدة ضمن مقتنيات متحف الحرمين الشريفين بمكة المكرمة، لما لها من دلالة على المكان والزمان.
الرابط المختصر لهذا المقال:
كاتب ومؤلف، ومهتم بتدوين سيرة الأديب طاهر زمخشري وأعماله، خبير في مجال خدمات الإعاقة البصرية، أمين عام جمعية إبصار سابقًا، ومدرب مضيفين سابق في الخطوط السعودية.