Share

باقتراح من والدتها اتصلت بي الكفيفة «د. ميادة فيصل آدم إبراهيم» أستاذ مساعد بجامعة الأحفاد للبنات بالسودان عبر الجوال عصر يوم الثلاثاء (20 أغسطس 2024م) من قطر.

وبصوت مفعم بالأمل ذكرتني بنفسها إذ إن آخر لقاء كان بيننا في العام 2014م حينما كانت ملتحقة ببرنامج تدريبي بجمعية إبصار الخيرية للتأهيل وخدمة الإعاقة البصرية بجدة إبان عملي أمينًا عامًا لها، لعلي أستطيع مساعدتها في الوصول لإحدى الجامعات السعودية لمواصلة مسيرتها المهنية في مجال العلوم الصحية، وروت لي ما مرت به من مأساة خلال الحرب السودانية، وكيف نجت مع أهلها من ويلاتها.

فرأيت أنه من المناسب أن أسلط الضوء في هذه السطور المضيئة على قصتها لما فيها من تجربة إنسانية وإلهام لمن يعيشون مآسي الحروب، والمصابين بمرض ارتفاع ضغط السائل الدماغي الذي يعرف أيضًا بـ«ارتفاع ضغط السائل الدماغي الشوكي – Benign increased intracranial pressure»، ومن يعانون من إعاقات البصرية.

 

مرض ارتفاع ضغط السائل الدماغي وفقداني للبصر

ولدت في العام 1981م بأم درمان في السودان. سليمة البصر صحيحة البدن وأنا أكبر إخوتي (الخمسة) والبنت الوحيدة. توفي والدي وأنا في المرحلة الثانوية تاركًا لوالدتي مسئولية رعايتنا. أنهيت دراستي الثانوية بتفوق ما جعلني أحصل على منحة دراسية في جامعة الأحفاد للبنات بأم درمان. وهي من أقوى الجامعات السودانية. واخترت دراسة الطب على أمل أن أسابق الزمن وأصبح طبيبة. فأساعد والدتي في تحمل أعباء الحياة.

صورة لمبنى جامعة الأحفاد للبنات بأم درمان بالسودان

وبينما كنت في السنة الأخيرة من دراستي وأنا في العشرين من عمري حدث ما لم يكن في الحسبان فقد بدأت أشعر بصداع شديد، وغثيان وقيء، وازدواجية في الرؤية -بين الفينة والأخرى-.

شككت من خلال ما تعلمته من دراستي بأني مصابة بأعراض ارتفاع ضغط السائل الدماغي، لكن زميلاتي خالفنني الرأي معتقدات أنني واهمة.

استمرت الأعراض -خصوصًا- ازدواجية الرؤية فراجعت طبيبة عيون بمستشفى المغربي بالخرطوم، وبعدما فحصتني أكدت ما توقعته بأني مصابة ارتفاع ضغط السائل الدماغي، وطلبت مني مراجعة طبيب مختص في المخ والأعصاب، فراجعت طبيبة مختصة أكدت التشخيص، ولأنها في إجازة ذهبت إلى طبيب آخر فأدخلني المستشفى وطلب إجراء فحوصات دقيقة وتأخر في اتخاذ الإجراء المناسب للحالة، وبمرور الوقت تفاقمت حالتي حتى دخلت في شبه غيبوبة. وانقضى نحو شهر وأنا على هذا الوضع.

-في هذه الأثناء- استشارت والدتي طبيبًا سودانيًا يعمل في مستشفى عرفان بجدة، كان في إجازته السنوية، فاطلع على تقاريري الطبية، وأقترح عليها نقلي إلى جدة حيث يوجد زميل له استشاري مخ وأعصاب (د. نارمر عزام) بإمكانه -بإذن الله- علاجي.

وبتعاون من الأسرة وأصدقاء والدي أُنهيت كافة إجراءات سفري إلى جدة وبعد وصولنا نقلت من الطائرة بإسعاف إلى مستشفى عرفان حيث أجريت لي في فبراير 2005م عملية جراحية لسحب السائل الدماغي. وبعد مضي أسبوعين استعدت وعيي تدريجيًا.

