تابعت مؤخراً باهتمام بالغ على شاشة التلفزيون مشهد لم أعهده من قبل وهو الخروج العفوي لجموع الجماهير الفلسطينية (أطفال، شباب، شيبان) إلى شوارع غزة ومدن الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة، وعموم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، في تمام الساعة الثانية من فجر الجمعة 21 مايو 2021م – 09 شوال 1442هـ، احتفالاً وابتهاجا بما اعتبروه انتصارًا للمقاومة الفلسطينية على الجيش الإسرائيلي في المعركة التي أطلقت عليها المقاومة “سيف القدس” بعدما أعلنت الحكومة الإسرائيلية وقفًا لإطلاق النار غير مشروط بوساطة مصرية لعمليتها العسكرية على غزة “حارس الأسوار” التي استمرت 11 يومًا وأودت بحياة أكثر من 243 فلسطينيا بينهم 66 طفلا، وإصابة أكثر من 1900 شخص. ومقتل 12 إسرائيلي وإصابة 335 شخص.
كما أفرحني كثيرًا الموقف المشرف لبلادنا المملكة العربية السعودية بترحيبها بإعلان وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وتثمينها للجهود المصرية والأطراف الدولية الأخرى التي ساهمت في ذلك. وتطلعها إلى تضافر الجهود لإيجاد تسوية عادلة للقضية الفلسطينية وبما يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني الشقيق في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وفق قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية. وتأكيدها على مواصلة مساعيها بالتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة لتحقيق ذلك. بالإضافة إلى إدانتها وشجبها للاعتداءات والإجراءات الإسرائيلية في مدينة القدس، والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وما أسفر عنه من سقوط للضحايا الأبرياء والجرحى التي جاءت في اتصال هاتفي من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بالرئيس الفلسطيني محمود عباس (الجمعة 21 مايو 2021م – 09 شوال 1442هـ)، وأكد خلاله أن المملكة ستواصل جهودها على كافة الأصعدة لوقف الإجراءات والاعتداءات الإسرائيلية على القدس، من خلال التواصل مع الأطراف الفاعلة لممارسة الضغوط على حكومة الاحتلال الإسرائيلي، وتمنى للشعب الفلسطيني الأمن والسلام.
والحقيقة أن ذلك ليس بغريب على بلادنا، فالمملكة العربية السعودية تعتبر من أكبر الداعمين للقضية الفلسطينية منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز رحمه الله وحتى يومنا هذا. ولها العديد من المواقف التاريخية الدالة على ذلك كإرسالها فرقة كاملة من الجيش السعودي وفتح باب التطوع للشعب للجهاد بجانب إخوانهم الفلسطينيين في حرب الـ 48، واقتراح الملك فيصل رحمه الله بإنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي) في أعقاب جريمة حرق المسجد الأقصى في العام 1969م. ومشاركتها في حرب أكتوبر 1973م ضمن الجبهة السورية في الجولان وتل مرعي. وحظر النفط على الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأخرى التي دعمت إسرائيل في تلك الحرب، مما ساهم في انتصار العرب على إسرائيل.
ولعلي كنت من الأطفال المحظوظين الذين وعوا وأدركوا نشوة فرحة ذلك الانتصار، وهذا ما جعلني استشعر وأتابع فرح آلاف الشباب الفلسطينيين الذين خرجوا للاحتفال في باحات المسجد الأقصى وعامة الأراضي الفلسطينية فرحاً بـ “جمعة النصر”.
وأكثر ما أثار اهتمامي ودهشتي هو رباطة الجأش وقوة العزيمة والإرادة التي تحلى بها قائد كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) صاحب الإعاقة الحركية «محمد الضيف» ذو الـ 56 عام الذي فقد إحدى عينيه في سبتمبر 2002م، وذراعيه وساقيه في يوليو 2006م إثر محاولات اغتيال متكررة من قبل الموساد الإسرائيلي وهو لا يزال حتى الآن أحد أهم المطلوبين لديها بعد فشل محاولتين لاغتياله خلال العملية العسكرية الأخيرة وفق ما نقلته صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية على لسان المتحدث الرسمي للجيش الإسرائيلي العميد “هيدي زيلبرمان” خلال حديثه مع الصحافيين.
ولعله استمد تلك العزيمة من نشأته الدينية بمخيم خان يونس وتعلقه بمساجدها “بلال، الشافعي، الرحمة”، وملهمه الشيخ أحمد ياسين صاحب الإعاقة الحركية الذي أصيب بشلل كلي في شبابه أثناء ممارسته للرياضة، مؤسس حركة حماس، وأكبر جامعة إسلامية في غزة، وأصبح أشهر خطيب مؤثر عرفه قطاع غزة خلال الاحتلال الاسرائيلي لها. وضاقت إسرائيل بنشاطاته ذرعاً فاعتقلته مرتين أخرهما في عام (1409هـ – 1989م) لمدى الحياة و15 عاماً أخرى لاتهامه بالتحريض على اختطاف وقتل جنود إسرائيليين وتأسيس حركة حماس. ثم أطلقت سراحه في عام 1417هـ-1997م في صفقة مع الأردن إرضاء لها بعد محاولة الموساد الفاشلة لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس آنذاك خالد مشعل على أرضها. وأخيرًا اغتالته في عملية بإشراف رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ايريل شارون بإطلاق 3 صواريخ استهدفته وهو على كرسيه المتحرك بعد خروجه من مسجد المجمع بغزة عقب صلاة فجر الاثنين غرة صفر 1425هـ – 22 مارس 2004م
وفي كلتا الحالتين «الشيخ أحمد ياسين» و«الضيف» نموذج للأشخاص ذوي الإعاقة بأهمية التحلي بالعزيمة والإصرار في سبيل تحقيق الأهداف مهما عظمت حتى لو أدت إلى التضحية بالأرواح للدفاع عن الأوطان. ولنا في الصحابي الكفيف عبد الله بن ام مكتوم رضي الله عنه الذي استشهد في معكرة القادسية أسوة حينما قال «أقيموني بين الصفين وحملوني اللواء أحمله لكم وأحفظه، فأنا أعمى لا أستطيع الفرار».
وبالعودة إلى موضوع “سيف القدس” أختم دردشتي بما قاله الأديب طاهر زمخشري رحمه الله بمناسبة انتصار حرب اكتوبر 1973م في قصيدته “يا ضمير الإنسان” التي مهرها بقوله “إلى الجندي العربي الباسل الذي شارك في حرب رمضان المبارك..!!”
يا ضمير الإنسان إن دمانا ** قد تلظت مسعورة في حمانا
تطلب الثأر صارخاً من طغاة*** دنسوا الأرض غدرة لا طعانا
وتباهوا بأنهم قد اصابوا *** ما أرادوا فالجموا خذلانا
نشهد الله والملائك أنا *** ما اندفعنا نريد من والانا
فمن القائد المظفر فينا *** اقتبسنا الإخلاص والإيمانا
فيصل العرب من حمى حوزة *** الدين بما في يمينه فافتدانا
الرابط المختصر لهذا المقال:
كاتب ومؤلف، ومهتم بتدوين سيرة الأديب طاهر زمخشري وأعماله، خبير في مجال خدمات الإعاقة البصرية، أمين عام جمعية إبصار سابقًا، ومدرب مضيفين سابق في الخطوط السعودية.