قبل نحو 50 عامًا ابتهج شاعرنا الراحل طاهر عبد الرحمن زمخشري رحمه الله. مع الشعوب العربية والإسلامية بنصر العاشر من رمضان أكتوبر 1973م. ونظم قصيدته “يا ضمير الإنسان” ومهرها بقوله: (إلى الجندي العربي الباسل الذي شارك في حرب رمضان المبارك) وجاء في مطلعها:
يا ضمير الإنسان إن دمانا *** قد تلظت مسعورة في حمانا
تطلب الثأر صارخاً من طغاة *** دنسوا الأرض غدرة لا طعانا
وتباهوا بأنهم قد اصابوا *** ما أرادوا فالجموا خذلانا
بعد أن أرهفوا العداء سلاحا *** زاده الحقدُ فيهمُ عنفوانا
ومن المؤكد. أن شاعرنا رحمه الله ما كان ليتخيل أن يأتي يومًا بعد ذلك النصر. وتستشهد فيه امرأة فلسطينية أربعينية من ذوات الإعاقة البصرية وأرملة لستة أيتام في اليوم السابق للاحتفال بنصر العاشر من رمضان. وإلا لكان قد غير مضمون قصيدته وعنونها بـ «يا خسارة ضمير الإنسان» ومهرها إلى ” الجندي الإسرائيلي الخائف”.
ذلك الجندي الذي غاب ضميره. فلم يرحم تلك المرأة الفلسطينية «غادة سباتين» ضعيفة البصر والسمع. من رصاصتي بندقيته التي قتلتها بدم بارد. في يوم الأحد التاسع من رمضان 1443هـ. عند نقطة عسكرية يقيمها الجنود الإسرائيليون. في الشارع الرئيسي المؤدي إلى قرية حوسان غرب محافظة بيت لحم الواقعة إلى الجنوب من القدس. وتركوها تنزف حتى الموت، ومنعوا المارة من الاقتراب منها. وذلك بعد أن انكفأت على وجهها وأمسكت قدمها المصابة لدقائق. جالسة على قارعة الطريق بين الرمال طالبة النجدة. وبقيت هكذا حتى نزفت آخر قطرة من دمائها، وسقطت مفارقة الحياة بعد توقف قلبها.
وعن ذلك روى شقيقها «علي سباتين» لوسائل الإعلام: “كانت أختي متجهة لزيارة عائلية. وفي طريق عودتها تفاجأت بوجود الجيش على النقطة يمارس هوايته في مضايقة المارة. سارت الأربعينية لكن لضعف نظرها سلكت الطريق الذي يتجه نحوهم دون أن تراهم جيدًا. فهي لا ترى في إحدى عينيها وتعاني الثانية من ضعف شديد”.
وأضاف: “لقد انتزعنا أختي انتزاعا من بين أنياب الجنود ونحن في المستشفى. فقد كانوا يريدون مصادرة الجثمان فبادرنا إلى دفنها بسرعة”.
وكانت وسائل الإعلام قد غطت تشييع جنازتها والصلاة عليها في مسجد القرية بعد عصر ذلك اليوم. ودفنها في مقبرة العائلة بالقرية قبل الغروب. لتلحق بركبان شهداء الشهر الكريم رمضان شهر الانتصارات منذ غزوة بدر.. تاركة ورائها ذلك السؤال الكبير. “أين أنت يا ضمير الانسان…؟!”
وكانت وزارة الصحة الفلسطينية. قد أصدرت بيان صحفي نقلته وكالة أنباء الشرق الأوسط: إن المواطنة وتدعى غادة إبراهيم على سباتين. وهي في العقد الرابع من عمرها. وصلت إلى مستشفى “بيت جالا” الحكومي. وهي تعاني من قطع في شريان الساق. إضافة إلى فقدان كمية كبيرة من الدم. ما أدى إلى استشهادها، مُتأثرة بإصابتها.
وبدوره، أدان رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، تلك الجريمة البشعة محملًا الحكومة الإسرائيلية كامل المسؤولية عن تبعاتها. وأضاف أن إرهاب الدولة المنظم الذي تمارسه إسرائيل، يوجب على المنظمات الحقوقية الدولية إدانته والعمل على وقفه.
وما استرعاني من قصة الشهيدة غادة. هو إنها من ذوات الإعاقة البصرية. فأنا من المهتمين بذوي الإعاقة البصرية وقضاياهم. وهذه القصة تمثل قضية ضعيفة بصر وسمع. كانت ضحية الخوف والجبروت الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين.
إنها قصة مأساوية ما كانت لتحدث لو كان هناك ضميرًا إسرائيليًا حيًا.. يستمع لما قاله شاعرنا «طاهر زمخشري» في قصيدته:
يا ضمير الإنسّان إنّا كما كنا *** نلبى النداء إن ما دَعَانًا
نقَهرُ الصعْب لا نُريدُ عداء *** ونعْد الرّدى لمن عادانا
ونشيد السّلآم صرحا على القوة *** يبقى موطّدا أركانا
لا هُراء كما يريد التلاحى *** بل نضالًا نُجيدُ فيه الطْعانا
ولعله من المفيد أن أذكر أخوتنا في الأراضي الفلسطينية من ذوي الإعاقة البصرية. بأن يستخدموا عصيهم البيضاء في تنقلاتهم. فلعلها بعد الله تكون سببًا في حمايتهم من بعض المخاطر والاضرار التي قد يتعرضون لها وذلك من باب الأخذ بالأسباب.
الرابط المختصر لهذا المقال:
رحمة الله على الشهيدة غادة وجميع الشهداء الابرار.. انما الحياة دار ممر وقد عبروها بشرف وشموخ الى دار الخلود . ويبقى الذل والعار للجبناء الذين تجردوا من ضمائرهم وإنسانيتهم فلم يرحموا شيخا ولا طفلا ولا امرأة.