غادرت المستشفى على كرسي متحرك وأنا لا أستطيع تحريك أطرافي وفاقدة للبصر، وأوصانا الطبيب بضرورة تمرين أطرافي على الحركة حتى تستعيد قوتها، ومع التمارين استطعت تحريك يدي قليلًا، وعندما علم الطبيب بذلك، طلب مني أن أتوضأ وأداوم على التسبيح بأصابع يدي شكرًا لله وتنشيطا لأعصاب اليدين. فقد كان د.عزام متدينا وخيرًا يوظف الإرشادات الدينية ضمن العلاج الطبي، وعندما علم بظروفنا المادية تنازل عن أجرته في العملية.

في غضون ذلك أخذتني والدتي لأداء مناسك العمرة وأنا على كرسيي المتحرك و-سبحان الله- مع دخولي الحرم بدأت أشعر بارتياح وتحسن..

أدينا العمرة ودعونا الله أن يعيننا على ما أصابنا ويشفيني. بعدها طلبت من والدتي أن تجلسني على الأرض، فأجلستني وشربت ماء زمزم بنية الشفاء اعتقادًا بحديث الرسول ﷺ «ماءُ زَمْزمَ لِمَا شُرِبَ له» أخرجه أبن ماجة، بعدها أحسست بشعور دفعني لتحريك قدمي فحاولت الوقوف ووجدت نفسي أستطيع الوقوف، وكدت لا أصدق وأدمعت عينيَّ فرحًا وشكرت الله على ذلك.

ومن حينها داومت على شرب ماء زمزم لمدة شهر حتى تماثلت للشفاء واستعدت قواي، باستثناء بصري الذي أدركت أنني فقدته تمامًا نتيجة تلف العصب البصري، فكان ذلك بمثابة صدمة لي ولأسرتي.

 

التغلب على العمى

عدنا إلى السودان وأنا متأزمة نفسيًا من فقداني لبصري. كان ذلك مؤلمًا ومحطمًا لمعنوياتي فقد أيقنت أن حلمي بأن أصبح طبيبة قد تلاشى. واسودت الدنيا في عيني، كما أني وجدت نفسي أمام تحدٍ كبير، فكيف سأتابع دراسة إخوتي الصغار وأوجههم، وأساعد والدتي في تحمل أعباء الحياة؟.

مكثت في البيت لنحو ثلاث سنوات، كان كل يوم يمر يثقل كاهلي بالتفكير والقلق على مستقبلي وأسرتي، فانهياري يعني انهيار الأسرة بأكملها، لكن الله منحني القوة والإيمان والثقة بالنفس، وأم تشد من أزري وتحثني على الصبر والمثابرة والتوكل على الله.

تمالكت نفسي وعزمت على إيجاد طريقة تمكنني من مواصلة مسؤولياتي، فسخر الله لي من يعييني على تجاوز تلك المرحلة الصعبة، إذ علم بمشكلتي الكاتب الصحفي (عبد الحميدي مرغني) الذي كان قد فقد بصره منذ سنوات، وسخر نفسه لخدمة المكفوفين طوعيًا بدعمهم معنويًا وتدريبهم على استخدام الحاسوب الناطق، فأصبح يزورني في المنزل ويحثني على استئناف دراستي الجامعية ويدربني على استخدام الحاسوب كوسيلة استعين بها في استكمال دراستي.

وفي نفس الوقت كان رئيس الجامعة (د. قاسم بدري) قد علم من زميلاتي بمشكلتي، فشجعني على العودة للدراسة وأقترح عليَّ تغيير تخصصي إلى العلوم الصحية لأنه قريب من تخصص الطب، وأنه ستتم معادلة السنوات الخمسة التي قضيتها في دراسة الطب بشهادة بكالوريوس في العلوم الصحية على أن أدرس سنة تمهيدية بحكم تغيير التخصص.

