كتبت هذا المقال ونشر في صحيفة غرب الإخبارية بتاريخ 2019/11/20م
جمعتني الصدفة في خريف العام 1996م بالالتقاء والتعرف على الأديب والكاتب الراحل محمد صادق دياب الذي تعاطف مع قضيتي مع فقدان البصر والعمل آنذاك فبادر بتناولها في برنامجه ((من السعودية مع التحية)) الذي كان يعده لقناة ART عبر فقرة حاورني فيها مقدم البرنامج الإعلامي المخضرم عدنان صعيدي، وكانت المرة الأولى التي أظهر فيها على شاشة تلفزيونية، وعلى إثر الحوار الذي دار بيننا قبل التسجيل فوجئت به يقدمني للمشاهدين على أنني كاتب ومؤلف بعد أن علم أنني أحلم أن أكتب كتاب عن جدي الأديب الراحل طاهر زمخشري بعنوان ((بابا طاهر حكايات وذكريات)) ويومها لم أكن قد كتبت حتى صفحة واحدة، وعقب الحلقة عقدت العزم في قرارة نفسي بأن أصبح مؤلفاً حتى لا أخذله وانطلقت شاقاً طريقي مع التأليف، ولم تجمعني الفرصة للالتقاء به ثانية.
وبينما كنت أوقع على نسخ الضيوف في حفل تدشين كتابي ((حصاد الظلام)) ليلة البارحة فوجئت بصوت يسألني قائلاً ((هل عرفتني، أتذكر التقينا قبل نحو 20 سنة))، فصمت لوهلة مسترجعاً ذاكرتي ثم أجبته بالتأكيد! تذكرتك وتقديمك لي في أول إطلالة تلفزيونية لي على أنني كاتب ومؤلف ولم أكن حينها قد ألفت سطراً واحداً، فتبادلنا الحديث والصور التذكارية وتوادعنا على أمل الالتقاء مرة أخرى، وفوجئت بمنشوره على حسابه في الفيس بوك الذي أرسله لي صباح اليوم، ولجمال معناه وما فيه من وفاء ومشاعر صادقة أحببت أن أشارككم اياه كما نشره:
((كان من حسن حظي أثناء حياتي العملية مذيعا في الإذاعة السعودية ومتعاونا مع صحيفة البلاد تعرفي على كثير من الشخصيات التي تكبرني سنا ومقاما وعلما وفضلا وثقافة وادبا في مختلف المجالات، وهو لا شك رصيد كبير من المعرفة والتجربة استفدت واستفيد منه حتى الآن، فلقد كان لكل شخصية ما يميزها عن الأخرى بل انك تجد من صفاتهم او انتاجهم ما يكون سببا في تميزهم فضلا عن تميز شخصياتهم بصفة عامة.
من تلك الشخصيات أحد رواد أدب الأطفال في المملكة العربية السعودية الشاعر الكبير طاهر عبد الرحمن زمخشري ( بابا طاهر) . . نعم هو شاعر كبير وله عدد من الدواوين لكن ابتهال رباه الذي تغنى به الفنان سعيد أبو خشبة وأغنية المروتين التي غناها الفنان طارق عبد الحكيم ميزتا الشاعر طاهر زمخشري لدى كثير من عامة الناس، وكان طاهر زمخشري من أوائل من عملوا بالإذاعة السعودية لكن اهتمامه ببرامج الأطفال ميزه لدي المجتمع الذي أصبح ابناؤهم الصغار المشاركون في برنامج ركن الأطفال أو المستمعون إليه رجالا بارزين في المجتمع، وكان طاهر زمخشري اديبا لكن مجلة الروضة التي أصدرها خاصة بالأطفال ميزته في عالم الأدب، وكان طاهر زمخشري ككثير من الأدباء تربطه علاقة طيبة مع الوسط الفني وتغنى اشعاره وما يكتبه خصيصا للغناء لكن تلحينه لأغنية ( جيب القول ) بإسم رياض صالح ـــ كما أعلن ذلك أستاذنا الدكتور بدركريم يرحمه الله في اثنينية الشيخ عبد المقصود خوجه ـــ، ومساندته للفنان محمد عبده ثم تقديمه الفنانة التونسية عايدة بوخريص أيضا ميزه عن اقرانه من الأدباء.
غير أن أكثر ما لفت نظري في شخصية الأستاذ طاهر زمخشري هو تفاؤله الدائم وسخريته ونبرة السعادة التي كنت أشعر بها حين يتحدث حتى وإن كان الحديث عن معاناته، ولم اسمع له يوما عبارات تأفف او تبرم يقول في احدى قصائده:
حسبي من الحب اني بالوفاء له
امشي واحمل جرحا ليس يلتئم
وما شكوت لأني ان ظلمت فكم
قبلي من الناس في شرع الهوى ظلموا
حتى عندما وقف خطيبا بعد تسلمه جائزة الدولة التقديرية سخر ــ بطريقة غير مباشرة ــ ممن استخفوا به يوما بسبب لونه فقال : ( انا طاهر زمخشري المعروف كما قيل عني كومة من الفحم سوداء تلبس ثيابا بيضاء تقول شعرا قصائده حمراء وخضراء وصفراء . . فمن قصائدي البيضاء ان اغني للحب وان اغني للوفاء ) فميزته هذه الكلمات عن بقية المكرمين في ذات الحفل.