وبفضل هذا الدعم، تحسنت معنوياتي واستأنفت دراستي، وحصلت على درجة البكالوريوس بمرتبة الشرف في العلوم الصحية تخصص تغذية. ما أتاح لي فرصة استكمال دراسة الماجستير في نفس التخصص. وفي تلك المدة أصبحت ناشطة في التوعية بمرضي، وأسست بالتعاون مع عدد من أطباء المخ والأعصاب جمعية خيرية تهدف إلى تثقيف المرضى المصابين بمرض ارتفاع ضغط السائل الدماغي الذين يرفضون العلاج فأقوم بنصحهم وإرشادهم وتوعيتهم بخطورة رفض العملية الجراحية والتأخر في العلاج، وكيف أن الإهمال يؤدي إلى مضاعفات خطيرة ومنها العمى. فاستطعنا -بحمد الله- إقناع الكثير منهم وعلاجهم في الوقت المناسب، و-في الوقت نفسه- كان عليَّ متابعة حالتي الصحية بمراجعة طبيبي في مستشفى عرفان بجدة كلما سمحت ظروفنا المادية بذلك.

 

الوصول إلى جمعية إبصار

كان لقائي وتعرفي على د. ميادة بمحض الصدفة البحتة إبان إدارتي لجمعية إبصار الخيرية وذلك حينما كانت في إحدى مراجعتها الطبية لمستشفى عرفان في العام 2014م. وعن ذلك روت “في إحدى مراجعاتي الطبية سافرت برفقة والدتي وسكنا في شقق مفروشة بجانب مستشفى عرفان، وفي أحد الأيام أثناء دخولنا لاحظ مالك الشقق الذي كان متواجدًا بالصدفة في الاستقبال أنني كفيفة فعرفنا بنفسه (حسن نايته) وكان لطيفا ومتعاطفًا معنا، واقترح عليَّ أن أذهب إلى جمعية إبصار للمكفوفين التي تعمل ابنته (هويدا) محاسبة فيها فسيقدمون لي الكثير من الخدمات، وزودني برقم جوالها.

ترددت كثيرًا في الاتصال فأنا لم أحتك بأي جمعية للمكفوفين من قبل ولم يخطر في بالي ماذا يمكنني أن أحصل عليه من جمعية للمكفوفين، وعلى أي حال اتصلت بها وأخبرتها بما قاله لي والدها فأعطتنا العنوان وذهبنا إليها فرحبت بنا وأرشدتنا فيما يجب عمله وقدمتني إلى مديرها”.

عندما حضرت د.ميادة إلى مكتبي مع والدتها حدثتني عن قصتها وألهمتني بتجربتها فقررت أن أقدم لها ما هو متاح من خدمات ومساعدات في الجمعية آنذاك. فأدرجناها في برنامج تدريبي مكثف لمدة أسبوعين (التقنيات المساندة، برايل، التوجه والتنقل الآمن)، وأمنا لها سكن في شقق مفروشة بجانب الجمعية ومساعدة نقدية للإعاشة، وصرفنا لها جهاز حاسب محمول مزود بقارئ شاشة «نظام إبصار»، وعصا بيضاء.

وكان آخر لقاء لي بها بعدما أنهت تدريبها وغادرت مع والدتها عائدة إلى السودان بعد تجربة قالت عنها “لقد كانت الأسبوعين الذين قضيتهما في إبصار بمثابة منعطف مهم في حياتي فقد ألهمتني تجارب الكثير من المكفوفين الذين التقيت بهم وشجعتني على المضي قدمًا… كما كان تدريبي على استخدام جهاز الأيفون ومنحي جهازًا محمولًا ناطقًا بمثابة إضافة نوعية لمسيرتي الأكاديمية والمهنية، فقد عدت إلى السودان بحماسة عالية واستكملت دراساتي العليا وحصلت على شهادة الماجستير.

وعلى الفور عينتني الجامعة كمحاضرة في كلية العلوم الصحية فدرست مقررات تخصصية متعددة، بالإضافة إلى تنسيق (برنامج التدريب العملي للمستشفى لطلاب الماجستير في تخصص التغذية).

وفي نفس الوقت واصلت دراسة الدكتوراة في العلوم الصحية بكلية التربية بجامعة الخرطوم وحصلت منها على شهادة الدكتوراه في نفس تخصصي، فرقيت إلى أستاذ مساعد بجامعتي، وأصبحت لاحقا مشرفة على مشاريع البحوث لطلاب السنة الأخيرة في الكلية، واختصاصية تغذية مسجلة، واكتسبت خبرة كبيرة في تطوير المناهج الدراسية.

وزدت من نشاطاتي في العمل الاجتماعي بالتوعية وتسهيل خدمات الرنين في مراكز طبية لغير القادرين، وشاركت في تأسيس الجمعية السودانية لاختصاصي التغذية والتغذية العلاجية، وانتسبت لعضوية العديد من المنظمات المحلية والعالمية وشاركت في دوراتها، ومؤتمراتها، بالإضافة إلى المناسبات والفعاليات كاليوم العالمي للمرأة ويوم الغذاء العالمي وغيرها.

شهادة شكر من جامعة الأحفاد للبنات لـ د.ميادة لمشاركتها في يوم الغذاء العالمي 2021

وهكذا تغلبت -بحمد الله- على مشكلة فقداني للبصر، واستكملت حياتي بصورة طبيعية، وبنيت طموحات وآفاق جديدة، واكتفيت ماديًا بما مكنني من القيام بمسؤوليتي تجاه أسرتي.

 

مأساة الحرب والنجاة منها

كان شهر أبريل من العام 2023م بمثابة منعطف غير حياتي رأسًا على عقب بعد تلك المسيرة الحافلة. إذ إنه وافق شهر رمضان الكريم الذي كنت فيه في إجازة من عملي بناء على نصيحة من طبيبي. فبينما كنا كسائر الأسر السودانية نستعد لاختتام الشهر الكريم واستقبال عيد الفطر المبارك استيقظت صبحية يوم السبت 24 رمضان 1444هـ (15 أبريل 2023م) على رسائل مجموعات الجامعة على الواتساب، كانوا يتحدثون عن أحداث غريبة ومثيرة وهي سماعهم لأصوات إطلاق نار في الخرطوم، واشتباكات وتحركات عسكرية على مقربة من جامعتي. وأخبار عن محاولة اغتيال الرئيس.

أصبت بالصدمة والذهول فلم أستوعب ما يدور فأيقظت من في البيت وفتحنا التلفاز على قناة الجزيرة لاستطلاع الأمر، وإذ بنا نفاجئ بأخبار عن اندلاع حرب بين القوات المسلحة السودانية بقيادة رئيس المجلس السيادي السوداني (عبد الفتاح البرهان)، وقوات الدعم السريع بقيادة نائبه آنذاك محمد حمدان دقلو (حميدتي). الذي كان يتحدث عبر التلفاز، وأخبار عن أصوات إطلاق نار في محيط مبنى الإذاعة والتلفزيون لمحاولة السيطرة عليه. ومشاهد الناس هائمون على وجوههم يهرولون في الشوارع لا يعلمون ماذا يدور ولا إلى أين يذهبون، فالجسور أغلقت، والطرق قطعت.

كان منزلنا يقع في حي الثورة بأم درمان على مقربة من أكبر معسكر للجيش في (وادي سيدنا) وبه قاعدة جوية للطائرات الحربية. وكذلك على مقربة من المعسكر الرئيس لقوات الدعم السريع. فكنا نسمع زخات الرصاص وأصوات المدافع قريبة جدًا منا، فأدركنا أن موقعنا خطير لقربة من المعسكرين.

وفي اليوم التالي تسارعت الأحداث فكنا نسمع هدير المقاتلات وقصفها ودوي المدافع وأصوات الرشاشات فوقنا، ونرى شظايا القذائف تتطاير من حولنا وفي حوش بيتنا. ودب الرعب فينا فتجمعنا في غرفة واحدة أنا وأمي وإخوتي وزوجة أخي، واختبائنا تحت الأسرة حماية لأنفسنا فيما لو أصيب بيتنا بالقصف، ومع ذلك حمدت الله كثيرًا على أن الحرب اندلعت وأنا في البيت، فزميلاتي وجميع منسوبي الجامعة في بحري والخرطوم الذين كانوا على رأس العمل حوصروا داخل الجامعة وكانوا صائمين ونفد ما لديهم من طعام وشراب واستمروا على هذا الحال لمدة أسبوع.