يقول في إحدى قصائده:
أبكي وأضحك والحالات واحدة
أطوي عليها فؤاداً شفه الألم
فإن رأيت دموعي وهي ضاحكة
فالدمع من زحمة الآلام يبتسم
نعم كان ارتجاج صوته بسبب كبر سنه ومرضه يشعر سامعيه بألم لكن من بين كل ذلك الارتجاج في الصوت تسمع ضحكته وتندره على معاناته، وكما يقال: ( الشيء بالشيء يذكر ) وفي العامية ( الكلام يجر بعضو ) فقد حدث أن الدكتور عمر يحي ــ وكان مديراً لتحرير مجلة اقرأ ــ قال لي ذات يوم وأنا ازوره في مكتبه : ( اريد ان اكتب عن بابا طاهر غير الذي تكتبه الصحافة عنه الان ــ كانت المناسبة تسلمه جائزة الدولة التقديرية او ربما وفاته ــ ) فقلت للدكتور عمر : ( استمع إلى تسجيل لحفل تكريم بابا طاهر في اثنينية الخوجه . . سوف تجد في صوته الفرح والامل).
استحضرت بابا طاهر مساء أمس الأثنين عند حضوري حفل توقيع الطبعة الثانية لكتاب (حصاد الظلام) لمؤلفه الكاتب الأستاذ محمد توفيق بلو في مقهى ( ديجون ) بكورنيش جدة، ومحمد توفيق بلو هو ابن سميرة ابنة الشاعر الكبير طاهر زمخشري الذي أثر كثيرا في حياة ابن ابنته حيث كان يرعاه واخوته بعد ممات والدهم يرحمه الله.
شعرت بنفس الروح الجميلة لبابا طاهر وانا اتحدث مع الأستاذ محمد توفيق بلو واستعيد معه لقائي التلفزيوني به قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما في شبكة راديو وتلفزيون العرب ــ وكان حينها قد وصل إلى المرحلة قبل النهائية لفقد بصره تماما ــ . . لقد زرع الأستاذ طاهر زمخشري الأمل والتفاؤل في نفس ابن ابنته الذي فقد بصره بسبب مرض وراثي فحول مصيبته إلى نجاح يشار إليه بالبنان خاصة وهو يحتل اليوم مكانة مرموقة ومؤثرة في مجتمع كفيفي البصر، حتى سخرية بابا طاهر انتقلت لمحمد توفيق . . فعندما حرصت على توقيعه على نسخة الكتاب قال: ( تصدق . . هذه أول مرة اشوف الكتاب بعد أن كتبته ).
كتاب ( حصاد الظلام ) اشتمل على خمسة فصول وكل فصل به عدة أبواب يروي من خلالها المؤلف قصة واقعية مثيرة ــ كما يقول الناشر ــ عن تجربته مع فقدان البصر أثناء عمله مضيفا جويا، وانعكاسات ذلك على حياته الأسرية والمهنية، التي قادته لطرح فكرة نالت على اثرها الخطوط السعودية إحدى أهم جوائزها العالمية، ويروي كذلك رحلاته إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي قادته لطرح رؤية عالمية للتعامل مع الإعاقة البصرية .
الكتاب يقع في (355) صفحة وصدر عن دار سيبوهيه للطباعة والنشر والتوزيع ويقول المؤلف في مقدمة الكتاب: (وقد يمر الإنسان ببعض المحن حين يفقد إحدى حواسه، فالعاقل من يأخذ من محنته وشدته دافعا لنجاحه وتفوقه بكل صدق وواقعية، ليكون ما حدث له حافزا لكل من نزلت به نازلة، كي يقاوم ما ألم به من محن في حياته اليومية، وهذا ما اوصلني إلى أن قدمت لعالم خدمة الطيران والمعوقين بصريا أفكارا وبرامج تعتبر فريدة من نوعها.
أخي الأستاذ محمد توفيق بلو ابارك لك صدور الطبعة الثانية من هذا الكتاب واقدر كثيراً كل مجهوداتك وقدراتك . . لكني أظل معجبا جدا بتفاؤلك وهذا الأمل الذي ارجو أن يكون قائدنا في هذه الحياة لتحقيق كل إنجاز.
جدة / الثلاثاء 19 نوفمبر 2019م ــ 22 ربيع الأول 1441هـ))
رابط المقال على صحيفة غرب الإخبارية
الرابط المختصر لهذا المقال:
كاتب ومؤلف، ومهتم بتدوين سيرة الأديب طاهر زمخشري وأعماله، خبير في مجال خدمات الإعاقة البصرية، أمين عام جمعية إبصار سابقًا، ومدرب مضيفين سابق في الخطوط السعودية.