وعلى مدى الأيام التالية ازداد الوضع سوءًا، وساد الرعب في كل مكان، وانعدم الأمن حيث تعرضت المتاجر والبنوك للنهب والسلب، وفُرض حظر التجول، وانقطع التبادل التجاري وخلت المدن من السلع بسبب إغلاق الكباري، وتوقفت الوظائف والأعمال وشلت حركة البلد بالكامل.

أصبحت حياتنا بمثابة معاناة حقيقية قد يصعب تصورها، إذ بدء مخزون المؤنة الغذائية ينفد من بيتنا. فأصبحنا نقتصد ولا نأكل إلا وجبة واحدة في اليوم، لأننا لا نستطيع الخروج لشراء ما قد نحتاجه من طعام أو شراب. لأنك لو حاولت حتى فتح باب البيت قد تتعرض للاعتداء من قبل أحد المتحاربين.

والأصعب من ذلك كله عدم قدرتنا على توفير أدوية الضغط والسكر لوالدتي أو أخذها إلى المستشفى. فالأدوية أصبحت تُجلب من الولايات الأخرى بأسعار باهظة. ومراجعة المستشفى مخاطرة كبيرة بالحياة فقد هوجمت المستشفيات التي أبقت أبوابها مفتوحة واعتديَّ على من فيها من مرضى وأطباء، بالإضافة إلى انتشار الرعب بين الناس بسبب ما أشيع من حكايات عن جرائم ضد المدنيين من قتل وسلب وخطف واغتصاب.

صبرنا على ذلك الواقع المرير لمدة ثلاثة أشهر حتى أصبح لا يحتمل فقررنا النزوح كمعظم الأهالي الذين كانت ظروفهم تمكنهم من ذلك، فنزحنا إلى ولاية «شندي» التي لم تصلها الحرب وأقمنا بها لمدة شهر.

ولارتفاع الإيجار بسبب تكدس النازحين اضطررنا إلى الرجوع لبيتنا في أم درمان، فكانت الأوضاع أشد سوءًا فالجيش قد أخلى المنطقة فاحتلتها مليشيات من المرتزقة عاثت فيها فاسدًا من حيث مداهمة البيوت والسلب والنهب، واغتصاب، النساء، والقتل، والخطف.

وحدث ما جعلنا نتخذ قرارًا بمغادرة البلاد بحثًا عن الأمن والأمان حيث اقتحم في أحد الأيام نفر من المرتزقة بيت جدي الذي كان يبعد عنا 15 دقيقة مشيًا على الأقدام، ويسكنه خالي المسن مع زوجته وبناته، فقيدوه وحبسوه في الحمام، وسلبوا ما في المنزل وهبوا لاغتصاب بناته وزوجته، ولكن -بلطف الله- ثم صرخاتهم للاستغاثة سارعت قوات من الشرطة العسكرية بإطلاق وابل من الرصاص تجاه البيت فخاف المرتزقة وهربوا. وهكذا نجوا وفتحوا الباب على خالي وفكوا قيده لكنه للأسف سقط مغشيا عليه وتوفي إثر جلطة أصابته من هول الصدمة، وعندما علمت والدتي بالأمر أصيبت بانهيار وحزن شديد جعلها لا تنام الليل ولا النهار من هول الصدمة والحزن عليه -خصوصًا- وأنها لم تستطع حتى حضور جنازته.

أصبح وضعنا متأزمًا جدًا فقد نفد كل ما لدينا من مال وليس لدينا أي مصدر دخل لتوقف الأعمال وأوشكت مؤونتنا الغذائية وأدوية وعلاج لوالدتي على الانتهاء، ولا نعرف متى وكيف ستنتهي الحرب، وهكذا لم يبق أمامنا سوى خيار بيع سيارة أخي وكل ما نملك من ذهب واللجوء إلى أي بلد آخر نجاة بأنفسنا من ويلات تلك الحرب.

 

اللجوء إلى قطر والبحث عن المستقبل

كانت جميع سفارات الدول قد أُغلقت ولا توجد أي بلاد مفتوحة للسفر إليها مباشرة، باستثناء دولة قطر التي أتاحت إمكانية الحصول على تأشيرات لجوء عبر الإنترنت والسفر إليها عبر مطار بورتسودان، واستكمال بقية الإجراءات في مطار الدوحة.

فسبقنا أخي إليها قبل مغادرتنا بشهر ليرتب لنا الأوضاع من سكن وإقامة… إلخ، وبعد أن استكمل كافة الترتيبات غادرنا أم درمان إلى بورتسودان لأن مطارها كان الوحيد المفتوح وبه كافة الخدمات، فمطار الخرطوم الذي يبعد عن بيتنا ساعة واحدة كان مدمرًا ومعطلًا.

كان سفرنا إلى بورتسودان طويل وشاق جدًا ومحفوف بالمخاطر استغرق منا 5 أيام في الوقت الذي يستغرق في الظروف العادية 12 ساعة بالحافلة.

سرنا إلى «شندي» ثم إلى «عطبرة» حتى وصلنا إلى بورتسودان، عبر طرق خلفية والتفافية غير آمنة ومعدومة التسهيلات والخدمات، والمليشات وقطاع الطرق منتشرين في كل مكان، لكننا استعنا بالله وقراءة القرآن الكريم طيلة الرحلة تحصينًا لأنفسنا من التعرض لأي أذى أو شرور، فقد اضطررنا للمبيت في العراء لمدة ليلتين لنفاد الوقود.

وصلنا إلى مطار بورتسودان متأخرين عن موعد الرحلة فاضطررنا للمكوث فيها لمدة أسبوع. كانت المدينة مكتظة بالنازحين، ومعظم الفنادق والمساكن مشغولة، والشاغرة منها باهظة الثمن فتواصلت مع إحدى طالباتي في الجامعة التي كانت من أهالي بورتسودان، وأخبرتها بوضعنا فاستضافونا في منزلهم رغم صغره حتى جاء موعد الرحلة. وكانوا مضربًا للمثل في الكرم والضيافة والوقوف الإنساني مع المتضررين من الحرب كمعظم أهالي بورتسودان الذين فتحوا بيوتهم للنازحين ومساعدة المتضررين.

غادرنا بورتسودان بعد ستة أشهر من اندلاع الحرب وأنا أفكر فيما سيؤول إليه مصيرنا فنحن ذاهبون إلى عالم المجهول حيث إننا لا نعرف أحدًا في قطر، ولا كم سنمكث فيها، أو كيف سنعيش!؟، ولكن كان كل ما نبحث عنه ونريده هو الحصول على الأمن والأمان، وطلب الرزق والاستقرار ومعالجة والدتي وتوفير الدواء لها.

وصلنا إلى قطر واستقررنا فيها بعد تلك المعاناة والمآسي التي عشناها من الحرب واستطاعت والدتي أن ترتاح وتنام، ووفرنا لها العلاج والدواء، وكان أخي قد حصل على وظيفة مؤقتة.

ومع بداية إقامتنا التمست وجود اهتمام بالأشخاص ذوي الإعاقة عبر الجمعية القطرية لتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة التي ذهبت إليها وحصلت منها على بطاقة تمنحني جميع حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة ووجهوني للذهاب إلى مركز النور ومركز قطر الاجتماعي والثقافي للمكفوفين وقد استفدت منهم كثيرًا في برامج التدريب وتقديم المحاضرات وشاركت معهم بقصتي في عدد من الفعاليات. وفي نفس الوقت بدأت البحث والتنقيب عن عمل أواصل منه مسيرتي المهنية وأحصل منه على مصدر دخل نقتات منه. فبدأت بجامعة قطر لأن بها تخصصي، وعندما لم يحالفني الحظ فيها طرقت أبواب المعاهد والمدارس الصحية للتدريس في مجال العلوم الصحية، وراسلت عددًا من الجامعات في كل من عُمان والسعودية واليمن لعلي أجد عملاً أنطلق منه من جديد، بعد ما سلبت مني تلك الحرب الهوجاء كل أحلامي وطموحاتي وتركتني وأسرتي سائرين نحو مستقبل مجهول.

وبدوري لا أجد أبلغ من أن اختم به هذه القصة من قوله تعالى:

﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج:46)

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155).

﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج:40).

الرابط المختصر لهذا المقال:

عدد المشاهدات 110
Share